
مصدر القرآن وإثبات الخالق ووحدانيته
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)
الإعراب:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ تَنْزِيلُ: مبتدأ، وخبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ...
آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (آيات) بالضم: مرفوع بالابتداء، وَفِي خَلْقِكُمْ: خبره، أو بالعطف على موضع إن واسمها وخبرها، أو مرفوع بالظرف. ومن قرأ بالكسر: جعله منصوبا بالعطف على لفظ اسم إِنَّ، أو بالعطف بالجر على السَّماواتِ أو منصوب على البدل من آياتٌ الأولى. وكذا قوله وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يقرأ بالكسر وبالضم بالأوجه السابقة.
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ متعلق ب «نتلو» ونَتْلُوها: حال، عاملها معنى الإشارة.
البلاغة:
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ فيها تأكيد ب إِنَّ واللام للرد على المخاطبين منكري وحدانية اللَّه.
وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ أي مطر، مجاز مرسل علاقته المسببية، لأن المطر النازل من السماء هو سبب الرزق والنبات، أما الرزق فلا ينزل من السماء. صفحة رقم 249

المفردات اللغوية:
حم هذه الحروف للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى أهمية ما يتلى بعدها تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ أي تنزيل القرآن من اللَّه تعالى الْعَزِيزِ القوي الغالب في ملكه الْحَكِيمِ في صنعه، لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة للعباد.
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن في خلق السموات والأرض، بدليل قوله وَفِي خَلْقِكُمْ لَآياتٍ لدلائل دالة على قدرة اللَّه ووحدانيته تعالى لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم الذين ينتفعون بهذه الدلائل وَفِي خَلْقِكُمْ أي في خلق كل واحد منكم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة إلى أن يصبح إنسانا وَما يَبُثُّ أي وخلق ما ينشر ويفرق في الأرض مِنْ دابَّةٍ هي ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم يُوقِنُونَ يصدقون عن يقين وإذعان بقدرة اللَّه على البعث وغيره.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي وفي تعاقبهما مِنْ رِزْقٍ مطر يكون سبب الرزق تَصْرِيفِ الرِّياحِ تقليبها وتحويلها جنوبا وشمالا، حارة وباردة يَعْقِلُونَ يفكرون ويتدبرون الدليل، فيؤمنون تِلْكَ الآيات المذكورة آياتُ اللَّهِ حججه ودلائله الدالة على وحدانيته نَتْلُوها نقصها بِالْحَقِّ أي متلازمة ملتبسة بالحق الواضح الذي لا غموض فيه ولا التباس فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ أي بعد حديث اللَّه وهو القرآن، وتقديم اسم اللَّه للمبالغة والتعظيم، كقول اللَّه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر ٣٩/ ٢٣] وَآياتِهِ حججه يُؤْمِنُونَ يصدقون، وهم كفار مكة، وقرئ «تؤمنون».
قال الصاوي على الجلالين: ذكر اللَّه سبحانه وتعالى من الدلائل ستة في ثلاث آيات، ختم الأولى ب لِلْمُؤْمِنِينَ والثانية ب يُوقِنُونَ والثالثة ب يَعْقِلُونَ ووجه التغاير بينها في التعبير: أن الإنسان إذا تأمل في السموات والأرض، وأنه لا بد لهما من صانع آمن، وإذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد إيمانا فأيقن، وإذا نظر في سائر الحوادث كمل عقله واستحكم علمه. وهذا مأخوذ من كلام الزمخشري «١».
وقال البيضاوي: لعل اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة والظهور.
التفسير والبيان:
حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ حم: تقدم شرحها

إن هذا القرآن منزل من عند اللَّه القوي الغالب الذي لا يقهر، الحكيم في كل شيء بتدبيره ووضعه في المكان المناسب له، وتحقيقه المصلحة لعباده. ويقتضي إثبات هاتين الصفتين للَّه عز وجل: كونه قادرا على جميع الممكنات، عالما بجميع المعلومات، غنيا عن كل الحاجات، فلا يصدر منه العبث والباطل.
ثم ذكر اللَّه تعالى ما تقتضيه العزة والحكمة، فقال:
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن في خلق السموات وخلق الأرض لدلائل قاطعة على وجوده ووحدانيته وقدرته العظيمة، وهذا دليل من الكون، ثم ذكر تعالى دليلا من الأنفس، فقال:
وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي وإن في خلقكم دون وجود سابق، ومروركم في أطوار مختلفة من الخلق، من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، إلى أن يصير الواحد منكم إنسانا كامل الذات والصفات البشرية، وفي خلق ما يفرق وينشر من دابة في نواحي الأرض المختلفة، وأقاليمها المتفاوتة حرارة وبرودة واعتدالا، وأراضيها الرطبة والجافة، وأنواع حيواناتها الإنسية والوحشية، البرية والبحرية والجوية، آيات ودلائل أخرى شديدة الوضوح، تدل على قدرة الصانع العظيم وحكمته، التي يعتبر بها أهل اليقين، الذين آمنوا ثم قبلوا الحق، ثم ازدادوا إيمانا وأذعنوا ورسخ الإيمان في قلوبهم كالجبال الثوابت، فأيقنوا يقينا تاما لا يخالطه أي شك.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي وإن في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما، وتفاوتهما في الطول والقصر، والحرارة والبرودة، والضياء والظلمة، وفيما أنزل اللَّه من السحاب من مطر يكون سببا لرزق العباد وإحياء الأرض بإخراج النبات، وفي تقليب الرياح وتغييرها من

جهة إلى جهة، ومن حال إلى حال، مرة من الجنوب ومرة من الشمال، وتارة تكون حارّة، وتارة تكون باردة، وأحيانا نافعة، وأحيانا ضارة، كل ذلك أيضا لأدلة عظيمة وحجج باهرة دالة على وجود اللَّه ووحدانيته وقدرته، التي ينتفع بها عادة أهل العقول الراجحة، المتأملون بها، الفاهمون لحقائقها، ولا ينتفع بها أهل الجهل والعناد.
وهكذا يترقى المتأملون في تلك الآيات من إثبات أصل الإيمان في قلوبهم، إلى اليقين، إلى اكتمال العقل والنظر، وهو ترقّ من حال إلى ما هو أعلى منها، وهذه سمة المؤمنين الكمّل الذين استخدموا طاقاتهم الفكرية والنظرية للوصول إلى أسمى الغايات وأمثل الحالات.
وهذه الآيات شبيهة بقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ، وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة ٢/ ١٦٤].
ثم أوجز اللَّه تعالى العبرة من تلك الآيات بقوله:
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي هذه الآيات المذكورة هي حجج اللَّه وبراهينه وبيناته نتلوها عليك أيها النبي متضمنة الحق المبين، ونحن محقون صادقون فيما ننزله عليك من القرآن المتلو، ليستفيد منها البشر قاطبة، فإذا كانوا لا يؤمنون بها، ولا ينقادون لها، فبأي حديث أو كلام بعد حديث اللَّه وكلامه وآياته وهو القرآن يؤمنون ويصدقون؟! وعبّر ب تِلْكَ إشارة إلى علو مرتبة الآيات.
والخلاصة: من لم يؤمن بكلام اللَّه فلن يؤمن بحديث بعده.

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كون مصدر القرآن الكريم هو اللَّه عز وجل، وليس له أي مصدر آخر سواه.
٢- إثبات وجود اللَّه تعالى ووحدانيته وقدرته بأدلة ستة في ثلاث آيات:
الدليل الأول من الكون- خلق السموات والأرض فهو يدل على وجود الإله- كما ذكر الرازي من ستة وجوه «١» :
أولا- أنها أجسام حادثة، وكل حادث له محدث.
ثانيا- أنها مركبة من أجزاء متماثلة في مواضع متفاوتة عمقا وسطحا، مما يدل على أن وقوع كل جزء في موضعه لا بد له من مرجح ومخصص.
ثالثا- أن الأفلاك والعناصر مع تماثلها في ماهيتها الجسمية اختص كل واحد منها بصفة معينة كالحرارة والبرودة، واللطافة والكثافة الفلكية والعنصرية، وذلك لا بد له من مرجح.
رابعا- أن أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مثل كمودة زحل، وبياض المشتري، وحمرة المريخ، والضوء الباهر للشمس، ودرية الزهرة، وصفرة عطارد، ونور القمر ومحوه، واختلافها في تلك الصفات دليل على أن الإله القادر المختار هو الذي خصص كل واحد منها بصفته المعينة.
خامسا- أن كل فلك مختص بحركة إلى جهة معينة، ومختص بمقدار واحد من السرعة والبطء، وذلك دليل على مخصص فاعل مختار وهو اللَّه وحده.

سادسا- أن كل فلك مختص بمهمة معينة، فلا بد من مخصص فاعل مختار.
الدليل الثاني والثالث من الأنفس- وهما خلق الإنسان والدواب بتركيب عضوي عجيب، وخواص وطاقات مادية ومعنوية مذهلة، يدلنا ذلك على أن هناك خالقا مبدعا لتلك الأنفس وهو اللَّه تعالى.
الدليل الرابع والخامس والسادس من الظواهر الكونية- وهي تعاقب الليل والنهار بنحو دائم وتفاوتهما، وإنزال الأمطار والثلوج لإحياء الأرض بالنبات وتغذية الينابيع والأنهار، وتقليب الرياح وتغييرها، كل ذلك دليل واضح على وجود اللَّه القادر القاهر، الحكيم الصنع، البديع الخلق والإتقان.
٣- هذه آيات اللَّه، أي حججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وقدرته، أنزلها اللَّه في قرآنه بيانا متلوا إلى يوم القيامة، مشتملا على الحق الذي لا ريب فيه، والصدق الذي لا باطل ولا كذب فيه، فإذا لم يؤمن الناس بها، ولم يصدقوا بالقرآن وآياته البينات، فلن يجدوا سواها طريقا للإيمان وتصحيح العقيدة.
ولقد قال اللَّه تعالى في هذه الآيات عبارات ثلاثا أولها يُؤْمِنُونَ وثانيها يُوقِنُونَ وثالثها يَعْقِلُونَ والمقصود بها كما قال الرازي: إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين بل أنتم من طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين، فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.
أو أن الآيات النفسية تحتاج إلى الإيقان، لقربها من الإنسان، وأما الآيات الخارجية الفلكية فيكفي فيها التصديق لبعدها عن الإنسان، وأما العلوية فتحتاج إلى النظر والاستدلال.