تأكيد الحث على الجهاد بالتزهيد في الدنيا
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
الإعراب:
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا.. يَسْئَلْكُمُوها: فعل يتعدى إلى مفعولين، فالأول «كمو» والثاني: «ها» وفَيُحْفِكُمْ مجزوم بالعطف على يَسْئَلْكُمُوها وتَبْخَلُوا مجزوم، لأنه جواب الشرط، ويُخْرِجْ مجزوم بالعطف على تَبْخَلُوا.
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها: للتنبيه، وأَنْتُمْ: مبتدأ، وهؤُلاءِ: موصول بمعنى الذين: خبر، وصلته: تُدْعَوْنَ أي أنتم الذين تدعون، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، ثم استأنف وصفهم، فقال: تدعون لتنفقوا..
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا معطوف على: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا.
ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ يجوز العطف على جواب الشرط بالواو والفاء وثم بالجزم كما هنا، وبالرفع مثل: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران: ٣/ ١١١].
البلاغة:
الْغَنِيُّ والْفُقَراءُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الاشتغال فيها لَعِبٌ وَلَهْوٌ لا ثبات لها، واللعب: كل ما لا منفعة فيه في المستقبل، ولا يشغل عن مهامّ الأمور، فإن شغل عنها فهو اللهو، ومنه آلات الملاهي،
لأنها تشغل عن غيرها وَتَتَّقُوا اللَّه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ يعطكم ثواب الإيمان والتقوى وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ لا يطلب جميع أموالكم، بل يقتصر على الزكاة المفروضة التي هي جزء يسير، كربع العشر، والعشر.
فَيُحْفِكُمْ يبالغ في الطلب، من الإحفاء والإلحاف: بلوغ الغاية في كل شيء، يقال:
ألحف بالمسألة وأحفى وألح بمعنى واحد، وَيُخْرِجْ البخل أَضْغانَكُمْ أحقادكم أي عداوتكم لدين الإسلام ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم يا مخاطبون، هؤلاء الموصوفون. لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ما فرض عليكم من الزكاة ونفقة الجهاد وغيرها يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ يقال: بخل عليه وعنه وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عن نفقتكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إلى اللَّه وَإِنْ تَتَوَلَّوْا تعرضوا عن طاعته يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يقم مقامكم قوما آخرين أو يجعل بدلكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في التولي عن طاعته وعن الإيمان، بل مطيعين له تعالى.
المناسبة:
بعد أن أمر اللَّه تعالى بالجهاد، ونهى عن الضعف والخور في مواصلة الكفاح وطلب الموادعة والمصالحة مع الأعداء، حث على الجهاد بالنفس والمال والإنفاق في سبيل اللَّه، بتحقير الدنيا في أعين المؤمنين، والترغيب في الإيمان والتقوى، لتعود فائدتها عليهم، وهدد تعالى في ختام السورة بأنه إن أعرضتم عن الإيمان والجهاد والتقوى، يجعل بدلا عنكم قوما آخرين هم أفضل منكم لإقامة دينه، ونصرة دعوته.
التفسير والبيان:
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي احرصوا أيها المؤمنون على جهاد الأعداء، واسترخصوا الحياة الدنيوية واطلبوا الآخرة، فإنما حاصل الدنيا لعب ولهو، أي باطل وغرور، لا ثبات له ولا اعتداد به إلا ما كان منها لله عز وجل، بسلوك سبيله وطلب رضاه وعبادته وطاعته. وفي هذا تحقير لأمر الدنيا وتهوين لشأنها. واللعب: كل ما لا ضرورة فيه في الحال ولا منفعة في المآل، ولم يشغل عن غيره، فإن شغل عن غيره فهو لهو، ومنه آلات الملاهي، لأنها مشغلة عن غيرها.
وقد جاء ذمّ الدنيا والحرص عليها والتمسك بزينتها وإهمال الآخرة في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ، وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ.. الآية [الحديد ٥٧/ ٢٠].
ثم أعاد اللَّه تعالى الوعد بالثواب وتأكيده والترغيب في الآخرة قائلا:
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي إن تؤمنوا بالله ورسوله حق الإيمان، وتتقوا ربّكم حق التقوى بأداء فرائضه واجتناب نواهيه، يؤتكم ثواب أعمالكم وطاعاتكم في الآخرة، ولا يأمركم بإخراج جميع أموالكم في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل أمركم بإخراج القليل منها، والمعنى: أن اللَّه غني عنكم، لا يطلب منكم شيئا، وإنما فرض عليكم صدقات الأموال، مواساة لإخوانكم الفقراء، ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم.
ثم بيّن اللَّه تعالى سبب الحرض على الدنيا، فقال:
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي إن يطلب ربكم أموالكم كلها، فيجهدكم ويلح في الطلب عليكم، تشحوا وتبخلوا، وتمتنعوا من الامتثال، ويظهر عندئذ أحقادكم.
قال قتادة: قد علم اللَّه تعالى أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان. وهذا كما ذكر ابن كثير حق وصدق، فإن المال محبوب إلى النفس، ولا يصرف إلا فيما.
هو أحب إلى الشخص منه.
ثم أبان تعالى ما سلف وأكده بقوله:
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي أنتم أيها المؤمنون المخاطبون مدعوون للإنفاق في سبيل اللَّه، أي في الجهاد والزكاة وفي طريق الخير.
فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ، وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ أي فبعضكم يبخل باليسير من المال ولا يجيب لدعوة الإنفاق، فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال؟ ومن يبخل في الإنفاق، فإنما يمنع نفسه الأجر والثواب ببخله، ويعود وبال ذلك عليه، فإنه بالبخل يتغلب العدو عليكم، فيذهب عزكم وأموالكم، وربما أنفسكم.
واللَّه هو صاحب الغنى المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالكم، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه دائما، لذا قال: وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ أي أنتم أيها العباد الفقراء بالذات إلى اللَّه، وإلى ما عنده من الخير والرحمة، فهو سبحانه لا يأمر بالإنفاق لحاجته، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب.
ثم أبان اللَّه تعالى سنته في الاستبدال بقوم قوما آخرين أفضل منهم إن أعرضوا عن حمل الأمانة، فقال محذرا ومذكرا ومهددا:
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ أي إن تعرضوا عن الإيمان والتقوى وعن طاعة اللَّه واتباع شرعه، يستبدل قوما آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم، أي يكونون سامعين مطيعين لله ولأوامره، وليسوا أمثالكم في التولي عن الإيمان والتقوى، وفي البخل بالإنفاق في سبيل اللَّه.
روى ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق والبيهقي والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلا هذه الآية: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ قالوا: يا رسول اللَّه، من هؤلاء الذين إن تولينا، استبدل بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه، ثم قال: «هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس»
لكن تكلم به بعض الأئمة رحمهم اللَّه، كما قال ابن كثير، وقال الترمذي: حديث غريب في إسناده مقال.
وعن الكلبي والحسن وعكرمة: شرط في الاستبدال توليهم، لكنهم لم يتولوا، فلم يستبدل قوما، وهم العرب أهل اليمن أو العجم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الدنيا دار لعب ولهو ومشاغل وشهوات، فالسعيد من استخدمها للآخرة، ولم ينس نصيبه منها بقدر الحاجة، فمن آمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، واتقى ربه بفعل الفرائض وترك النواهي، ظفر بالثواب العظيم في الآخرة دار الخلد.
٢- المال محبوب الإنسان طبعا، لذا لم يأمر اللَّه لطفا منه ورحمة بإنفاق جميعه في سبيله، كالزكاة والجهاد ووجوه الخير، بل أمر بإخراج البعض من الربح الذي هو من فضل اللَّه وعطائه، لا من رأس المال، ليرجع ثوابه إلى المنفق نفسه، فكانت النسبة تتراوح بين ربع العشر ونصف العشر والعشر فقط، لذا قال تعالى: لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إنما يسألكم أمواله، أي الأرباح التي ييسرها لكم، لأنه المالك لها، وهو المنعم بإعطائها. وقال: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ أي يلح عليكم تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي يخرج البخل أحقادكم.
٣- أكد تعالى لطفه بعباده في التكاليف المالية، فذكر أنه طلب منهم اليسير من أموالهم، فبخلوا، فكيف لو طلب منهم الكل؟!.
٤- من بخل بتقديم شيء من ماله في سبيل اللَّه كالجهاد وطرق الخير، فإنما يبخل على نفسه، فيمنعها الأجر والثواب.
٥- اللَّه هو الغني عن عباده وعن كل ما سواه، فليس بمحتاج إلى أموالهم، ولكن العباد أنفسهم هم الفقراء إلى اللَّه عز وجل، لتحصيل الثواب والفضل
الإلهي، فلا يقولوا: إنا أيضا أغنياء عن القتال وعن معونة الفقراء، فالواقع أنه لا غنى لهم عن ذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فإنه لولا القتال لقتلوا، بغزو الكفار واجتياح بلاد المسلمين، والمحتاج إن لم تدفع حاجته، قصده الغنيّ وأخذ ماله، لا سيما أن الشارع أباح للمضطر ذلك. وأما في الآخرة فالأمر ظاهر حيث يكون كل إنسان فقيرا إلى فضل اللَّه ورحمته، وفي حال الحساب، وهو موقوف مسئول في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
٦- أنذر اللَّه تعالى عباده وحذرهم من إهمال حمل المسؤولية والقيام بأعباء التكاليف، فهم إن أعرضوا عن الإيمان والجهاد والتقوى، استبدل قوما غيرهم يكونون أطوع لله منهم، ثم يكونون أفضل وأمثل وأحسن منهم، وتلك هي سنة اللَّه في خلقه، وليسوا أمثال المستبدل بهم في البخل بالإنفاق في سبيل اللَّه، كما قال الطبري. والأولى العموم، أي لا يكونوا أمثالكم في الوصف، ولا في الجنس، كما ذكر الرازي. وقال الزمخشري: أي يخلق قوما على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما، كقوله تعالى: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر ٣٥/ ١٦].
وقد اختلف المفسرون في تعيين أولئك القوم الجدد، فقيل: هم الملائكة، أو الأنصار، أو التابعون، أو أهل اليمن، أو كندة والنخع، أو العجم، أو فارس والروم. والأولى تفويض ذلك إلى علم اللَّه تعالى.
والخطاب لقريش أو لأهل المدينة، والأولى جعل الخطاب متجددا بتجدد الأجيال والأمم، سواء من كان عند نزول الوحي أم بعد ذلك.
حكي عن أبي موسى الأشعري: أنه لما نزلت هذه الآية، فرح بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: «هي أحب إلي من الدنيا».
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفتحمدنيّة، وهي تسع وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة الفتح لافتتاحها ببشرى الفتح المبين: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً...
أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عبد اللَّه بن مغفّل قال: قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفتح- أي فتح مكة- في مسيره سورة الفتح على راحلته، فرجّع فيها
، قال معاوية بن قرّة: لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا، لحكيت قراءته.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه:
١- إن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال، وقد ورد في الحديث: أنها نزلت مبينة لما يفعل به وبالمؤمنين، بعد إبهامه في قوله تعالى في سورة الأحقاف: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [٩]. وجاء في سورة محمد تعليم المؤمنين كيفية القتال: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ.. [٤] ثم ذكر هنا بيان الثمرة اليانعة لتلك الكيفية وهو النصر والفتح.
٢- في كلتا السورتين (محمد والفتح) بيان أوصاف المؤمنين والمشركين والمنافقين. صفحة رقم 142
٣- في سورة محمد أمر النبي بالاستغفار لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات [الآية ١٩] وافتتحت هذه السورة بذكر حصول المغفرة.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة كسابقتها مدنية، نزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن صلح الحديبية، بعد الانصراف من الحديبية. والسور المدنية كما هو معروف تحدثت عن المنافقين الذين ظهروا في المدينة، وعنيت بشؤون التشريع في الجهاد والعبادات والمعاملات.
بدأت السورة الكريمة ببشارة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالفتح الأعظم وانتشار الإسلام بعد فتح مكة الذي كان صلح الحديبية بين الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وبين المشركين سنة ست من الهجرة بداية طيبة له.
ثم أخبرت بوعد اللَّه المنجز لا محالة للمؤمنين ووعيده للكافرين والمنافقين، وأبانت مهام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشهادة على أمته وعلى الخلق يوم القيامة والتبشير والإنذار، من أجل الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم ونصرته.
وأردفت ذلك بأمرين متميزين: أولهما- الإشادة بأهل بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية، وبيان أن بيعتهم في الحقيقة لله، وتسجيل رضوان اللَّه تعالى عليهم، ووعدهم بالنصر في الدنيا، وبالجنة في الآخرة: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...
والثاني- ذم المنافقين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الحديبية، وكانوا من أعراب المدينة.
وأبانت إعفاء أصحاب الأعذار (الأعمى والأعرج والمريض) من فريضة
الجهاد، واكتفت منهم بطاعة أمر اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذلك مؤذن بدخول الجنة.
وذكّرت بفضل اللَّه تعالى على المؤمنين في إبرام الصلح والكف عن القتال بينهم وبين أهل مكة كفار قريش الذين كفروا وصدوا المؤمنين عن المسجد الحرام، وتأثرهم بحمية الجاهلية من الأنفة والكبر والعصبية، ورفضهم كتابة البسملة في مقدمة الصلح، وكتابة «محمد رسول اللَّه»، وتثبيت المؤمنين على كلمة التقوى وهي طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وقبول شروط الصلح، بالرغم من إجحاف بنوده في الظاهر بحقوق المسلمين.
وتحدثت بعدئذ عن البشرى بتحقق رؤيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم التي رآها في المدينة المنورة أنهم يدخلون المسجد الحرام (مكة) آمنين مطمئنين، وتم ذلك بالفعل في العام المقبل حيث دخل المؤمنون مكة معتمرين: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ...
وختمت السورة بأمور ثلاثة: هي إرسال محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ووصف النبي والمؤمنين بالرحمة فيما بينهم والشدة على الكفار الأعداء، ووعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم.
فضلها:
نزلت هذه السورة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد عودته من الحديبية،
روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ».
وفي رواية: «لقد أنزلت علي الليلة آية أحب إلي مما على الأرض»
وفي رواية مسلم عن أنس «.. أحب إلي من الدنيا جميعها».
أضواء من السيرة على سبب نزول السورة (صلح الحديبية وبيعة الرضوان) :
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد رأى في المنام وهو في المدينة المنورة أنه دخل مكة، وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك، ففرحوا فرحا عظيما.
فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة معتمرا (زائرا البيت الحرام) لا يريد حربا، ومعه ألف وخمس مائة (١٥٠٠) من المهاجرين والأنصار ومسلمي الأعراب، وساق معه الهدي «١»، وأحرم بالعمرة من «ذي الحليفة» وخرج معه من نسائه أم سلمة رضي اللَّه عنها.
ولم يكن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وصحبه غير سلاح المسافر: السيوف في القرب، فبعث عينا له من خزاعة، يخبره عن قريش، فلما أصبح قريبا من «عسفان» - موضع بين مكة والمدينة- على مرحلتين من مكة، أتاه عينه بشر بن سفيان الكعبي قائلا: يا رسول اللَّه، هذه قريش علمت بمسيرك، فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل (النوق ذات اللبن والأولاد) أي عازمين قاصدين طول الإقامة، وقد نزلوا بذي طوى، يحلفون بالله، لا تدخلها عليهم أبدا، وقد جمعوا لك الأحابيش (جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة) وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت.
فأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حينئذ عثمان بن عفان إلى قريش يبلّغهم قصد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأنه لا يريد إلا العمرة، فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن عثمان قد قتل، فدعا المسلمين إلى البيعة، واجتمعوا تحت الشجرة- شجرة الرضوان، فبايعوه على القتال وألا يفروا، وتسمى بيعة الشجرة أو بيعة الرضوان، قال سلمة بن الأكوع رضي
اللَّه عنه: «بايعناه وبايعه الناس على عدم الفرار، وأنه إما الفتح وإما الشهادة». فأرعب ذلك المشركين وأرسلوا داعين إلى الصلح والموادعة، وكان قد أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن الذي بلغه من أمر عثمان كذب.
وقد أنزل اللَّه في هذه البيعة قوله سبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.. [الفتح ٤٨/ ١٨]. وكان هذا الصلح هو الفتح، وبعد رجوعه إلى المدينة فتح اللَّه عليه خيبر، فقسمها على أهل الحديبية لم يشركهم أحد غيرهم، وكانوا ألفا وخمس مائة، منهم ثلاث مائة فارس. وهذا قول سعيد بن المسيب، والمشهور أنهم كانوا أربع عشرة مائة.
ولما علمت قريش بهذا أرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح، فلما رآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقبلا قال: أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، وقال: اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا الكاتب علي بن أبي طالب، وبدأ الاتفاق على بنود المعاهدة، بعد أن رفض سهيل كتابة «بسم اللَّه الرحمن الرحيم»، وكتب «باسمك اللهم» ورفض أيضا وصف محمد بالرسالة، فكتب: «محمد بن عبد اللَّه».
وتم الصلح على أن يكف الفريقان عن الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، دون قتال ولا اعتداء، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه، رده عليهم، ومن جاء قريشا من أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يردوه عليه، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فسارعت خزاعة، فدخلت في عقد محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وحالفته، وتواثبت بنو بكر، فدخلوا في عهد قريش وعقدهم.
وعلى المسلمين الرجوع عن مكة هذا العام، وإذا كان العام القادم خرجت
قريش من مكة، ودخلها المسلمون ثلاثة أيام، معهم سلاح الراكب، السيوف في القرب.
وقد اعترض بعض كبار المسلمين مثل عمر بن الخطاب على الصلح، لعدم تكافؤ شروطه، وإجحافه بالمسلمين، ولكنه كان في الحقيقة نصرا كبيرا، لأن قريشا اعترفوا بمكانة المسلمين، وتمت الهدنة التي استراح فيها المسلمون عن الحروب والمعارك التي شغلتهم وأضعفتهم، وتمكن المسلمون من القيام بدعوة الإسلام في ظل الأمن والسلام، ودخل في الإسلام كثير من العرب.
فكان ذلك فتحا مبينا، أو تمهيدا لفتح مكة، قال الزهري: «فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه..» فقد كان عدد المسلمين وقت الصلح ألفا وخمس مائة أو أربع مائة، ثم صاروا عام فتح مكة بعد الصلح بسنتين عشرة آلاف، منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. وقال ابن مسعود وجابر والبراء رضي اللَّه عنهم: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
وبعد أن نحر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هديه حيث أحصر ورجع، وبعد انصرافه نزل عليه ليلا وهو في الطريق بين مكة والمدينة هذه السورة.
روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه يقول: لما أقبلنا من الحديبية عرّسنا «١» فنمنا، فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت، فاستيقظنا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نائم، فقلنا: أيقظوه، فاستيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فقال: «افعلوا ما كنتم تفعلون، وكذلك يفعل من نام أو نسي»
أي قضاء الصلاة، قال: وفقدنا ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فطلبناها، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها، فركبها، فبينا نحن نسير، إذ أتاه الوحي، قال: وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه، فلما سرّي عنه أخبرنا أنه أنزل عليه:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.