
تحذيرهم من أن يكونوا كبني إسرائيل وأمرهم باتباع شريعة القرآن [سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٦ الى ٢٢]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢)

المفردات:
وَالْحُكْمَ: الفهم والقضاء شَرِيعَةٍ الشريعة: ما يرده الناس من المياه والأنهار «١» بَصائِرُ: جمع بصيرة، والمراد الدلالة الواضحة والحجة القائمة.
وهذه نعم خاصة بعد النعم العامة تتعلق ببني إسرائيل، ومع ذلك لم يشكروا بل اختلفوا في أمر الدين بعد ما جاء العلم بحقيقة الحال على سبيل البغي والحسد، فكذلك كفار قريش جاءتهم أدلة واضحة قوية ثم أصروا على الكفر وأعرضوا عداوة وحسدا وبعد ذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باتباع الشريعة الغراء ومخالفة من يتبعون أهواءهم.
المعنى:
لقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب الشامل للتوراة والإنجيل والزبور، وآتيناهم الحكمة والفهم السليم، والحكم بين الناس بما أنزل الله، وآتيناهم النبوة فقد كانت النبوة فيهم إلى أن ظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم من نسل إسماعيل. وتلك نعم تتعلق بالدين، وهاك ما يتعلق بالدنيا من النعم: رزقهم ربك رزقا طيبا حلالا لا إثم فيه فأورثهم أموال فرعون وديارهم، ثم أنزل عليهم المن والسلوى، وجعل منهم الملوك والحكام، وفضلهم بهذا على عالمي زمانهم فكانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن عاصرهم.
أتاهم ربك ببينات في أمور دينهم ودنياهم، فكانوا على بصر وبصيرة، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم الذي كان المفروض أن يكون سبب هداية لا سبب اختلاف، وما كان اختلافهم إلا بغيا وحسدا لا لتقصير في الحجة وضعف في البرهان.
فبنو إسرائيل كانوا على بينة من أمر شريعتهم وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فالبشارة به وصفاته كانوا على ذكر منها، وما اختلفوا معه وكفروا به إلا من بعد ما جاءتهم حقائق النبوة الصادقة على يد محمد صلّى الله عليه وسلّم وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «٢» إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة
(٢) - سورة البقرة آية ٨٩.

فيما كانوا فيه يختلفون مع النبي وصحبه، وعلى هذا فصاحب النعم يجب ألا يغير بما عنده من نعم مهما كانت، بل دائما يراقب الله، ويعلم أن ما أوتى من خير فعليه شكره لا كفره.
ولما بين الله- تعالى- إعراض بنى إسرائيل عن الحق لأجل البغي والحسد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعدل عن تلك الطريقة، وأن يتمسك بالحق فقط فقال: ثم جعلناك يا محمد أنت وأمتك على شريعة من الأمر، أى: على طريق واضح، ومنهل عذب ومورد كريم، به تحيا النفوس كما تحيا الأجساد بالماء، فاتبعها فإنها شريعة الحق والعدل والخير في الدنيا والآخرة، إنها شريعة ثابتة مؤيدة بالحجة والبرهان القوى، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، فإنهم لا حجة معهم ولكنها جهالات وأهواء ليست على أساس.
إنهم لن يغنوا عنك من عذاب الله شيئا، ولن يدفعوا عنك ألما، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، أما المسلمون فالله وليهم وهو هاديهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يهدده ربه بأنه لن ينفعه أحد لو انحرف عن الشريعة فما بالنا نحن؟! هذا القرآن بصائر للناس، ففيه دلائل واضحة تبين لهم المعالم وتهديهم إلى الخير بمنزلة البصائر في القلوب التي تنير الطريق لصاحبها، وهو هدى ورحمة ولكن لقوم يوقنون.
بل أحسب الذين اكتسبوا الآثام واقترفوا الذنوب أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا ينبغي أن يكون ذلك ولا يصح أن نسوى بينهم في شيء، أحسبوا أن نجعلهم مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات مستويا حياتهم ومماتهم، ألا ساء ما يحكمون! وهذا تهديد عام لكل من خرج على الدين، ولم يمتثل أمره، بأنه ليس من العدل أن يسوى بينه وبين من سار على الصراط المستقيم، والله جل شأنه خلق السموات والأرض بالحق، ولو لم يوجد دارا أخرى للثواب والعقاب لما كان خلقه السموات والأرض بالحق، فإن العالم فيها بين غنى وفقير، ومريض وصحيح، وفرح ومحزون، فلا بد إذن من حياة يثاب فيها المؤمن على إيمانه في الدنيا، فربما كان فيها فقيرا مريضا ممتحنا بالبلاء ولقد صدق الله حيث يقول: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ «١» فلو ترك الظالم الذي ظلم غيره في الدنيا، ولم