
يقتص من الظالم في الحياة الأخرى لما كان خلقه السموات والأرض بالحق، وعلى ذلك فمعنى الآية: خلق الله السموات والأرض لإظهار الحق ولتجزى كل نفس بما كسبت، وهم لا يظلمون، فالمقصود من خلق السموات والأرض وما فيهما إظهار العدل والرحمة وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث، وكان يوم القيامة الذي يفصل فيه بين المحق والمبطل.
بعض سيئاتهم وجزاؤهم عليها يوم القيامة [سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢٣ الى ٣٥]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢)
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥)

المفردات:
هَواهُ: ما تهواه نفسه وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ: وضع عليه الخاتم غِشاوَةً: غطاء حتى لا يبصر الدَّهْرُ: اسم لمدة وجود العالم من يوم مبدئه إلى انقضائه، ويطلق على كل مدة كثيرة، والزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة جاثِيَةً: مستوفزة، والمستوفز: الذي لا تصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله يَنْطِقُ: يشهد ويبين نَسْتَنْسِخُ: نجعلها تنسخ وتكتب وَبَدا:
ظهر وَحاقَ: أحاط بهم وحل هُزُواً: مهزوءا بها يُسْتَعْتَبُونَ: يطلب منهم العتبى.
المعنى:
انظر أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله على علم منه، وختم على سمعه وقلبه حتى لا تصل إليه موعظة، وجعل على بصره غشاوة تمنعه من الإبصار أفرأيت من هذه حاله أيهتدى «١» ؟!!

والمعنى: أخبرنى عن حال من اتخذ إلهه هواه، أى: ترك متابعة الهدى وطاوع النفس والهوى حتى كأنه يعبده!! فهذه حال تدعو إلى العجب، وكان الحارث بن قيس لا يهوى شيئا إلا ركبه، والعبرة من الآية بعموم لفظها.
والنفس الإنسانية دائما تدعو إلى الشر، وتهدف إلى الضار، والإنسان يهوى ما فيه حتفه، ولهذا ذم القرآن دائما اتباع الهوى في غير موضع وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ [سورة الأعراف آية ١٧٦]. بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [سورة الروم آية ٢٩].
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به».
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وطار وراء ما تهواه نفسه، وقد خلقه الله ضالا عالما أنه من أهلها، ولا يصلح لغيرها، وختم على سمعه وقلبه فلم يعد يدخلهما نور من الوعظ والإرشاد، وجعل ربك على بصره غشاوة مانعة من الاعتبار ورؤية الآيات.. أفرأيت هذا الموصوف بتلك الصفات الأربع! فمن يهديه من بعد إضلال الله له؟ لا أحد يقدر على ذلك.
أعميتم فلا تتعظون بهذا؟ وتعلمون الخير في الابتعاد عن الهوى والرجوع إلى طريق الهدى، وهذا يقتضى من الله التوفيق والهداية، وفتح السمع والقلب وتنوير البصائر حتى يمتلئ القلب بنور الحق، والله هو الهادي إلى سواء السبيل، وهو نعم المولى ونعم النصير.
وانظر إلى بعض معتقداتهم الفاسدة حيث قالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط ولا حياة بعدها، ونحن نحيا فيها ونموت، ويحييا بغضنا ويموت البعض الآخر، وليس موتنا من طريق الخالق يتوفى أرواحنا بسبب ملك الموت، بل ما يهلكنا إلا الدهر فقط، فإذا طال عمرنا، وضعفت قوانا ماتت أجسادنا وحدها وصرنا إلى فناء ليس بعده حياة، وما لهم بذلك من علم يقيني، إن هم إلا يظنون ظنا لا أساس له من حجة ولا سند له من دليل، وكان المشركون أصنافا منهم من يشك في البعث، ومنهم من يجزم بعدم وجوده، وانظر إليهم، إذا تتلى عليهم آياتنا الناطقة بالحق والصادرة من رب الخلق، حالة كونها بينات واضحات تدل دلالة واضحة على قدرة الله على البعث وإحياء الموتى

كما خلقهم، ما كان لهم من شبهة- وقد سماها حجة لتمسكهم بها- هي في الواقع أوهى من بيت العنكبوت، إلا أن قالوا: ائتوا بآبائنا الذين ماتوا حتى نسألهم عما تقولون، ائتو بهم إن كنتم يا أتباع محمد صادقين.
وقد رد الله عليهم بقوله: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ووجه الرد أنهم مقرون بأن الله أحياهم أولا ثم يميتهم ثانيا كما دلل على ذلك بالحجج والبراهين في غير هذا الموضع، ومن قدر على جمعهم يوم القيامة وخاصة بعد ما ثبت أن مبدأ الثواب والعقاب أمر ضروري توجيه الحكمة والعدالة الإلهية، وهذا اليوم لا ريب فيه في الواقع، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وكيف يستبعدون البعث أو يشكون فيه؟ ولله ملك السموات والأرض وحده لا شريك له يحيى ويميت، ويبدئ ويعيد. ذو العرش المجيد، فعال لما يريد، ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون منازلهم في جنات النعيم ليتمتع بها أصحابها المستحقون لها من المؤمنين.
وترى يا من يتأتى منه الرؤية كل أمة باركة على الركب مستوفزة على هيئة المذنب الخائف المنتظر جزاءه، كل أمة تدعى إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة الكرام البررة، والتي أحصوا بها الأعمال، والمراد أن لكل فرد من أمة صحيفة.
اليوم تجزون جزاء ما كنتم تعملون، ويقال لهم: هذا كتابنا ينطق عليكم نطقا بالحق الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، ونطق الكتاب معناه شهادته عليهم بما عملوا لأنا كنا نأمر الملائكة ونطلب إليهم أن تنسخ الكتب وتكتب بالحق محصية أعمالكم بلا زيادة ولا نقصان.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى يدخلهم فيها ربهم، ذلك هو الفوز المبين الذي لا فوز وراءه.
وأما الذين كفروا فيقال لهم تأنيبا وتوبيخا: ألم تكن تأتيكم رسلكم؟ أفلم تكن آيات ربكم تتلى عليكم؟ فاستكبرتم عن الإيمان بها وكنتم قوما مجرمين فالآن ادخلوا جهنم جزاء لكم ومصيرا، وإذا قيل لهم: إن وعد الله حق، وإن الساعة آتية لا ريب فيها، قلتم: نحن ما ندري ما الساعة؟ لا نظن إلا ظنا، وما نحن بمستيقنين إمكان