ضرورة الاعتبار بقوم فرعون وإنجاء بني إسرائيل
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)
الإعراب:
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أَنْ: في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي وجاءهم رسول بأن أدوا، وعِبادَ اللَّهِ: إما منصوب ب أَدُّوا أو منصوب على النداء المضاف، ومفعول أَدُّوا محذوف، تقديره: أدوا إليّ أمركم يا عباد اللَّه. وأَنْ: مفسرة لأن جاءَهُمْ تتضمن معنى القول، لأنه لا يجيئهم إلا مبشرا ونذيرا وداعيا إلى اللَّه، أو هي المخففة من الثقيلة، ومعناه: وجاءهم بأن الشأن والحديث: أدّوا إلي.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ: في موضع نصب بالعطف على أَنْ الأولى.
أَنْ تَرْجُمُونِ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي: من أن ترجمون.
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ... بفتح أَنَّ: في موضع نصب ب فَدَعا ومن قرأ بالكسر فعلى تقدير: (قال) أي (فقال: إن هؤلاء).
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً رَهْواً: حال، أي ساكنا، حتى يدخلوا فيه من غير نفرة عنه.
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها الكاف: إما في موضع رفع، خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك، وإما في موضع نصب على الوصف لمصدر محذوف، تقديره: يفعل فعلا كذلك بمن يريد إهلاكه. وَأَوْرَثْناها: عطف على الفعل المقدر، أو على (تركوا).
مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ: مِنْ: إما بدل من الْعَذابِ الْمُهِينِ وتقديره: من عذاب فرعون، فحذف المضاف، أو حال من الْعَذابِ الْمُهِينِ أي كائنا من فرعون، فلا يكون فيه حذف مضاف.
مِنَ الْمُسْرِفِينَ خبر ثان أو حال من ضمير عالِياً.
البلاغة:
فَتَنَّا استعارة تبعية، حيث شبه الابتلاء والاختبار بالفتنة.
فَأَسْرِ بِعِبادِي إيجاز بحذف كلام، أي وقلنا له: فأسر.
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ استعارة تمثيلية، أي لم تحزن على هلاكهم السماء والأرض، وهذا أسلوب عربي يقال للتحقير والتهكم بحالهم.
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ رثاء وتفجع وإظهار الأسى والحسرة للعبرة والعظة للأحياء.
المفردات اللغوية:
فَتَنَّا بلونا واختبرنا وامتحنا. قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم، أو بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم، وقرئ بالتشديد للتأكيد أو لكثرة القوم.
وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على اللَّه تعالى، أو على المؤمنين، أو في نفسه فهو جامع لخصال الخير والأفعال الحميدة، وهو موسى عليه السلام. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ بأن أدوا إلي حق اللَّه من الإيمان وقبول الدعوة، اي أظهروا إيمانكم لي يا عباد اللَّه، أو أطلقوا معي بني إسرائيل وأرسلوهم.
رَسُولٌ أَمِينٌ مؤتمن على ما أرسلت به، غير متهم، لدلالة المعجزات على صدقه، أو لائتمان اللَّه على وحيه ورسالته، وهو علة الأمر.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ لا تتكبروا على اللَّه بترك طاعته، والاستهانة بوحيه ورسوله.
إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي ببرهان بيّن واضح على رسالتي، وهو علة النهي. وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي التجأت إليه وتوكلت عليه أن ترجموني بالحجارة، أو تؤذوني ضربا أو شتما، أو تقتلوني. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي تصدقوني. فَاعْتَزِلُونِ فكونوا بمعزل مني، واتركوا أذاي، ولا تتعرضوا لي بسوء، فإن ذلك ليس جزاء من دعاكم إلى الفلاح.
أَنَّ هؤُلاءِ بأن هؤلاء. مُجْرِمُونَ مشركون، وهو تعريض بسبب الدعاء عليهم.
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي فقال: أسر ببني إسرائيل، أي سر بهم ليلا، وقرئ بوصل الهمزة من (سرى). إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ساكنا منفرجا مفتوحا كما هو على هيئته بعد تجاوزه، ولا تضربه بعصاك، ولا تغير منه شيئا، حتى يدخل فيه القبط شعب فرعون. إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أي لأنهم غارقون.
جَنَّاتٍ بساتين. وَعُيُونٍ ينابيع جارية. مَقامٍ كَرِيمٍ مجالس ومنازل حسنة.
وَنَعْمَةٍ من النعم، أي تنعم وحسن ومتعة ونضرة، والنّعمة: ما ينعم به على الإنسان، من الإنعام. فاكِهِينَ متنعمين أصحاب فاكهة، وقرئ «فكهين» أي أشرين بطرين مستهزئين.
كَذلِكَ أي الأمر كذلك، أو مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها. وَأَوْرَثْناها أي ورثنا أموالهم. قَوْماً آخَرِينَ بني إسرائيل.
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم، تقول العرب إذا مات رجل خطير في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس، وفي
حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله: ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض»
وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه:
الشمس طالعة ليست بكاسفة | تبكي عليك، نجوم الليل والقمرا |
وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا | كأنك لم تجزع على ابن طريف |
والمراد لا أسف على فرعون وقومه، بخلاف المؤمنين يبكي عليهم بموتهم مصلاهم من الأرض، ومصعد عملهم من السماء. مُنْظَرِينَ ممهلين ومؤخرين التوبة إلى وقت آخر.
مِنَ الْعَذابِ من استعباد فرعون وقتله أبناءهم واستخدامه نساءهم. مِنْ صفحة رقم 219
فِرْعَوْنَ
إما على حذف مضاف، أي عذاب فرعون أو حال من العذاب كما تقدم. عالِياً متكبرا جبارا. مِنَ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين الحد في الشر والفساد، وهو خبر ثان أي كان متكبرا مسرفا، أو حال من ضمير عالِياً أي كان رفيع الطبقة من بينهم.
اخْتَرْناهُمْ اخترنا بني إسرائيل واصطفيناهم. عَلى عِلْمٍ منا بحالهم أي عالمين باستحقاقهم ذلك. عَلَى الْعالَمِينَ اخترناهم على عالمي زمانهم. الْآياتِ المعجزات، كفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى. ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ اختبار ظاهر.
المناسبة:
بعد أن بيّن اللَّه تعالى إصرار مشركي مكة على كفرهم، بيّن أن كثيرا من المتقدمين كانوا أمثالهم في تكذيب الرسل، وفي طليعتهم قوم فرعون، الذين كذبوا رسولهم موسى عليه السلام، فنصره اللَّه عليهم، وأغرقهم، وجعلهم عبرة للمعتبر.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أي لقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وهم قبط مصر، أرسل اللَّه إليهم رسولا كريما جامعا لخصال الخير والأفعال المحمودة، وهو موسى عليه السلام، وهو كريم على اللَّه، وكريم في قومه.
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي وجاءهم رسول بأن أرسلوا معي عباد اللَّه وهم بنو إسرائيل، وأطلقوهم من العذاب، فإني رسول من اللَّه مؤتمن على الرسالة غير متهم، وهذا كقوله عز وجل: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ، وَلا تُعَذِّبْهُمْ، قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه ٢٠/ ٤٧].
ويجوز أيضا أن يكون قوله: عِبادَ اللَّهِ نداء لهم، والتقدير: أدوا إلي يا عباد اللَّه ما هو واجب عليكم من الإيمان، وقبول دعوتي، واتباع سبيلي. وعلل
ذلك بأنه رَسُولٌ أَمِينٌ قد ائتمنه اللَّه على وحيه ورسالته، وهذا هو الظاهر المناسب لأصول دعوة الرسول قومه وللكلام الآتي بعده، أما إطلاق بني إسرائيل فهو مطلب فرعي ثانوي بالنسبة لأصل الدعوة.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ، إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي لا تتجبروا ولا تتكبروا عن اتباع آيات اللَّه، والانقياد لبراهينه، ولا تترفعوا عن طاعته ومتابعة رسله، كقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر ٤٠/ ٦٠] إني آتيكم بحجة ظاهرة واضحة لا سبيل إلى إنكارها، وهي ما أرسله اللَّه تعالى به من الآيات البينات والمعجزات القاطعات كالعصا واليد وسائر الآيات التسع، فهددوه بالرجم كما قال تعالى:
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي أستعيذ بالله وألتجئ إليه وأتوكل عليه مما تتوعدوني به من القتل بالحجارة أو الإيذاء والشتم.
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي وإن لم تصدّقوني وتقرّوا بنبوتي وبما جئتكم به من عند اللَّه، فاتركوني، ولا تتعرضوا لي بأذى إلى أن يحكم اللَّه بيننا.
فلما يئس من إيمانهم، ولمس إصرارهم على الكفر وعنادهم، دعا عليهم فقال:
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي فدعا موسى ربه حين كذبوه وهمّوا بقتله بأن هؤلاء قوم مكذبون رسلك مشركون بك، كما جاء في آية أخرى:
وَقالَ مُوسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، قالَ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما..
[يونس ١٠/ ٨٨- ٨٩].
وحينئذ أمره اللَّه تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر سرا ليلا:
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا، إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي أجاب اللَّه سبحانه دعاءه، فأمره أن يسير بقومه بني إسرائيل ليلا، لأن فرعون وقومه يتبعونكم إذا علموا بخروجكم. وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً، لا تَخافُ دَرَكاً، وَلا تَخْشى [طه ٢٠/ ٧٧].
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً، إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أي دع يا موسى البحر ساكنا منفرجا مفتوحا، لا تضربه بعصاك حتى يعود كما كان، ليدخله فرعون وجنوده، فإنهم قوم مغرقون في اليم. وهذه بشارة من اللَّه بنجاتهم وإهلاك عدوهم ليسكن قلب موسى عليه السلام، ويطمئن جأشه.
ثم ذكر تعالى ما خلّفوه وراءهم من عز ومجد ونعيم وثراء، فقال:
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ أي كثيرا ما تركوا في مصر وراءهم من بساتين خضراء، وحدائق غناء، وأنهار متدفقة وآبار مترعة بالماء، وزروع نضرة، ومنازل ومجالس حسنة وثيرة، وتنعم بالمال والخير الوفير، كانوا يرفلون بالنعمة ويتنعمون بعيشة هنية، ويستمتعون بأنواع اللذة، كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة، فيأكلون ويلبسون ما شاؤوا.
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ أي مثل ذلك الإهلاك والسلب والتدمير فعلنا بالذين كذبوا رسلنا، ونفعل بكل من عصانا، وأورثنا تلك البلاد بني إسرائيل الذين كانوا مستضعفين في الأرض، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف ٧/ ١٣٧].
ثم تهكم اللَّه بهم وأبدى عدم الاكتراث بشأنهم قائلا:
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أي لا أسف ولا حزن عليهم من أحد بسبب بغيهم وفسادهم، بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم وشدة عنادهم، ولم يمهلوا لتوبة، لأنها غير منتظرة منهم.
ثم أتبع اللَّه تعالى ما يقابل النقمة بالنعمة للعبرة، فقال:
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ، إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ أي لقد خلصنا شعب بني إسرائيل بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد وقتل الأبناء واستحياء النساء وتكليفهم بالأعمال الشاقة، من عذاب فرعون الذي كان متعاليا عنيدا، متكبرا متجبرا، ومن المسرفين في الكفر بالله، وارتكاب معاصيه، ورأس الكفر: ادعاؤه الألوهية والربوبية بقوله: أنا ربكم الأعلى.
وهذا كقوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص ٢٨/ ٤] وقوله سبحانه: فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [المؤمنون ٢٣/ ٤٦].
ويلاحظ أن بيان الإحسان إلى موسى وقومه كان بعد بيان كيفية إهلاك فرعون وقومه، لأن دفع الضرر مقدم على جلب المصالح والمنافع.
ثم بيّن اللَّه تعالى مدى تكريمه لبني إسرائيل حين ذاك قائلا:
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي لقد اختارهم اللَّه على عالمي زمانهم على علم منه باستحقاقهم لذلك، لكثرة الأنبياء فيهم، ولصبرهم مع موسى، وجهادهم في سبيل اللَّه، فلما بدلوا الإيمان بالكفر، والصلاح بالفساد غضب اللَّه عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير.
وأعطيناهم على يد موسى عليه السلام المعجزات الظاهرة والبراهين الواضحة، وخوارق العادات، مما فيه اختبار ظاهر، وامتحان واضح لمن اهتدى به، ولننظر كيف يعملون. ومنها: إنجاؤهم من الغرق، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى لهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي:
١- لا يغترن أحد بمال أو جاه أو سلطان أو عزّ أو حكم قوي، فذلك كله للاختبار والامتحان، فقد ابتلى اللَّه قوم فرعون بالأمر بطاعة اللَّه ورسولهم موسى عليه السلام، فكذبوا وكفروا، والمقصود أنه عاملهم معاملة المختبر ببعثة موسى إليهم، فكذبوا فأهلكوا، وهكذا يفعل بأعداء محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم إن لم يؤمنوا.
٢- طلب موسى عليه السلام من فرعون وقومه أن يتبعوه في رسالته، كما قال ابن عباس، أو أن يرسلوا معه بني إسرائيل ويطلقوهم من العذاب، كما قال مجاهد، وهو في الحالين أمين على الوحي، فما عليهم إلا أن يقبلوا نصحه.
٣- اتبع موسى عليه السلام معهم أسلوبا لطيفا، فنصحهم بألا يتكبروا على اللَّه ولا يترفعوا عن طاعته، وخاطبهم بما يقنع عقلا ومنطقا، فذكر لهم أنه يأتيهم بحجة بينة وبرهان واضح على صدقه، وصحة دعوته، وإثبات ألوهية اللَّه الواحد الأحد، وحرص على مسالمتهم قائلا: إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني، فدعوني واتركوني، وخلّوا سبيلي وكفّوا عن أذاي.
٤- لم يدع نبي على قومه إلا بعد اليأس من إيمانهم، وهكذا فعل موسى عليه السلام، فإنه لما وجد إصرار فرعون وقومه على الكفر دعا ربه بأن هؤلاء قوم مشركون، امتنعوا من الإيمان، ومن إطلاق بني إسرائيل.
٥- أجاب اللَّه دعاء موسى عليه السلام، فأمره بأن يسير بمن آمن بالله من بني إسرائيل ليلا قبل الصباح، فإن فرعون وقومه سيتبعونهم حينما يعلمون بخروجهم.
وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف إما من العدو، وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان.
وأمره ربه أيضا أن يترك البحر الذي فتح لهم أثناء العبور بأمر من اللَّه مفتوحا ساكنا على حاله، لا يضربه بعصاه حتى يعود كما كان، وذلك استدراج لقوم فرعون ليعبروا فيغرقهم اللَّه بعد أن نجى بني إسرائيل.
٦- دلت آية كَمْ تَرَكُوا... على أنه تعالى أغرق قوم فرعون، ثم ذكر أنهم تركوا أشياء خمسة: هي الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم والنّعمة بالفتح من التنعيم، أي حسن العيش ونضارته، أو سعة العيش والراحة.
أما النّعمة بالكسر من الإنعام: فهي إحسان اللَّه وعطاؤه وأفضاله.
وورث تعالى تلك الديار بما فيها من الخيرات لبني إسرائيل، بعد أن كانوا مستعبدين فيها، فصاروا لها وارثين، كوصول الميراث إلى مستحقيه.
٧- لا أسف ولا حزن على إهلاك فرعون وجنوده، لأنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم السماء والأرض لأجله، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح، فتبكي فقد ذلك.
قال مجاهد: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمنين أربعين صباحا. وقال علي وابن عباس رضي اللَّه عنهما في المؤمن: إنه يبكي عليه مصلّاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء. وهذا تعبير كنائي يراد به فقد الأعمال الصالحة.
قال الواحدي في البسيط: روى أنس بن مالك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال فيما رواه أبو يعلى
وأبو نعيم في الحلية: «ما من عبد مسلم إلا له بابان في السماء: باب ينزل منه رزقه، وباب يدخل فيه عمله وكلامه، فإذا فقداه بكيا عليه» وتلا هذه الآية.
٨- امتن اللَّه تعالى بحق على بني إسرائيل بعد إهلاك فرعون وقومه إذ نجّاهم أولا من بطش فرعون وظلمه واستعباده لهم، وقتله الأبناء، واستخدام النساء، وتكليفهم بالأعمال الشاقة، لأن فرعون كان جبارا عاليا من المشركين، وليس هذا علو مدح بل علو إسراف.
٩- ثم ذكر ثانيا أنه تعالى اختارهم على علم منه باستحقاقهم على عالمي زمانهم، لكثرة الأنبياء منهم، وإيمانهم بموسى وصلاحهم، فلما بدّلوا تبدل الحال، وغضب اللَّه عليهم ولعنهم، وأعد لهم جهنّم وساءت مصيرا.
١٠- ثم أبان ثالثا أنه تعالى أمدهم بالآيات البينات في التوراة، وبمعجزات موسى التسع، كإنجائهم من فرعون، وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى.
١١- لقد تبين الفارق الواضح في هذه القصة بين الكافرين وبين المؤمنين، فقد أغرق اللَّه الكفار الأشداء، ونجّى المؤمنين، وجعل العاقبة للمتقين، والنصر للصادقين الصابرين المستضعفين، وهذا عدل من اللَّه تعالى، إذ لا يعقل التسوية بين الطائعين والعصاة.
فليعتبر بهذا كفار قريش وأمثالهم، فقد أهلك اللَّه من هم أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، وأعز سلطانا ومجدا، وأقوى علما وحضارة.