آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ

[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٣]

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ مَنْ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ يُرِيدُ إِكْرَامَ نَفْسِهِ وَاحْتِرَامَ شَخْصِهِ، فَقَالَ تَعَالَى تَرْكُ هَذَا الِاحْتِرَامِ يَحْصُلُ بِهِ حَقِيقَةُ الِاحْتِرَامِ، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنْ هَذَا الْإِكْرَامِ يَكْمُلُ الْإِكْرَامُ، لِأَنَّ به تتبين تقواكم، وإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ١٣] وَمِنَ الْقَبِيحِ أَنْ يَدْخُلَ الْإِنْسَانُ حَمَّامًا فَيَتَخَيَّرُ لِنَفْسِهِ فِيهِ مَنْصِبًا وَيُفَوِّتُ بِسَبَبِهِ مَنْصِبَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَيُعَظِّمُ نَفْسَهُ فِي الْخَلَاءِ وَالْمُسْتَرَاحِ وَبِسَبَبِهِ يَهُونُ فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: امْتَحَنَهَا لِيَعْلَمَ مِنْهَا التَّقْوَى فَإِنَّ مَنْ يُعَظِّمُ وَاحِدًا مِنْ أَبْنَاءِ جنسه لكونه رسول مرسل يَكُونُ تَعْظِيمُهُ لِلْمُرْسِلِ أَعْظَمَ وَخَوْفُهُ مِنْهُ أَقْوَى، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الْحَجِّ: ٣٢] أَيْ تَعْظِيمُ أَوَامِرِ اللَّهِ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ فَكَذَلِكَ تَعْظِيمُ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ تَقْوَاهُ الثَّانِي: امْتَحَنَ أَيْ عَلِمَ وَعَرَفَ، لِأَنَّ الِامْتِحَانَ تَعَرُّفُ الشَّيْءِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنَاهُ، وَعَلَى هَذَا فَاللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ عَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ صَالِحَةً، أَيْ كَائِنَةً لِلتَّقْوَى، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَنْتَ لِكَذَا أَيْ صَالِحٌ أَوْ كَائِنٌ الثَّالِثُ: امْتَحَنَ: أَيْ أَخْلَصَ يُقَالُ لِلذَّهَبِ مُمْتَحَنٌ، أَيْ مُخْلَصٌ فِي النَّارِ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مَذْكُورَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ امْتَحَنَهَا لِلتَّقْوَى اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا يَجْرِي مَجْرَى بَيَانِ السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: جِئْتُكَ لِإِكْرَامِكَ لِي أَمْسِ، أَيْ صَارَ ذَلِكَ الْإِكْرَامُ السَّابِقُ سَبَبَ الْمَجِيءِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا يَجْرِي مَجْرَى بَيَانِ غَايَةِ المقصود المتوقع الذي يكون لا حقا لَا سَابِقًا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ جِئْتُكَ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تَقْوَاهُ، وَامْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، وَلَوْلَا أَنَّ قُلُوبَهُمْ كَانَتْ مَمْلُوءَةً مِنَ التَّقْوَى لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَعْظِيمِ رَسُولِهِ وَتَقْدِيمِ نَبِيِّهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، بَلْ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ آمِنُوا بِرَسُولِي وَلَا تُؤْذُوهُ وَلَا تُكَذِّبُوهُ، فَإِنَّ الْكَافِرَ أَوَّلَ مَا يُؤْمِنُ يُؤْمِنُ بِالِاعْتِرَافِ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا، وَبَيْنَ مَنْ قِيلَ لَهُ لَا تَسْتَهْزِئْ بِرَسُولِ اللَّهِ وَلَا تُكَذِّبْهُ وَلَا تُؤْذِهِ، وَبَيْنَ مَنْ قِيلَ لَهُ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عِنْدَهُ وَلَا تَجْعَلْ لِنَفْسِكَ وَزْنًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا تَجْهَرْ بِكَلَامِكَ الصَّادِقِ بَيْنَ يَدَيْهِ، بَوْنٌ عَظِيمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بِقَدْرِ تَقْدِيمِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَفْسِكَ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ تَقْدِيمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِيَّاكَ فِي الْعُقْبَى، فَإِنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ مَا لَمْ يُدْخِلِ اللَّهُ أُمَّتَهُ الْمُتَّقِينَ الْجَنَّةَ، فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ بِالتَّقْوَى، أَيْ لِيَرْزُقَهُمُ اللَّهُ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ حَقُّ التُّقَاةِ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَخْشَى مَعَ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَدًا فَتَرَاهُ آمِنًا مِنْ كُلِّ مُخِيفٍ لَا يَخَافُ/ فِي الدُّنْيَا بَخْسًا، وَلَا يَخَافُ فِي الْآخِرَةِ نَحْسًا، وَالنَّاظِرُ الْعَاقِلُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ بِالْخَوْفِ مِنَ السُّلْطَانِ يَأْمَنُ جَوْرَ الْغِلْمَانِ، وَبِتَجَنُّبِ الْأَرَاذِلِ يَنْجُو مِنْ بَأْسِ السُّلْطَانِ فَيَجْعَلُ خَوْفَ السُّلْطَانِ جُنَّةً فَكَذَلِكَ الْعَالِمُ لَوْ أَمْعَنَ النَّظَرَ لَعَلِمَ أَنَّ بِخَشْيَةِ اللَّهِ النَّجَاةَ فِي الدَّارَيْنِ وَبِالْخَوْفِ مِنْ غَيْرِهِ الْهَلَاكَ فِيهِمَا فَيَجْعَلُ خَشْيَةَ اللَّهِ جُنَّتَهُ الَّتِي يُحِسُّ بِهَا نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ إِزَالَةُ السَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ فِي الدُّنْيَا لَازِمَةٌ لِلنَّفْسِ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَيَاةِ الَّتِي

صفحة رقم 95
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية