
قوله تعالى: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا... ﴾ الآية. لما حذر المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق أشار إلى ما يلزم استدراكاً لما يفوت فقال: فإن اتفق أنكم تبنون على قوله من يوقع بينكم من الأمر المُفْضِي إلى اقتتال طائتفين من المؤمنين ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي﴾ أي الظالم يجب عليكم دفعه ثم إن الظالم إن كانو عو الرعية فالواجب على الأمير دفعهم وإن كان هو الأمير فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها وشرطه أن لا يُثيرَ فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما.
فصل
الضمير في قوله: «اقْتَتَلُوا» عائد أفراد الطائفتين كقوله (تعالى) :{هذان صفحة رقم 537

خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: ١٩] والضمير في قوله: «بينهما» عائد على اللفظ.
وقرأ ابن أبي عبلة: اقْتَتَلَتَا مراعياً للَّفْظِ. وزيد بن علي وعُبَيْدُ بْنُ عَمْرو اقتَتَلا أيضاً إلا أنه ذكر الفعل باعتبار الفريقين، أو لأنه تأنيث مجازي.
فصل
روى أنس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لَوْ أتَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أبيّ (ابْنِ سَلُول) فانطلق إليه رسول الله صلى الله عليه سولم وركب حماراً (وانطلق المسلمون يمشون معه) وهو بأرض سَبِخَةٍ، فلما أتاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إِلَيْكَ عَنِّي وَالله لَقَدْ نَتَنُ حِمَارِكَ فقال رجل من الأنصار منهم: واللهِ لَحِمَارُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فَتَشَاتَمَا فعضب لكل واحد منهم أصحابهُ، فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال فنزلت: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ فقرأها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض. وقال قتادة: نزل في رجلين من الأنصار كان بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر: لآخُذَنَّ حقِّي منك عَنْوةً لكثرة عشيرته وإن الآخر دعاء ليُحَاكِمَهُ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضم بعضاً بالأيدي والنعال و (وإننْ) لم يكن قتال بالسيوف. وقال سفيان عن السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى عُلِّيّة وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه فاقْتَتَلُوا بالأيْدي والنِّعال فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرِّضا بما فيه لهُمَا وَعَليهِمَا.
فصل
قوله: «وَإنْ طَائِفَتَانِ (من المؤمنين) ِإشارة إلى نُدْرَةُ وقُوع الاقتتال بين طوئف المسلمين.
فإن قيل: نحن نرى أكثر الاقتتال في طوائفهم؟
فالجواب: أن قوله تعالى: ﴿إنْ﴾ إشارة إلى أنه لا ينبغي أن لا يقع إلا نادراً، صفحة رقم 538

غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي كذلك: «إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنَبأٍ» إشارة إلى أنَّ مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن لا يقع إلا قليلاً مع أن مجيء الفاسق كثيرٌ، وذلك لأن قول الفاسق صار عند أول الأمر أشدَّ قبولاً من قول الصادق الصالح، وقال: «وَإنْ طَائِفَتَانِ» ولم يقل: «فِرْقَتَان» تحقيقاً للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل، لأن الطائفة دون الفرقة، قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ [التوبة: ١٢٢].
فصل
قال: من المؤمنين ولم يقل: منكم مع أن الخطاب مع المؤمنين سبق في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ [الحجرات: ٦] تنبيهاً على قبح ذلك وتبعيداً لهم عنه، كقول السيد لعبده: إنْ رأيتَ أحداً مِنْ غِلمَاني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعاً للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن كأنه يقول: أنت حاشاك أنْ تفعل ذلك وإن فعل غعيرك فامْنَعْهُ، كذلك ههنا.
فصل
قال: وإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ولم يقل: فإن اقْتَتَلَ طائفتان من المؤمنين مع أن كلمة «إن» اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال فيتأكد معنى النكرة، والمدلول عليها بكلمة إنْ، وذلك لأن كونهما طائتفين (مؤمنتين) يقتضي أن لا يقع القتال بينهما.
فإن قيل: فِلَم لَمْ يقل: يا أيها الذين آمنوا إن فاسقٌ «جَاءَكُمْ» أو إن أحدٌ من الفسّاق جاءكم ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه وهو كونه فاسقاً؟ أو يزداد بسببه فسقه بالمجيء به بسبب الفسق؟
فالجواب: أن الاقتتال لا يقع سبباً للإيمان ولا للزيادة فقال: إنْ جَاءَكُمْ فاسقٌ أي سواء كان فاسقاً أولاً أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقاً به. ولو قال: إنْ أَحَدٌ من الفُسَّاقِ جاءكم لا يتناول إلا مشهور الفِسْقِ قب المجيء إذا جاءهم بالنَّبَأِ.
فصل
قوله تعالى: ﴿أقْتَتَلُوا﴾ ولم يقل يَقْتَتِلُوا (بصيغة الاستقبال} ؛ لأن صيغة الاستقبال صفحة رقم 539

تنبىء عن الدوام والاستمرار عن الدوام والاستمرار فيفهم من أن طائفتين من المؤمنين إنْ تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك، يقال: فُلاَنٌ يَتَهَدَّدُ وَيَصُومُ.
فصل
قال: «اقْتَتَلُوا» ولم يقل: اقْتَتَلاَ وقال: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا» ولم يقل: بَيْنَهُمْ لأن الفتنة قائمة عند الاقتتال، وكل أحد برأسِهِ يكون فاعلا فعللاً فقال: اقْتَتَلُوا وعند الصلح تتفق كلمةُ كُلِّ طائفة وإلا لم يتحقق (الصلح) فقال: «بَيْنَهُمَا» لكون الطائفتين حينئذ كَنَفْسَيْنِ.
قوله: ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى﴾ وأَنبت الإجابة إلى حكم كتاب الله. وقيل: إلى طاعة الرسول وأولي الأمر. وقيل: إلى الصُّلْحِ.
كقوله تعالى: ﴿وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: ١] وقيل: إلى التقوى، لأن من خاف الله لا يبقى له عدو إلا الشيطان، لقوله: ﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً﴾ [فاطر: ٦].
فإن قيل: كيف يصح في هذا الموضع كلمة «إنْ» من أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه وبغي أحدهما عند الاقتتال متحقق الوقوع فيكون مثل قوله القائد: إنْ طَلَعْتْ الشَّمْسُ؟
فالجواب: أن فيه معنى لطيفاً وهو أن الله تعالى يقول: الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع لأن كل طائفة تظن أن الأخرى فئة الكفر والفساد كما يتحقق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل طائفة أن القتال جائز باجتهاد
خطأ، فقال تعالى: الاقتتال لا يقع إلى كذا فإن بَانَ لَهُمَا أو لأحدهما الخطأ واستمرّ عليه فهو نادر وعند ذلك يكون قد بغى فقال: «فَإنْ بَغَتْ» يعني بعد انكشاف الأمْر، وهذا يفيد النُّدْرة وقِلَّةَ الوقوع.
فإنْ قيل: لم قال: فإنْ بَغَتْ ولم يقل: فَإن تَبْغِ؟
فالجواب: ما تقدم في قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَتَلُوا «ولم يقل: يَقْتَتلُوا.
قوله:» حَتَّى تَفِيء «العَامة على همزة من فَاء يَفِيءُ أي رَجَعَ كجَاء يَجِيءُ.
والزهري: بياء مفتوحة كمضارع وَفَا وهذا على لغة من يقصر فيقال:» جاَ، يَجِي « صفحة رقم 540

دون همز؛ وحينئذ فتح الياء لأنها صارت حرف الإعراب.
فصل
المعنى حتى تفيء إلى أمر الله في كتابه وهذا إشارة إلى أن القتال جزاء الباغي كحدِّ الشرب الذي يُقَامُ وإن ترك الشرب بل القتال إلى حدّ الفيئة، فإن فاءت الفئةُ الباغيةُ حَرُم قتالهُم. وهذا يدل على جواز قتال الصَّائِل، لأن القتال لما كان للفيئة فإذا حصلت لم يوجد المعنى الذي لأجله القتال. وفيه دليل أيضاً على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بفعل الكبيرة؛ لأن الباغي من أحدى الطَّائِفَتَيْنِ وسماهما مؤمنين.
قوله:» فَإِنْ فَاءَاتْ «أي رَجَعَتْ إلى الحَقِّ.
فإن قيل: قد تقدم أن» إنْ «تدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن البغي من المؤمن نادرٌ فإذن تكون الفئةُ متوقعةً فيكف قال:» فَإنْ فَاءَتْ «؟
فالجواب: هذا كقول القائل لعبده: ن مُتّ فَأَنْتَ حُرٌّ، مع أن الموت لا بدّ من وقوعه لكن لما كان وقوعه بحيث لا يكون العبد مَحَلاًّ للعِتْق بأن يكون باقياً في ملكه حياً يعيش بعد وفاته غير معلوم. فكذلك ههنا لما كان المتوقَّع فيئتهم من تلقاء أنفسهم لما لم يقع دل على تأكيد الأمْر بينهم فقال تعالى: ﴿فَإنْ فَاءتْ﴾ أي بعد اشتداد الأمر والتحام القتال فَأَصْلِحُوا، وفيه إشارة إلى أنَّ من لم يَخفِ الله وبغى يكون رجوعه بعيداً.
قوله: ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل﴾ بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله» وَأَقْسِطُوا «اعِدْلُوا ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾.
فإن قيل: لم قال ههنا: ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل﴾ ولم يذكر العدل في قوله: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ ؟
فالجواب: أن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة وبالتهديد والزجر والتعذيب والإصلاح ههنا بإزالة آثار الاقتتال بعد ارتفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال: «بالْعَدْلِ» فكأنه قال: فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأَصْلِحُوا بالْعَدْلش فيما يكون بينهما لئلا يؤدي إلى ثَوَرَان الفتنة بينهما مرة أخرى.
فإن قيل: لما قال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بالعدل فأيةُ فائدة في قوله: وَأَقْسِطُوا؟
فالجواب: أنّ قوله: «فَأَصْلحُوا بَيْنَهُمَا» كأن فيه تخصيصاً بحال الاقتتال فعمَّ صفحة رقم 541

الأمر بالعدل وقال: وأقصدوا أي في (كل) أمر فإنه مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله والإقساط أزالة وهو الجَوْر والقَاسِطِّ هو الجَائِرُ.
قوله: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ أي في الدين، والولاية. وقال بعض أهل اللغة: الإخوة جمع الأَخ، من النَّسب والإخْوَانُ جمع الأخ من الصَّداقة، والله تعالى قال: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ تأكيداً للأمْر وإشارة إلى أن مابين الإخووة من الإسلام والنسب لهم كالأب. قال قائلهم (رحمةُ الله عليه) :
٤٥٠٢ - أَبي الإسْلاَمُ لاَ أَبَ لِي سِوَاهُ | إذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَو تَمِيمِ |
فصل
المعنى: فاتقوا الله ولا تَعْصُوا ولا تُخَالفوا أمره «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «المُسْلِمُ أَخُوا الْمُسْلِم لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَشْتُمُه مَنْ كَانَ فِي حَاجَة أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بَها كُرْبَةً مِنْ كُرَب يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».
فإن قيل: عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل: اتَّقُوا وقال هَهُننَا اتَّقوا مع أنَّ ذلك أهم؟
فالجواب: أنّ الاقتتال بين طائفتين يُفضي إلى أنْ تَعُمَّ المفسدة ويلحق كل من مؤمن منها صفحة رقم 542

شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى وأما عند تخاصم رَجُلَيْن لا يخاف الناس ذلك وربما يريد بعضهم تأكيد الخِصَام بين الخصوم ولغرض فاسد، فقال: ﴿فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله﴾ أو يقال: قوله: وأصْلِحُوا إشارة الإصلاح، وقوله: «وَاتَّقُوا اللهَ» إشارة ما يصيبهم عن المُشَاجَرَة، وإيذاء قلب الأخ؛ لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهٍ»
فالمسلم يكون مقبلاً على عبادة الله مشتغلاً بعَيْبِه عن عيوب الناس.
فصل
في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوةً مؤمنين مع كونه باغين، ويدل عليه ما روى الحارُ الأعور أن عليَّ بْنَ أبي طالب سُئِلَ وهو القدوةُ ف يقتال أهل البغي عن أهل الجمل وصِفِّين أمشركون هُمْ؟ فقال: لا؛ من الشرك فروا فقيل: أمُنَافِقُونَ؟ فقال: (لا) إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً.
قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بَغَوْا علينا والباغِي في الشرع هو الخارج على إمام العدل، فإذا اجتمعت طائفةٌ لهم قوة وَمَنَعَةٌ فامتنعوا عن طاعة إمام العدل بتأويل محتمل ونصِّبُوا إماماً بالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم إلى طاعته فإن أظهروا مظلمةً أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمةً وأصروا على بغيهم قاتلهم الإمام حتى يَفِيئُوا إلى طاعته. وحكم قتالهم مذكور في كتب الفقه.
فصل
«إنَّمَا» للحصر أي الأخوة الآتين من المؤمنين. فلا أُخُوَّةَ بين المؤمن والكافر ولهذا إذَا مات المسلم وله أخر كافر يكون مالُه للمسلمين، ولا يكون لأخ الكافر، وكذلك الكافر، لأن في النسب المعتبر الأب الشرعي حتى إنَّ وَلَدَي الزّنا من ولدِ رجلٍ واحد لا يتوارثان، فكذلك الكفر لأن الجَامع الفاسد لا يفيد الأخُوّة ولهذا من مات من الكفار وله أخٌ مسلم ولا واثَ له من النسب لا يجعل ماله للكفار، ولو كان الدّين يجمعهم يرثه الكفار وما المسلم للمسلمين عند عدم الوارث.
فإن قيل: إذا ثبت أن أُخوَة الإسْلاَم أقوى منْ أُخُوّة النسب بدليل أنَّ المسلم يَرِثُه المسلمون إذا لم يكن له أخوة نسبيّة ولا يرث الأَخُ الكافر من النسب فِلمَ لا يقدمون صفحة رقم 543

الأخوة الإسلامية على الأخوة النَّسَبِيَّة مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوة النسب؟
فالجواب: أن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أُخُوَّتان فصار أَقْوَى.
فصل
قال النحاة ههنا: إنَّ «مَا» كافَّة تكف إنَّ عن العمل، ولولا ذلك لقيل: إنَّمَا الْمُؤْمِنِينَ إخوَةٌ وفي قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] وقوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ [المؤمنين: ٤٠] ليست كافة. قال ابن الخطيب والسؤال الأقوى: هو أن رُبَّ من حرفو الجر و «الباء» و «عن» كذلك. و «ما» في «رُبَّ» كافّة، في «عما» و «بما» ليست كافة. والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد «رُبَّمَا» و «إِنَّما» يكون تاماً ويمكن جعله مستقلاً، ولو حذفت «ربّما وإنَّما» لم يضرَّ تقول: ربَّمَا قَامَ الأَمِيرُ، ورُبَّمَا زَيْدٌ في الدَّارِ. ولو حذف «رُبَّمَا» وقلت: زَيْدٌ فِي الدَّار وقام الأمير لصحَّ، وكذلك في «إنَّما» و «لَكِنَّما» وأما «عَمَّا» و «بما» فليس كذلك، لأن قوله تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] لو حذفت «بما» وقلت: رَحْمةٌ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، لما كان كلاماً، فالباء تُعَدّ متعلقة بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقه وكذلك «عَمَّا»، وأما «رٌبَّمَا» لما استغنى عنها، فكأنها لم تبق حكماً، ولا عَمَلَ للمعدوم.
فإن قيل: إنَّ «إذَا» لم تُكَفَّ بِمَا فما بعده كلام تام فوجب أن لا يكون له عمل. تقول: إنَّ زَيْداً قَائِمٌ ولو قلت: زيدٌ قائمٌ لَكَفَى وَتمَّ!
نقول: ليس كذلك لأن ما بعد إنَّ يجوز أَنْ يكون نكرة تقول: إنَّ رَجُلاً جَاءَنِي وأَخْبَرَنِي بكذا. وتقول جَاءَنِي رَجٌلٌ وأَخْبَرَنِي. ولا يحسن: إنَّما رَجٌلٌ جَاءني كما لو لم يكن هناك إنما. وكذلك القول في لَيْتَمَا لو حذفتهما واقتصرْت على ما بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف. وتقدم الكلام في «لعلّ» مِرَاراً. صفحة رقم 544