
تأويله: خير الحديث من مِثْل هذه ما كان لا يعرفه كلُّ أحد، إِنما يُعْرََفُ قولها في أنحاء قولها.
قال المفسرون: وَلتَعْرِفَنَّهم في فحوى الكلام ومعناه ومقْصَده، فإنهم يتعرَّضون بتهجين أمرك والاستهزاء بالمسلمين. قال ابن جرير: ثم عرَّفه اللهُ إيّاهم.
قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: وَلنُعامِلَنَّكم معامَلةَ المُخْتَبِر بأن نأمرَكم بالجهاد حَتَّى نَعْلَمَ العِلْم الذي هو عِلْم وجود، وبه يقع الجزاء وقد شرحنا هذا في العنكبوت «١».
قوله تعالى: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي: نُظْهِرها وَنكْشِفها باباء من يأبى القتال ولا يَصْبِر على الجهاد.
وقرأ أبو بكر عن عاصم: «وَليَبْلُوَنَّكم» بالياء «حتى يَعْلَمَ» بالياء «ويبلو» بالياء فيهنّ. وقرأ معاذ القارئ، وأيوب السختياني: «أخياركم» بالياء جمع «خير».
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا... الآية، اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها في المُطْعِمِين يومَ بدر، قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في الحارث بن سويد، ووحوح الأنصاري، أسلما ثم ارتدّا، فتاب الحارث ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبى صاحبه أن يَرْجِع حتى مات، قاله السدي «٢». والثالث: أنها في اليهود، قاله مقاتل. والرابع: أنها في قريظة والنضير، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ اختلفوا في مُبْطِلها على أربعة أقوال: أحدها: المعاصي والكبائر، قاله الحسن. والثاني: الشَّكّ والنِّفاق، قاله عطاء. والثالث: الرِّياء والسُّمعة، قاله ابن السائب. والرابع: بالمَنّ.
(١٢٧٣) وذلك أن قوماً من الأعراب قَدِموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أتيناك طائعين، فلنا عليك حق، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «٣»، هذا قول مقاتل. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدُلُّ على أن كُلُّ مَنْ دخل في قُرْبَة لم يَجُزْ له الخُروج منها قبل إِتمامها، وهذا على ظاهره في الحج، فأما في الصلاة والصيام، فهو على سبيل الاستحباب «٤».
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٨]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
__________
(١) العنكبوت: ٣.
(٢) عزاه المصنف للسدي، وهذا مرسل، فهو واه.
(٣) الحجرات: ١٧.
(٤) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» ٤/ ١٣٣: اختلف العلماء فيمن افتتح نافلة من صوم أو صلاة، ثم أراد تركها، قال الشافعي: له ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: ليس له ذلك لأنه إبطال لعمله الذي انعقد له، وقال الشافعي هو تطوّع فإلزامه إياه يخرجه عن الطواعية. قلنا: إنما يكون ذلك قبل الشروع في الفعل، فإذا شرع لزمه كالشروع في المعاملات. ولا تكون عبادة ببعض ركعة ولا ببعض يوم في صوم، فإذا قطع في بعض الركعة أو في بعض اليوم إن قال: إنه يعتد به فقد ناقض الإجماع، وإن قال: إنه ليس بشيء فقد نقض الإلزام.
وذلك مستقصى في مسائل الخلاف.

قوله تعالى: فَلا تَهِنُوا أي: فلا تَضْعُفوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: «إِلى السَّلْم» بفتح السين وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: بكسر السين، والمعنى: لا تدعوا الكفّار إلى الصّلح ابتداء. وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز طلب الصّلح من المشركين، ودلالة على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يدخل مكة صلحاً، لأنه نهاه عن الصُّلح. قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي: أنتم أعزُّ منهم، والحُجَّة لكم، وآخِرُ الأمر لكم وإِن غَلَبوكم في بعض الأوقات وَاللَّهُ مَعَكُمْ بالعَوْن والنُّصرة وَلَنْ يَتِرَكُمْ قال ابن قتيبة: أي لن يَنْقُصَكم ولن يَظْلِمَكم، يقال: وتَرْتَني حَقِّي، أي: بَخسْتَنِيه. قال المفسرون: المعنى: لن يَنْقُصَكم من ثواب أعمالكم شيئا.
قوله تعالى: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي: لن يَسألَكُموها كُلَّها.
قوله تعالى: فَيُحْفِكُمْ قال الفراء: يُجْهِدكم. وقال ابن قتيبة: يُلِحّ عليكم بما يوجبه في أموالكم تَبْخَلُوا، يقال: أحْفاني بالمسألة وألحْف: إِذا ألحَّ. وقال السدي: إِن يسألْكم جميعَ ما في أيديكم تبخلوا. وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن يعمر: «ويُخْرَج» بياء مرفوعه وفتح الراء «أضغانُكم» بالرفع. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رزين، وعكرمة، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري: «وتَخْرُج» بتاء مفتوحة ورفع الراء «أضغانُكم» بالرفع. وقرأ ابن مسعود، والوليد عن يعقوب: «ونُخْرِج» بنون مرفوعة وكسر الراء «أضغانَكم» بنصب النون، أي: يُظهر بُغضَكم وعداوتَكم لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم ولكنه فرض عليكم يسيراً. وفيمن يضاف إِليه هذا الإخراج وجهان:
أحدهما: إلى الله عزّ وجلّ. والثاني: البخل، حكاهما الفراء. وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وليس بصحيح لأنّا قد بيَّنّا أن معنى الآية: إن يسألْكم جميعَ أموالكم، والزكاة لا تنافي ذلك.
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني ما فرض عليكم في أموالكم فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بما فُرض عليه من الزكاة وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي: على نفسه بما ينفعٌها في الآخرة وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عنكم وعن أموالكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إليه وإلى ما عنده من الخير والرحمة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن طاعته يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أطوعُ له منكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بل خيراً منكم. وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال:
أحدها: أنهم العجم، قاله الحسن، وفيه حديث يرويه أبو هريرة قال:
(١٢٧٤) لمّا نزلت: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ كان سلمان إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،

فقالوا: يا رسول الله، مَنْ هؤلاء الذين إذا تولَّينا استُبْدِِلوا بنا؟ فضرب رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يدَه على مَنْكِب سلمان، فقال: «هذا وقومُه، والذي نفسي بيده! لو أن الدِّين معلَّق بالثُّريَّا لتناوله رجال من فارس».
والثاني: فارس والروم، قاله عكرمة. والثالث: من يشاء من جميع الناس، قاله مجاهد. والرابع:
يأتي بخلق جديد غيركم. وهو معنى قول قتادة. والخامس: كندة والنخع، قاله ابن السائب. والسادس:
أهل اليمن، قاله راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، وشريح بن عبيد. والسابع: الأنصار، قاله مقاتل. والثامن: أنهم الملائكة، حكاه الزجاج وقال: فيه بُعْدٌ لأنه لا يقال للملائكة «قَوْمٌ» إِنما يقال ذلك للآدميين، قال: وقد قيل: إن تولَّى أهلُ مكَّة استَبْدَلَ اللهُ بهم أهلَ المدينة، وهذا معنى ما ذكَرْنا عن مقاتل.
ولفظ البخاري في الرواية ٤٨٩٨ «لناله رجال من هؤلاء». ولفظ البخاري في الرواية ٤٨٩٧ «عن أبي هريرة رضي عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزلت عليه سورة الجمعة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهم قال:
قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال- أو رجل- من هؤلاء». وانظر «فتح القدير» ٢٢٨١ بتخريجنا.