آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ

لِأَنَّ الْمُنْتَقل من سيّىء إِلَى أَسْوَأَ لَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ آخِذٌ فِي التَّمَلِّي مِنَ السُّوءِ بِحُكْمِ التَّعَوُّدِ بِالشَّيْءِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى تَغْمُرَهُ الْمَعَاصِي وَرُبَّمَا كَانَ آخِرُهَا الْكُفْرَ حِينَ تَضْرَى النَّفْسُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ حَبْطُ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى حُصُولَ حَطِيطَةٍ فِي أَعْمَالِهِمْ بِغَلَبَةِ عِظَمِ ذَنْبِ جَهْرِهِمْ لَهُ بِالْقَوْلِ، وَهَذَا مُجْمَلٌ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الْحَبْطِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
فَفِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ تَنْبِيهٌ إِلَى مَزِيدِ الْحَذَرِ مِنْ هَذِهِ الْمُهْلِكَاتِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ دُرْبَةً حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ، وَلَيْسَ عَدَمُ الشُّعُورِ كَائِنًا فِي إِتْيَانِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ صَاحِبُهُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لِامْتِنَاعِ تَكْلِيفِ الغافل وَنَحْوه.
[٣]
[سُورَة الحجرات (٤٩) : آيَة ٣]
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: ٢] كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ، أَيْ مُصَاحِبِ السِّرِّ مِنَ الْكَلَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الْآيَةَ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ التَّحْذِيرَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ [الحجرات: ٢] إِلَخْ يُثِيرُ فِي النَّفْسِ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ ضِدِّ حَالِ الَّذِي يَرْفَعُ صَوْتَهُ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَجَزَاءِ عَمَلِهِمْ،
وَتُفِيدُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلَ النَّهْيَيْنِ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَنْ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا وَأَكَّدَ هَذَا الِاهْتِمَامَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى مَعَ مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصْفِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَإِذْ قَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ مُحَصِّلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ وَقَوْلِهِ: وَلا تَجْهَرُوا [الحجرات: ٢] الْأَمْرُ بِخَفْضِ الصَّوْتِ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّضِحُ لَكَ وَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ نَوْطِ

صفحة رقم 222

الثَّنَاءِ هُنَا بِعَدَمِ رَفْعِ الصَّوْتِ وَعَدَمِ الْجَهْرِ عِنْد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَوْطِهِ بِغَضِّ الصَّوْتِ عِنْدَهُ.
وَالْغَضُّ حَقِيقَتُهُ: خَفْضُ الْعَيْنِ، أَيْ أَنْ لَا يُحَدِّقَ بِهَا إِلَى الشَّخْصِ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِخَفْضِ الصَّوْتِ وَالْمِيلِ بِهِ إِلَى الْإِسْرَارِ.
وَالِامْتِحَانُ: الِاخْتِبَارُ وَالتَّجْرِبَةُ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ مَحَنَهُ، إِذَا اخْتَبَرَهُ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِمْ: اضْطَرَّهُ إِلَى كَذَا.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلتَّقْوَى لَامُ الْعِلَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: امْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ لِأَجْلِ التَّقْوَى، أَيْ لِتَكُونَ فِيهَا التَّقْوَى، أَيْ لِيَكُونُوا أَتْقِيَاءَ، يُقَالُ: امْتُحِنَ فُلَانٌ لِلشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ كَمَا يُقَالُ:
جُرِّبَ لِلشَّيْءِ وَدُرِّبَ لِلنُّهُوضِ بِالْأَمْرِ، أَيْ فَهُوَ مُضْطَلِعٌ بِهِ لَيْسَ بِوَانٍ عَنْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الِامْتِحَانَ كِنَايَةً عَلَى تَمَكُّنِ التَّقْوَى مِنْ قُلُوبِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَيْهَا بِحَيْثُ لَا يُوجِدُونَ فِي حَالٍ مَا غَيْرَ مُتَّقِينَ وَهِيَ كِنَايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ لِكَوْنِ الِانْتِقَالِ بَعْدَهُ لَوَازِمُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِعْلُ امْتَحَنَ مَجَازًا مُرْسَلًا عَنِ الْعِلْمِ، أَيْ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ مُتَّقُونَ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ اللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ:
لِلتَّقْوى مُتَعَلِّقَةً بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنْ قُلُوبٍ، أَيْ كَائِنَةً لِلتَّقْوَى، فَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ.
وَجُمْلَةُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ خَبَرُ إِنَّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنِفَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» خَبَرَ إِنَّ هُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مَعَ خَبَرِهِ وَجَعَلَ جُمْلَةَ لَهُمْ مُسْتَأْنَفَةً وَلِكُلٍّ وَجْهٌ فَانْظُرْهُ.
وَقَالَ: «وَهَذِهِ الْآيَةُ بِنَظْمِهَا الَّذِي رُتِّبَتْ عَلَيْهِ مِنْ إِيقَاعِ الْغَاضِّينَ أَصْوَاتَهُمُ اسْمًا لِ إِنَّ الْمُؤَكِّدَةِ وَتَصْيِيرُ خَبَرِهَا جُمْلَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ مَعْرِفَتَيْنِ مَعًا. وَالْمُبْتَدَأُ اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَاسْتِئْنَافُ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَوْدَعَةِ مَا هُوَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى عَمَلِهِمْ، وَإِيرَادُ الْجَزَاءِ نَكِرَةً مُبْهَمًا أَمْرُهُ نَاظِرَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى غَايَةِ الِاعْتِدَادِ وَالِارْتِضَاءِ لِمَا فَعَلَ الَّذِينَ وَقَّرُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي
الْإِعْلَامِ بِمَبْلَغِ عِزَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَقَدْرِ شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ»
اهـ. وَهَذَا الْوَعْدُ وَالثَّنَاءُ يَشْمَلَانِ ابْتِدَاءَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ إِذْ كَانَ كِلَاهُمَا يُكَلِّمُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَخِي السّرار.

صفحة رقم 223
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية