
فَزِيدَ فِي صِفَات النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَالِكَ وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي الْآيَةِ هَذِهِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ إِبْطَالِ شَكِّ الَّذِينَ شَكُّوا فِي أَمْرِ الصُّلْحِ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِوَعْدِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ اطْمَأَنُّوا لِذَلِكَ فَاقْتُصِرَ مِنْ أَوْصَاف النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَصْفِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ شَاهَدٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَكَوْنِهِ مُبَشِّرًا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَنَذِيرًا لِلْآخَرِ، بِخِلَافِ آيَةِ الْأَحْزَابِ فَإِنَّهَا وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ تَنْزِيه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَطَاعِنِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي تَزَوُّجِهِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا زَوْجَةُ ابْنِهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُزَادَ فِي صِفَاتِهِ مَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّمْحِيصِ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمَا هُوَ مِنَ الْأَوْهَامِ النَّاشِئَةِ عَنْ مَزَاعِمَ كَاذِبَةٍ مِثْلَ التَّبَنِّي، فَزِيدَ كَوْنُهُ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، أَيْ لَا يَتَّبِعُ مَزَاعِمَ النَّاسِ وَرَغَبَاتِهِمْ وَأَنَّهُ سِرَاجٌ مُنِيرٌ يَهْتَدِي بِهِ مَنْ هِمَّتُهُ فِي الِاهْتِدَاءِ دُونَ التَّقْعِيرِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بن العَاصِي فِي صِفَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «التَّوْرَاةِ» فَارْجِع إِلَيْهِ.
[١٠]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)
شُرُوعٌ فِي الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَأَكَّدَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يُبايِعُونَكَ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْمُبَايَعَةِ الْجَلِيلَةِ لِتَكُونَ كَأَنَّهَا حَاصِلَةٌ فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّهَا قَدِ انْقَضَتْ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨].
وَالْحَصْرُ الْمُفَادُ مِنْ إِنَّما حَصْرُ الْفِعْلِ فِي مَفْعُولِهِ، أَيْ لَا يُبَايِعُونَ إِلَّا اللَّهَ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِادِّعَاءِ أَنَّ غَايَةَ الْبَيْعَةِ وَغَرَضَهَا هُوَ النَّصْرُ لِدِينِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَنَزَلَ الْغَرَضُ مَنْزِلَةَ الْوَسِيلَةِ فَادَّعَى أَنَّهُمْ بَايَعُوا اللَّهَ لَا الرَّسُولَ.

وَحَيْثُ كَانَ الْحَصْرُ تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» :«لَمْ أَجْعَلْ (إِنَّ) الَّتِي فِي مُفْتَتَحِ الْجُمْلَةِ لِلتَّأْكِيدِ لِحُصُولِ التَّأْكِيدِ بِغَيْرِهَا فَجَعَلْتُهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ غَرَضَانِ».
وَانْتَقَلَ مِنْ هَذَا الِادِّعَاءِ إِلَى تَخَيُّلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَايِعُهُ الْمُبَايِعُونَ فَأُثْبِتَتْ لَهُ الْيَدُ الَّتِي هِيَ مِنْ رَوَادِفِ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ على وَجه التخييلية مِثْلَ إِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ.
وَقَدْ هُيِّأَتْ صِيغَةُ الْمُبَايَعَةِ لِأَنْ تُذْكَرَ بَعْدَهَا الْأَيْدِي لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ يُقَارِنُهَا وَضْعُ الْمُبَايِعِ يَدَهُ فِي يَدِ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
حَتَّى وَضَعَتْ يَمِينِي لَا أُنَازِعُهُ | فِي كَفِّ ذِي يَسَرَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ |
فَجُمْلَةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ الْمُفِيدَةِ أَنَّ بيعتهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ، هِيَ بَيْعَةٌ مِنْهُمْ لِلَّهِ فِي الْوَاقِعِ فَقَرَّرَتْهُ جُمْلَةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وَأَكَّدَتْهُ وَلِذَلِكَ جُرِّدَتْ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَجُعِلَتِ الْيَدُ الْمُتَخَيَّلَةُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ: إِمَّا لِأَنَّ إِضَافَتَهَا إِلَى اللَّهِ تَقْتَضِي تَشْرِيفَهَا بِالرِّفْعَةِ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ كَمَا وُصِفَتْ فِي الْمُعْطِي بِالْعُلْيَا
فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ الْآخِذَةُ»
، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ كَانَتْ بِأَنْ يَمُدَّ الْمُبَايِعُ كَفَّهُ أَمَامَ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ وَيَضَعَ هَذَا الْمُبَايِعُ يَدَهُ عَلَى يَدِ الْمُبَايَعِ، فَالْوَصْفُ بِالْفَوْقِيَّةِ مِنْ تَمَامِ التَّخْيِيلِيَّةِ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا
فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ كَانَ عُمَرُ آخِذًا بِيَدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَيْ كَانَ عُمَرُ يَضَعُ يَدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيْدِي النَّاسِ كَيْلَا يَتْعَبَ بِتَحْرِيكِهَا لِكَثْرَةِ الْمُبَايِعِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تُوضَعُ عَلَى يَدِ الْمُبَايِعِينَ. وَأَيًّا مَا كَانَ
فَذِكْرُ الْفَوْقِيَّةِ هُنَا تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ وَإِغْرَاقٌ فِي التَّخَيُّلِ.
وَالْمُبَايَعَةُ أَصْلُهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَيْعِ فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ لِأَنَّ كِلَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَائِعٌ، وَنُقِلَتْ صفحة رقم 158

إِلَى مَعْنَى الْعَهْدِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالنُّصْرَةِ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الممتحنة: ١٢] الْآيَةَ وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَهْدِ عَلَى النُّصْرَةِ وَالطَّاعَةِ. وَهِيَ الْبَيْعَةُ الَّتِي بَايَعَهَا الْمُسلمُونَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ تَحْتَ شَجَرَةٍ مِنَ السَّمُرِ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَوْ أَكْثَرَ، وَعَنْهُ: أَنَّهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى كَانُوا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَأَوَّلُ مَنْ بَايع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَبُو سِنَانٍ الْأَسَدِيُّ. وَتُسَمَّى بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الْفَتْح: ١٨].
وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ لِيُفَاوِضَهُمْ فِي شَأْنِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الِاعْتِمَارِ بِالْبَيْتِ فَأُرْجِفَ بِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ فعزم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِهِمْ لِذَلِكَ وَدَعَا مَنْ مَعَهُ إِلَى الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعُوا حَتَّى يُنَاجِزُوا الْقَوْمَ، فَكَانَ
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَايَعُوهُ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: بَايَعْنَاهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ هَذَيْنِ لِأَنَّ عَدَمَ الْفِرَارِ يَقْتَضِي الثَّبَاتَ إِلَى الْمَوْتِ. وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْبَيْعَةِ إِلَّا عُثْمَان إِذا كَانَ غَائِبًا بِمَكَّةَ لِلتَّفَاوُضِ فِي شَأْنِ الْعُمْرَةِ، وَوضع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى وَقَالَ: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَبَايَعَ، وَإِلَّا الْجِدُّ بْنُ قَيْسٍ السُّلَمِيُّ اخْتَفَى وَرَاءَ جَمَلِهِ حَتَّى بَايَعَ النَّاسُ وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَعِيفَ الْعَزْمِ. وَقَالَ لَهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَفُرِّعَ قَوْلُهُ: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَشَفَ كُنْهَ هَذِهِ الْبَيْعَةِ بِأَنَّهَا مُبَايَعَةٌ لِلَّهِ ضَرُورَةَ أَنَّهَا مُبَايَعَةٌ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ صَارَ أَمْرُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ عَظِيمًا خَطِيرًا فِي الْوَفَاءِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّبَايُعُ وَفِي نَكْثِ ذَلِكَ.
وَالنَّكْثُ: كَالنَّقْضِ لِلْحَبْلِ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النَّحْل: ٩٢].