
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)تفسير المفردات
الاجتراح: الاكتساب، ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدى، والمراد بالسيئات: سيئات الكفر والإشراك بالله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الفارق بين الكافرين والمؤمنين فى الولاية، فأبان أن الأولين بعضهم أولياء بعض، وأن الآخرين وليهم الله- أردف ذلك ذكر الفارق بينهم فى المحيا والممات، فالمحسنون مرحومون فى الحالين، ومجترحو السيئات مرحومون فى الدنيا فحسب، ثم ذكر الدليل على هذا بأن الله ما خلق الخلق إلا بالحق المقتضى للعدل والانتصاف للمظلوم من الظالم، والتفاوت بين المحسن والمسيء فى الجزاء، وإذا لم يكن هذا فى المحيا كان فى دار الجزاء حتما، لتجزى كل نفس بما كسبت، فلا تظلم بنقص ثواب أو بمضاعفة عقاب.
ثم عجّب سبحانه ممن ركب رأسه واتبع هواه وترك الهدى وأضله الله وهو العليم باستعداده وخبث طويته، وأنه ممن يميل إلى تدسية نفسه واجتراح الآثام والمعاصي، صفحة رقم 153

فهو ممن ختم الله على سمعه وقلبه، فلا يتأثر بعظة، ولا يفكر فى آية، وجعل على بصره غشاوة مانعة من الاستبصار والاعتبار، فمن بعد الله يهديه؟ أفلا تتذكرون وتتفكرون فى هذا؟
روى الكلبي فى تفسيره أن عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا لعلى وحمزة وجمع من المؤمنين: ولله ما أنتم على شىء، ولو كان ما تقولونه حقا، لكان حالنا أفضل من حالكم فى الآخرة كما هو أفضل فى الدنيا، فنزلت الآية «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ»
إلخ.
الإيضاح
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ)
أي أيظن هؤلاء الذين اكتسبوا الإثم والمعاصي فى الدنيا، فكفروا بالله وكذبوا الرسل، وخالفوا أمره، وعبدوا غيره، أن نجعلهم كالذين آمنوا به وصدقوا رسله، فنساوى بينهم فى دار الدنيا وفى الآخرة- كلا لا يستوون فى شىء منهما، فإن أهل السعادة فى عز الإيمان والطاعة وشرفهما فى المحيا، وفى رحمة الله ورضوانه فى الممات، وأهل الشقاء فى ذلك الكفر والمعاصي وهوانهما فى المحيا، وفى لعنة الله والعذاب الخالد فى الممات، فشتان ما بينهما وما أبعد ما بين الثريا والثرى.
ونحو الآية قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» وقوله: «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» (ساءَ ما يَحْكُمُونَ)
أي ساء ما ظنوا وبعد أن نساوى بين الأبرار والفجار فى الدار الآخرة وفى هذه الدار.
وفى الآية إرشاد إلى تباين حالى المؤمن العاصي والمؤمن الطائع.
وقد أثر عن كثير من الناسكين المخبتين لربهم أنهم كانوا يبكون عند تلاوة هذه الآية حتى سموها مبكاة العابدين.

أخرج عبد الله بن أحمد فى زوائد الزهد والطبراني وجماعة عن أبى الضحى قال:
قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ»
الآية لم يزل يكررها ويبكى حتى أصبح وهو عند المقام.
وأخرج ابن أبى شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلى فمرّ بهذه الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ)
فلم يزل يردّدها حتى أصبح.
وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعرى من أي الفريقين أنت؟.
ثم أقام الدليل على عدم التساوي وأبان حكمة ذلك فقال:
(وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي لم يخلق الله السموات والأرض للجور والظلم، بل خلقهما للحق والعدل، ومن العدل أن يخالف بين المحسن والمسيء فى العاجل والآجل.
(وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وليثيب كل عامل بما هو له أهل، فلا يبخس المحسن ثواب إحسانه، أو يحمل عليه جرم غيره فيعاقبه به، أو يجعل للمسىء ثواب إحسان غيره.
والخلاصة- كل عامل يجزى بما كسبت يداه، ولا يظلم بنقص ثواب، ولا بتضعيف عقاب.
ثم بين أحوال الكافرين وذكر جناياتهم على أنفسهم فقال:
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ؟) أي انظر واعجب من حال من ركب رأسه، وترك الهدى، وأطاع الهوى، فكأنه جعله إلها يعبده من دون الله، فهو لا يهوى شيئا إلا فعله، لا يخاف ربا ولا يخشى عقابا، ولا يفكر فى عاقبة ما يعمل.
وفى هذا إيماء إلى ذم اتباع هوى النفس، ومن ثم قال وهب بن منبّه: إذا شككت فى خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته. وقال سهل التّسترى: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك، وقال الإشبيلى الزاهد:

فخالف هواها واعصها إنّ من يطع | هوى نفسه ينزع به شرّ منزع |
ومن يطع النفس اللجوجة تزده | وترم به فى مصرع أىّ مصرع |
وخالف النفس والشيطان واعصهما | وإن هما محّضاك النصح فاتّهم |
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به»
وقال أبو أمامة: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى»
وروى شدّاد بن أوس عن النبي صلّى الله عليه وسلم «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله»
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متّبعا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة»
وعنه أنه قال «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، فالمهلكات شحّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات خشية الله فى السر والعلن، والقصد فى الغنى والفقر، والعدل فى الرضا والغضب».
وحسبك ذمّا لاتباع الهوى قوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى».
(وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ) أي خذله فلم يجعله يسلك سبيل الرشاد، لأنه قد علم أنه لا يهتدى ولو جاءته كل آية، لما فى جوهر نفسه من الميل إلى ارتكاب الإجرام، واتباع الشهوات، فهو يوغل فى القبائح دون زاجر ولا وازع. صفحة رقم 156

(وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) أي وقد طبع على سمعه، فلا يتأثر بالآيات تتلى عليه ليعتبر بها، ولا يتدبرها ليعقل ما فيها من النور والهدى.
(وَقَلْبِهِ) أي وختم على قلبه، فلا يعى حقّا، ولا يسترشد إلى صواب.
(وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) تمنعه أن يبصر حجج الله وآياته فى الآفاق والأنفس، فيستدل بها على وحدانيته ويعلم بها أن لا إله غيره.
قال مقاتل: نزلت فى أبى جهل. ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد ابن المغيرة، فتحدثا فى شأن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إنى لأعلم أنه صادق، فقال له مه، وما دلك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس كنا نسميه فى صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن، والله إنى لأعلم أنه صادق، قال فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عنى بنات قريش أنى اتبعت يتيم أبى طالب من أجل كسرة، واللات والعزّى إن اتبعته أبدا فنزلت «وختم على سمعه وقلبه».
ونحو الآية قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».
ثم ذكر أن مثل هذا لا أمل فى هدايته فقال:
(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي فمن يوفقه لإصابة الحق، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه، أي لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك، أفلا تتذكرون أيها القوم فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا، فلن يهتدى أبدا، ولن يجد لنفسه وليا ولا مرشدا.