
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)والمراد بإسرائيل: يعقوب- عليه السلام- وببنيه: ذريته من بعده. والمراد بالكتاب:
التوراة- أو جنس الكتاب فيشمل التوراة والإنجيل والزبور.
أى: والله لقد أعطينا بنى إسرائيل الْكِتابَ ليكون هداية لهم، وآتيناهم- أيضا- الْحُكْمَ أى: الفقه والفهم للأحكام حتى يتمكنوا من القضاء بين الناس، وأعطيناهم كذلك النُّبُوَّةَ بأن جعلنا عددا كبيرا من الأنبياء فيهم ومنهم.
وهكذا منحهم- سبحانه- نعما عظمى تتعلق بدينهم، أما النعم التي تتعلق بدنياهم فقد بينها- سبحانه- في قوله: وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أى: ورزقناهم من المطاعم والمشارب الطيبات التي جعلناها حلالا لهم.
وقوله: وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ بيان لنعمة أخرى. وللمفسرين في معنى هذه الجملة اتجاهان: أحدهما: أن المقصود بها فضلناهم على العالمين بأمور معينة حيث جعلنا عددا من الأنبياء منهم، وأنزلنا المن والسلوى عليهم.
قال الآلوسى: قوله: وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم من فلق البحر، وإضلال الغمام، ونظائرهما، فالمراد تفضيلهم على العالمين مطلقا من بعض صفحة رقم 153

الوجوه، لا من كلها، ولا من جهة المرتبة والثواب فلا ينافي ذلك تفضيل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم من وجه آخر، ومن جهة المرتبة والثواب «١».
والثاني: أن المقصود بها: فضلناهم على عالمي زمانهم.
قال الإمام الرازي، ما ملخصه: فإن قيل إن تفضيلهم على العالمين، يقتضى تفضيلهم على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا باطل، فكيف الجواب؟
قلنا: الجواب من وجوه أقربها إلى الصواب أن المراد: فضلتكم على عالمي زمانكم، وذلك لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود، لم يكن من جملة العالمين حال عدمه، وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لم تكن موجودة في ذلك الوقت، فلا يلزم من كون بنى إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت، أنهم أفضل من الأمة الإسلامية. «٢».
وقال الشيخ الشنقيطى ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ.
ذكر- سبحانه- في هذه الآية أنه فضل بنى إسرائيل على العالمين، كما ذكر ذلك في آيات أخرى.. ولكن الله- تعالى- بين أن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم خير من بنى إسرائيل، وأكرم على الله، كما صرح بذلك في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
فخير صيغة تفضيل، والآية نص صريح في أنهم خير من جميع الأمم، بنى إسرائيل وغيرهم.
ويؤيد ذلك من حديث معاوية بن حيدة القشيري، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في أمته: أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله، وقد رواه عنه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وهو حديث مشهور.
واعلم أن ما ذكرنا من كون الأمة الإسلامية أفضل من بنى إسرائيل وغيرهم، لا يعارض ما ورد من آيات في تفضيل بنى إسرائيل.
لأن ذلك التفضيل الوارد في بنى إسرائيل، ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم والمعدوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل على غيره، أو يفضل غيره عليه.
ولكنه- تعالى- بعد وجود الأمة الإسلامية صرح بأنها خير الأمم، فثبت أن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بنى إسرائيل، إنما يراد به ذكر أحوال سابقة «٣».
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٣٥٥.
(٣) راجع تفسير أضواء البيان ج ٧ ص ٢٥١. [.....]

وهذا الاتجاه الثاني هو الذي نرجحه، لأن المقصود بالآية الكريمة وأمثالها تذكير بنى إسرائيل المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم بنعم الله عليهم وعلى آبائهم، حتى يشكروه عليها.
ومن مظاهر هذا الشكر- بل على رأسه- إيمانهم بما جاءهم به النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ولكن بنى إسرائيل لم يقابلوا تلك النعم بالشكر، بل قابلوها بالجحود والحسد للنبي صلّى الله عليه وسلّم على ما آتاه الله- تعالى- من فضله، فكانت نتيجة ذلك أن لعنهم الله وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
ولقد سبق أن قلنا عند تفسيرنا لقوله- تعالى- في سورة البقرة: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ.
والعبرة التي نستخلصها من هذه الآية وأمثالها: أن الله- تعالى- فضل بنى إسرائيل على غيرهم من الأمم السابقة على الأمة الإسلامية، ومنحهم الكثير من النعم ولكنهم لم يقابلوا ذلك بالشكر.. فسلب الله عنهم ما حباهم به من نعم. ووصفهم في كتابه بنقض العهد، وقسوة القلب.
وهذا مصير كل أمة بدلت نعمة الله كفرا، لأن الميزان عند الله للتقوى والفعل الصالح، وليس للجنس أو اللون أو النسب «١».
ثم بين- سبحانه- نعمة أخرى من النعم التي أنعم بها على بنى إسرائيل فقال:
وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ والبينات جمع بينة، وهي الدليل الواضح الصريح.
ومِنَ بمعنى في.
أى: وأعطيناهم- فضلا عن كل ما سبق- دلائل واضحة، وشرائع بينة تتعلق بأمر دينهم، بأن فصلنا لهم الحلال والحرام، والحسن والقبيح، والحق والباطل، فصاروا بذلك على علم تام بشريعتهم، بحيث لا يخفى عليهم شيء مما اشتملت عليه من أوامر أو نواه، أو حلال أو حرام.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة أن الله- تعالى- قد أعطاهم شريعة واضحة لا غموض فيها ولا التباس، ولا عوج فيها ولا انحراف.
بل إن شريعتهم قد أخبرتهم عن طريق رسلهم بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وبوجوب إيمانهم به عند ظهوره، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ

أَحْمَدُ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ «١».
ثم بين- سبحانه- الموقف القبيح الذي وقفه بنو إسرائيل من نعم الله عليهم فقال:
فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.
والبغي: تجاوز الحق إلى الباطل في كل شيء. يقال بغت المرأة إذا أتت مالا يحل لها.
وبغى فلان على فلان إذا اعتدى عليه، ومنه قوله- تعالى-: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ.
والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو الأوقات، وقوله: بَغْياً مفعول لأجله.
أى: أن بنى إسرائيل أنعمنا عليهم بتلك النعم الدينية والدنيوية، فما اختلفوا في أمور دينهم التي وضحناها لهم، إلا عن علم لا عن جهل، ولم يكن خلافهم في حال من الأحوال إلا من أجل البغي والحسد فيما بينهم، لا من أجل الوصول إلى الحق.
فأنت ترى أن الجملة الكريمة توبخ بنى إسرائيل توبيخا شديدا، لأنها بينت أن خلافهم لم يكن عن جهل، وإنما كان عن علم، والاختلاف بعد العلم بالحق أقبح وأشنع، وأن اختلافهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق، وإنما كان سببه البغي والحسد.
فهم قد اختلفوا في الحق مع علمهم به، لأن العلم كالمطر، لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا أصحاب النفوس الصافية، والقلوب الواعية..
والنفوس عند ما يستولى عليها الهوى، تحول المقتضى إلى مانع.
ورحم الله الإمام الرازي فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: والمقصود من هذه الجملة، التعجب من أحوالهم، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف. وهاهنا صار مجيء العلم سببا لحصول الاختلاف، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والبغي «٢».
وقوله- تعالى-: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيان لحكم الله العادل فيهم.
أى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- يقضى بين هؤلاء المختلفين يوم القيامة، بقضائه العادل، بأن ينزل بهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ما كانوا يختلفون فيه من أمر الدين، الذي جعل الله أحكامه واضحة لهم، ولا تحتمل الاختلاف أو التنازع.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يتمسك بالدين الذي أوحاه إليه، فقال:
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٤٦٧.

ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها.
والشريعة في الأصل تطلق على المياه والأنهار التي يقصدها الناس للشرب منها، والمراد بها هنا: الدين والملة، لأن الناس يأخذون منهما ما تحيا به أرواحهم، كما يأخذون من المياه والأنهار ما تحيا به أبدانهم.
قال القرطبي: الشريعة في اللغة: المذهب والملة. ويقال لمشرعة الماء- وهي مورد الشاربة- شريعة. ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد. فالشريعة: ما شرع الله لعباده من الدين، والجمع الشرائع والشرائع في الدين المذاهب التي شرعها الله- تعالى- لخلقه «١».
أى: ثم جعلناك- أيها الرسول الكريم- على شريعة ثابتة، وسنة قويمة، وطريقة حميدة، من أمر الدين الذي أوحيناه إليك، فَاتَّبِعْها اتباعا تاما لا انحراف عنه وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ من أهل الكفر والضلال والجهل.
وقد ذكروا أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ارجع إلى دين آبائك، فإنهم كانوا أفضل منك، فنزلت هذه الآية.
وقوله- سبحانه-: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً تعليل للنهى عن اتباع أهوائهم.
أى: إنك- أيها الرسول الكريم- إن اتبعت أهواء هؤلاء الضالين، صرت مستحقا لمؤاخذتنا، ولن يستطيع هؤلاء أو غيرهم، أن يدفع عنك شيئا مما أراده الله- تعالى- بك.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أى: بعضهم نصراء بعض في الدنيا، أما في الآخرة فولايتهم تنقلب إلى عداوة.
وَاللَّهُ- تعالى- هو وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين أنت إمامهم وقدوتهم، فاثبت على شريعتنا التي أوحيناها إليك، لتنال ما أنت أهله من رضانا وعطائنا.
ثم أثنى- سبحانه- على القرآن الكريم الذي أنزله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
والبصائر: جمع بصيرة- وهي للقلب بمنزلة البصر للعين. فهي النور الذي يبصر به القلب هدايته، كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين طريقها.
وقوله: هذا مبتدأ، وبصائر خبره، وجمع الخبر باعتبار ما في القرآن من تعدد الآيات والبراهين.