
وأن يرسل بني إسرائيل، فلما أبى أن يؤمن، ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل، وفي إرسالهم هو قوله: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي بني إسرائيل، ويقوي ذلك قوله بعد: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان: ٢١]، وهذا قريب نص في أنه إنما يطلب بني إسرائيل فقط، ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى:
فَأَسْرِ بِعِبادِي فيظهر أنه إياهم أراد موسى بقوله: عِبادَ اللَّهِ وقوله: رَسُولٌ أَمِينٌ معناه على وحي الله تعالى أؤديه إلى عباده.
قوله عز وجل:
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٩ الى ٢٨]
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨)
المعنى كانت رسالته وقوله: أَنْ أَدُّوا [الدخان: ١٨] وَأَنْ لا تَعْلُوا وعبر بالعلو عن الطغيان والعتو على الله تعالى وعلى شرعه وعلى رسوله.
وقرأ الجمهور: «إني آتيكم» بكسر الألف على الإخبار المؤكد، والسلطان: الحجة، فكأنه قال: لا تكفروا، فإن الدليل المؤدي إلى الإيمان بيّن. وقرأت فرقة: «أني آتيكم» بفتح الألف. و «أن» في موضع نصب بمعنى: لا تكفروا من أجل أني آتيكم بسلطان مبين، فكأن مقصد هذا الكلام التوبيخ، كما تقول لإنسان: لا تغضب، لأن الحق قيل لك.
وقوله: وَإِنِّي عُذْتُ الآية، كلام قاله موسى عليه السلام لخوف لحقه من فرعون وملئه و: عُذْتُ معناه: استجرت وتحرمت. وأدغم الدال في التاء الأعرج وأبو عمرو.
واختلف الناس في قوله: أَنْ تَرْجُمُونِ فقال قتادة وغيره: أراد الرجم بالحجارة المؤدي إلى القتل. وقال ابن عباس وأبو صالح: أراد الرجم بالقول من السباب والمخالفة ونحوه، والأول أظهر، لأنه أعيذ منه ولم يعذ من الآخر، بل قيل فيه عليه السلام وله.
وقوله: تُؤْمِنُوا لِي بمعنى: تؤمنوا بي. والمعنى: تصدقوا. وقوله: فَاعْتَزِلُونِ مشاركة صريحة. قال قتادة: أراد خلّوا سبيلي.
وقوله: فَدَعا رَبَّهُ قبله محذوف من الكلام، تقديره: فما كفوا عنه، بل تطرقوا إليه وعتوا عليه وعلى دعوته فَدَعا رَبَّهُ.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى «إن هؤلاء» بكسر الألف من «إن» على معنى «قال إن»، وقرأ جمهور الناس والحسن أيضا: «أن هؤلاء» بفتح الألف، والقراءتان حسنتان.

وحكم عليهم بالإجرام المضمن للكفر حين يئس منهم، وهنا أيضا محذوف من الكلام تقديره: فقال الله له: فَأَسْرِ بِعِبادِي وهذا هو الأمر الذي أنفذه الله إلى موسى بالخروج من ديار مصر ببني إسرائيل، وقد تقدم شرحه وقصصه في سورة الأنبياء وغيرها.
وقرأ جمهور الناس: «فاسر» موصولة الألف. وقرأ: «فأسر» بقطع الألف: الحسن وعيسى، ورويت عن أبي عمرو. وأعلمه تعالى بأنهم مُتَّبَعُونَ، أي يتبعهم فرعون وجنوده.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً متى قالها لموسى؟ فقالت فرقة: هو كلام متصل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ إذا انفرق لك رَهْواً. وقال قتادة وغيره: خوطب به بعد ما اجتاز البحر وخشي أن يدخل فرعون وقومه وراءه، وأن يخرجوا من المسالك التي خرج منها بنو إسرائيل، فهم موسى أن يضرب البحر عسى أن يلتئم ويرجع إلى حاله، فقيل له عند ذلك: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً.
واختلفت عبارة المفسرين في تفسير الرهو، فقال مجاهد وعكرمة معناه: يبسا من قوله تعالى:
فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً [طه: ٧٧]. وقال الضحاك بن مزاحم معناه: دمثا لينا. وقال عكرمة أيضا: جردا. وقال ابن زيد: سهلا. وقال ابن عباس معناه: ساكنا، أي كما جزته، وهذا القول الأخير هو الذي تؤيده اللغة، فإن العيش الواهي هو الذي هو في خفض ودعة وسكون، حكاه المبرد وغيره. والرهو في اللغة هو هذا المعنى، ومنه قول عمرو بن شييم القطامي:
يمشون رهوا فلا الأعجاز خاذلة | ولا الصدور على الأعجاز تتكل |
وأمة خرجت رهوا إلى عيد أي خرجوا في سكون وتماهل، فقيل لموسى عليه السلام: اترك البحر ساكنا على حاله من الانفراق ليقضي الله أمرا كان مفعولا. والرهو: من أسماء الكركي الطائر، ولا مدخل له في تفسير هذه الآية، ويشبه عندي أن سمي رهوا لسكونه، وأنه أبدا على تماهل.
وقوله: كَمْ تَرَكُوا الآية، قبله محذوف تقديره: فغرقوا وقطع الله دابرهم، ثم أخذ يعجب من كثرة ما تركوا من الأمور الرفيعة الغبيطة في الدنيا، و: كَمْ خبر للتكثير. والجنات والعيون: روي أنها كانت متصلة ضفتي النيل جميعا من رشيد إلى أسوان. وأما العيون فيحتمل أنه أراد الخلجان الخارجة من النيل فشبهها بالعيون، ويحتمل أنه كانت ثم عيون ونضبت كما يعتري في كثير من بقاع الأرض.
وقرأ قتادة ومحمد بن السميفع اليماني ونافع في رواية خارجة عنه: «ومقام» بضم الميم، أي موضع إقامة. وكذلك قرأ اليماني في كل القرآن إلا في مريم خَيْرٌ مَقاماً [مريم: ٧٣] فكأن المعنى: كَمْ تَرَكُوا من موضع حسن كريم في قدره ونفعه. وقرأ جمهور الناس ونافع: «ومقام» بفتح الميم، أي موضع قيام، فعلى هذه القراءة قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير: أراد المنابر. وعلى ضم الميم في: «مقام» قال قتادة: أراد المواضع الحسان من المساكن وغيرها، والقول بالمنابر بهي جدا. صفحة رقم 72