
التذكر بالإيمان عند حلول العذاب بهم، وقد تولوا عما جاءهم به رسولهم.
﴿وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ﴾، أي: علم هذا الذي جاءنا به ليس هو من عند الله.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً﴾، أي: إنا نكشف عنكم العذاب الذي نزل بكم بالخصب والرخاء وقتاً قليلاً، إنكم عائدون إلى كفركم إذا كشفناه عنكم، (وتنقضون ما عهدتم) به أنكم تؤمنون إذا كشف عنكم.
وقيل معناه: إنكم عائدون في عذاب الله (في الآخرة) إن لم تؤمنوا.
وقيل معناه: عائدون إلى الشرك.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى﴾ - إلى قوله - ﴿وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ﴾، أي: ننتقم منكم إن عدتم إلى كفركم عند كشفنا عنكم ما أنتم فيه من الجهد يوم نبطش البطشة الكبرى، وهو يوم بدر عند أكثر المفسرين، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك وابن زيد وأبو العالية، وهو قول وهو قول أُبي بن كعب، أمكن الله تعالى منهم المؤمنين يوم بدر فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين.

والعامل في " يوم نبطش ": " منتقمون ". /
وقيل: العامل فيه فعل مضمر، تقديره: اذكر يا محمد يوم نبطش. وهو الأحسن، لأن الظرف لا يعمل فيه ما بعد أن عند البصريين.
وقيل: التقدير: ننتقم يوم نبطش، ودل عليه " منتقمون ".
وفيه أيضاً بُعْدٌ لأن ما بعد " إنَّ " لا يفسر ما قبلها كما لا يفعل (ما بعدها) فيه.
فإضمار " اذكر " أحسن الوجوه، وذلك أن الله جا ذكره كشف عنهم ما كانوا فيه من الجهد فعادوا إلى كفرهم فأهلكهم قتلا بالسيف يوم بدر. فيكون العامل في " يوم نبطش " فعلاً مضمراً يفسره " إنا منتقمون ".
ولا يحسن أن يعمل فيه " منتقمون "، لأن ما بعد " أن " لا يعمل فيما قبلها. ويجوز أن يكون العامل " اذكر " مضمرة.
وقال عكرمة: البطشة الكبرى هي بطشة الله تعالى بأعدائه يوم القيامة.

وكذلك روى قتادة عن الحسن.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾، أي اختبرناهم وابتليناهم قبل مشركي قومك يا محمد.
﴿وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ يعني موسى ﷺ أي " كريم عند ربه تعالى. وقيل كريم من قومه. وقيل: الفتنة في هذا العذاب.
وفي الكلام تقدير وتأخير، والتقدير، ولقد جاء قوم فرعون رسول كريم.
وفتناهم، أي: عذبناهم بالغرق، لأن العذاب - وهو الغرق - كان بعد مجيء موسى إليهم وإنذاره إياهم وكفرهم
. ثم قال تعالى: ﴿أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾.
قال ابن عباس معناه: (أن اتبعوني) إلى ما أدعوكم إليه يا عباد الله فيكون " عباد ": نصب على النداء المضاف على هذا القول.

وقال مجاهد معناه: أن أرسلوا معي عباد الله وخلوا سبيلهم، يعني بني إسرائيل، وهو مثل قوله: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ﴾ [طه: ٤٧].
وقيل التقدير: وجاءهم رسول أمين يقول لهم: أدوا إِليَّ عباد الله أي: خلوا

سبيلهم إني لكم رسول من الله إليكم، أنذركم بأسه إن لم تؤمنوا، أمين على وحيه ورسالته إليكم.
ثم قال: ﴿وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾، أي: وجاءكم رسول كريم بأن أدوا إلي عباد الله وبألا تعلوا على الله، أي: لا تطغوا على ربكم فتكفروا به.
﴿إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾، أي: بحجة ظاهرة تدل على صحة ما جئتكم به.
ثم قال: ﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون﴾، أي: قال لهم موسى ": وإني اعتصمت واستعذت بربي وربكم من أن تشتمون بألسنتكم، قاله ابن عباس والضحاك.
وقال أبو صالح: أن ترجمون معناه: أن تقولوا لي شاعر (أو كاهن) أو ساحر.

وقال قتادة معناه: " أن ترجمون بالحجارة ".
وقال الفراء: " الرجم - هنا - القتل ". استجار بالله تعالى واعتصم به سبحانه من أن يقتلوه.
ثم قال لهم: ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون﴾، أي: أذا أنتم لم تصدقون فيما أقول لكم فخلوا سبيلي (ولا تؤذون).
وقيل معناه: فدعوني كفافاً، لا عَلَيَّ ولا لي.
قال: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ﴾، أي: فدعا موسى ربه إذ كذبوه ولم يؤمنوا وهموا بقتله. وفي الكلام حذف تتصل الفاء به. والتقدير: فكفروا فدعا ربه ولو لم يكن هذا الإضمار لم تتصل الفاء بشيء ومثله في قوله: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي﴾.
قوله: ﴿أَنَّ هؤلاء﴾، أي فدعا ربه فقال إن هؤلاء قوم مجرمون لا يؤمنون بما

جئتهم به.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾.
في هذا الكلام حذف. والتقدير: فأجابه ربه تعالى بأن قال له: فأسر بعبادي ليلاً، يعني: بني إسرائيل، أي: فأسر بعبادي الذين صدقوك وآمنوا بك ليلاً إنهم متبعون، أي: إن فرعون وجنوده من القبط يتبعونكم إذا سريتم من عندهم.
ثم قال: ﴿واترك البحر رَهْواً﴾، أي: إذا قطعت البحر (أنت وأصحابك) فاتركه ساكناً على حاله حين دخلته. هذا لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر.
لم يكن في (وسع موسى) ترك ذلك، ولم يكن الله تعالى ليأمره بما لا يقدر عليه، فهو وعد من الله تعالى لموسى أن يفعله له، وكأنه قال: ويبقى البحر على حاله ساكنا حتى يدخله فرعون وجنوده فيغرقون.
قال ابن عباس، معناه: واتركه طريقاً. وقال الضحاك: سهلاً.
وقال مجاهد معناه: واتركه ساكناً لا يرجع إلى ما كان عليه حتى يحصل فيه

آخرهم، وهو معنى قول ابن عباس: اتركه طريقاً، وروي عن مجاهد أيضاً " رهواً ": يابساً، وحكى المبرد: عيش (راهٍ، أي): خفض وادع.
قال: فمعنى رهواً: ساكناً، حتى يحصلوا فيه وهو ساكن فلا (ينفروا منه).
وقيل الرهو: المتفرق ويقال: جاء القوم رهواً، أي: على نظام واحد.
وروي أن الله جل ذكره قال هذا لموسى بعد أن قطع البحر بنو إسرائيل.
فعلى / هذا القول يكون في الكرم حذف.
والتقدير: فسرى موسى بعبادي

ليلاً وقطع بهم البحر فقلنا له بعدما قطعه وأراد رد البحر إلى هيئته التي كان عليها قبل اتفلاقه: اتركه رهواً، أي: ساكناً على حاله لا ترده إلى (هيئته الأولى) حتى يدخلوا كلهم فيه ويطمئنوا. هذا القول هو قول قتادة.
قال قتادة: لما خرج آخر بني إسرائيل أراد نبي الله موسى عليه السلام أن يضرب بالبحر بعصاه حتى يعود كما كان مخافة أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: اتركه اكناً على حاله إنهم جند مغرقون، فغرقهم الله تعالى في البحر.
ثم قال تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ﴾، أي: كم ترك آل فرعون - يعني: القبط المغرقين - من بساتين وينابيع ماء تتفجر في بساتينهم وزروع قائمة.
﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾، يعني: مقام الملوك والأمراء، كانوا يعظمونه ويشرفونه، يعني به المنابر، (قاله ابن عباس وقيل: هي المنازل الحسنة. ومعنى

كريم: حسن).
ثم قال: ﴿وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ﴾، أي: وأخرجوا من نعمة كانوا فيها متفكهين. قال قتادة: فاكهين: ناعمين. وعن ابن عباس: فاكهين: فرحين والنعمة - بالفتح - التنعم.
وقرأ أبو رجاء العطاردي والحسن " فَكِهينَ " بغير ألف، على معنى: كانوا فيها بطرين أشرين.
ثم قال: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ﴾، أي: هكذا فعلنا بهم أيها الناس، وأورثنا ما تركوا مما تقدم وصفه قوماً آخرين يعني: بني إسرائيل.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض﴾، أي: ما بكى عليهم حين هلكوا بالغرق أهل السماء، ولا أهل الأرض. ثم حذف.
وقيل: إن بكاء السماء حمرة أطرافها.

قال السدي: " لما قُتل الحسين بن علي عليه السلام بكت السماء عليه وبكاؤها حمرتها ". وقال عطاء: " بكاؤها " حمرة أطرافها ".
وقيل: معنى ذلك أن المؤمن إذا مات بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فأعلمنا الله أنهم لم يكونوا مؤمنين فتبكي عليهم السماء والأرض.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " بَدَأَ الإسْلاَمُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً،

أَلاَ لاَ غُرْبَةَ عَلَى المُؤْمِنِ [مَا] مَاتَ مُؤْمِنٌ في غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ إِلاَّ بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ. ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض﴾ ثم قال: إِنَّهُمَا لاَ يَبْكِيَانِ عَلَى الكَافِرِ ".
ومن قال أن السماء والأرض تبكيان على المؤمن ولا تبكيان على الكافر، علي بن أبي طالب (Bهـ) وابن عباس والحسن والضحاك وقتادة.
قال ابن عباس: ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء (ينزل منه) رزقه