آيات من القرآن الكريم

وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ
ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ

لهم لحوم الإبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت، وقال مجاهد: بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة، وقال قتادة: لأبين لكم اختلاف الذين تحزبوا في أمره عليه السلام فَاتَّقُوا اللَّهَ من مخالفتي وَأَطِيعُونِ فيما أبلغه عنه تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع هذا أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه، وهو إما من تتمة كلام عيسى عليه السلام أو استئناف من الله تعالى مقرر لمقالة عيسى عليه السلام.
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ الفرق المتحزبة مِنْ بَيْنِهِمْ من بين من بعث إليهم وخاطبهم بما خاطبهم من اليهود والنصارى وهم أمة دعوته عليه السلام، وقيل: المراد النصارى وهم أمة إجابته عليه السلام، وقد اختلفوا فرقا ملكانية ونسطورية ويعقوبية فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من المختلفين وهم الذين لم يقولوا: إنه عبد الله ورسوله مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هو يوم القيامة وأليم صفة عذاب أو يوم على الإسناد المجازي.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الضمير لقريش، وأن تأتيهم بدل من الساعة، والاستثناء مفرغ، وجوز جعل إلا بمعنى غير والاستفهام للإنكار وينظرون بمعنى ينتظرون أي ما ينتظرون شيئا إلا إتيان الساعة فجأة وهم غافلون عنها، وفي ذلك تهكم بهم حيث جعل إتيان الساعة كالمنتظر الذي لا بد من وقوعه.

صفحة رقم 96

ولما جاز اجتماع الفجأة والشعور وجب أن يقيد ذلك بقوله سبحانه: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لعدم إغناء الأول عنه فلا استدراك، وقيل: يجوز أن يراد بلا يشعرون الإثبات لأن الكلام وارد على الإنكار كأنه قيل: هل يزعمون أنها تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون أي لا يكون ذلك بل تأتيهم وهم فطنون، وفيه ما فيه، وقيل: ضمير يَنْظُرُونَ للذين ظلموا، وقيل: للناس مطلقا وأيد بما
أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعجة والرجلان يطويان الثوب ثم قرأ عليه الصلاة والسلام هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
الظرف متعلق بعدو والفصل لا يضره، والمراد أن المحبات تنقطع يوم إذ تأتيهم الساعة ولا يبقى إلا محبة المتقين وهم المتصادقون في الله عن وجل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله عن وجل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله تعالى، واعتبار الانقطاع لأن الخل حال كونه خلّا محال أن يصير عدوا.
وقيل: المعنى الأخلاء تنقطع خلتهم ذلك اليوم إلا المجتنبين أخلاء السوء، والفرق بين الوجهين أن المتقي في الأول هو المحب لصاحبه في الله تعالى فاتقى الحب أن يشوبه غرض غير إلهي، وفي الثاني هو من اتقى صحبة الأشرار.
والاستثناء فيهما متصل، وجوز أن يكون يومئذ متعلقا بالأخلاء والمراد به في الدنيا ومتعلق عدو مقدر أي في الآخرة والآية قيل نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله تعالى يومئذ فهو بتقدير قول أي فيقال لهم يا عبادي إلخ أو فأقول: لهم بناء على أن المنادي هو الله عز وجل تشريفا لهم، وعن المعتمر بن سليمان أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحدا لا يفزع فينادي مناد يا عباد إلخ فيرجوها الناس كلهم فيتبعها قوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ فييأس منها الكفار، فيا عباد عام مخصوص إما بالآية السابقة وإما باللاحقة، والأول أوفق من أوجه عديدة.
والموصول إما صفة للمنادى أو بدل أو مفعول لمقدر أي أمدح ونحوه، وجملة وَكانُوا مُسْلِمِينَ حال من ضمير آمَنُوا بتقدير قد أو بدونه، وجوز عطفها على الصلة، ورجحت الحالية بأن الكلام عليها أبلغ لأن المراد بالإسلام هنا الانقياد والإخلاص ليفيد ذكره بعد الإيمان فإذا جعل حالا أفاد بعد تلبسهم به في الماضي اتصاله بزمان الإيمان، وكان تدل على الاستمرار أيضا ومن هنا جاء التأكيد والأبلغية بخلاف العطف، وكذا الحال المفردة بأن يقال:
الذين آمنوا بآياتنا مخلصين، وقرأ غير واحد من السبعة «يا عبادي»
بالياء على الأصل، والحذف كثير شائع وبه قرأ حفص وحمزة والكسائي، وقرأ ابن محيصن «لا خوف» بالرفع من غير تنوين، والحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى وابن يعمر ويعقوب بفتحها من غير تنوين ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ نساؤكم المؤمنات فالإضافة للاختصاص التام فيخرج من لم يؤمن منهن تُحْبَرُونَ تسرون سرورا يظهر حباره أي أثره من النضرة والحسن على وجوهكم كقوله تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: ٢٤] أو تزينون من الحبر بفتح الحاء وكسرها وهو الزينة وحسن الهيئة وهذا متحد بما قبله معنى والفرق في المشتق منه، وقال الزجاج: أي تكرمون إكراما يبالغ فيه، والحبرة بالفتح المبالغة في الفعل الموصوف بأنه جميل ومنه الإكرام فهو في الأصل عام أريد به بعض أفراده هنا يُطافُ عَلَيْهِمْ بعد دخولهم الجنة حيثما أمروا به بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ كذلك، والصحاف جمع صحفة قيل هي كالقصعة، وقيل: أعظم أواني الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم الكيلة.
والأكواب جمع كوب وهو كوز لا عروة له، وهذا معنى قول مجاهد لا أذن له، وهو على ما روي عن قتادة دون الإبريق، وقال: بلغنا أنه مدور الرأس ولما كانت أواني المأكول أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة جمع الأول جمع

صفحة رقم 97

كثرة والثاني جمع قلة، وقد تظافرت الأخبار بكثرة الصحاف،
أخرج ابن المبارك وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات عن أنس قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صحفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله يأكل من آخرها مثل ما يأكل من أولها يجد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها ثم يكون ذلك كرشح المسك الأذفر لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون إخوانا على سرر متقابلين»
وفي حديث رواه عكرمة «إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل بعده أحد يفسح له في بصره مسيرة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدي عليه كل يوم ويراح بسبعين ألف صحفة في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل عليه جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطى لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا» وروى ابن أبي شيبة هذا العدد عن كعب
أيضا، وإذا كان ذلك للأدنى فما ظنك بالأعلى، رزقنا الله تعالى ما يليق بجوده وكرمه.
وأمال أبو الحرث عن الكسائي كما ذكر ابن خالويه بصحاف وَفِيها أي في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من فنون الملاذ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ أي تستلذ وتقر بمشاهدته، وذكر ذلك الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف عليهم بأواني الذهب الذي هو بعض من التنعم والترفه تعميم بعد تخصيص كما أن ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهاء النفس تخصيص بعد تعميم، وقال بعض الأجلة: إن قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بصحاف دل على الأطعمة وَأَكْوابٍ على الأشربة، ولا يبعد أن يحمل قوله سبحانه: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ على المنكح والملبس وما يتصل بهما ليتكامل جميع المشتهيات النفسانية فبقيت اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فكني عنه بقوله عز وجل وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ولهذا
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه النسائي عن أنس: «حبب إليّ الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة»
وقال قيس بن ملوح:

ولقد هممت بقتلها من حبها كيما تكون خصيمتي في المحشر
حتى يطول على الصراط وقوفنا وتلذ عيني من لذيذ المنظر
ويوافق هذا
قول الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: شتان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذ الأعين
لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذ الأعين كأصبع تغمس في البحر لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية لأنها مخلوقة ولا تلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل وعز ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية انتهى، ويعلم مما ذكر أن المعنى على اعتبار وفيها ما تلذ الأعين وعلى ذلك بنى الزمخشري قوله: هذا حصر لأنواع النعم لأنها إما مشتهاة في القلوب أو مستلذة في الأعين، وتعقبه في الكشف فقال: فيه نظر لانتقاضه بمستلذات سائر المشاعر الخمس، فإن قيل: إنها من القسم الأول قلنا: مستلذ العين كذلك فالوجه أنه ذكر تعظيما لنعيمها بأنه مما يتوافق فيه القلب والعين وهو الغاية عندهم في المحبوب لأن العين مقدمة القلب وهذا قول بأنه ليس في الجملة الثانية اعتبار موصول آخر بل هي والجملة قبلها صلتان لموصول واحد وهو المذكور، وما تقدم هو الذي يقتضيه كلام الأكثرين، وحذف الموصول في مثل ذلك شائع، ولا مانع من إدخال النظر إلى وجهه تعالى الكريم فيما تلذ الأعين على ما ذكرناه أولا، و «أل» في الأنفس والأعين للاستغراق على ما قيل، ولا فرق بين جمع القلة والكثرة.
ولعل من يقول: بأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ويفرق بين الجمعين في المبدأ والمنتهى يقول:
بأن استغراق جمع القلة أشمل من استغراق جمع الكثرة، وقيل: هي للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه أي ما

صفحة رقم 98

تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم، وجمع النفس والعين الباصرة على أفعل في كلامهم أكثر من جمعهما على غيره بل ليس في القرآن الكريم جمع الباصرة إلا على ذلك، وما أنسب هذا الجمع هنا لمكان الْأَخِلَّاءُ وحمل ما تشتهيه النفس على المنكح والملبس وما يتصل بهما خلاف الظاهر.
وفي الأخبار أيضا ما هو ظاهر في العموم، أخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه عن بريدة قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: هل في الجنة خيل فإنها تعجبني؟ قال: إن أحببت ذلك أتيت بفرس من ياقوتة حمراء فتطير بك في الجنة حيث شئت، فقال له رجل: إن الإبل تعجبني فهل في الجنة من إبل؟ فقال: يا عبد الله إن أدخلت الجنة فلك فيها ما تشتهي نفسك ولذت عينك»
. وأخرج أيضا نحوه عن عبد الرحمن بن سابط وقال: هو أصح من الأول، وجاء نحوه أيضا في روايات أخر فلا يضره ما قيل من ضعف إسناده، ولا يشكل على العموم أن اللواطة (١) مثلا لا تكون في الجنة لأن ما لا يليق أن يكون فيها لا يشتهى بل قيل في خصوص اللواطة أنه لا يشتهيها في الدنيا الأنفس السليمة.
واختلف الناس هل يكون في الجنة حمل أم لا فذهب بعض إلى الأول،
فقد أخرج الإمام أحمد وهناد والدارمي وعبد بن حميد وابن ماجه وابن حبان والترمذي وحسنه وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال: «قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي»
وذهب طاوس وإبراهيم النخعي ومجاهد وعطاء وإسحاق بن إبراهيم إلى الثاني.
فقد روي عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد»
وفي حديث لقيط الطويل الذي رواه عبد الله ابن الإمام أحمد وأبو بكر بن عمرو وأبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم والطبراني وابن حبان ومحمد بن إسحاق ابن منده وابن مردويه وأبو نعيم وجماعة من الحفاظ وتلقاه الأئمة بالقبول وقال فيه ابن منده: لا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة قلت: «يا رسول الله أو لنا فيها- يعني الجنة- أزواج أو منهن مصلحات؟ قال: المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا توالد».
وقال مجاهد وعطاء قوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: ٢٥، النساء: ٥٧] أي مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول ونحوها، وقال إسحاق بن إبراهيم في حديث أبي سعيد السابق: إنه على معنى إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي ولكن لا يشتهي، وتعقب بأن (إذا) لمتحقق الوقوع ولو أريد ما ذكر لقيل: لو اشتهى، وفي حادي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم فيه ولكنه غريب جدا.
وقال السفاريني في البحور الزاخرة: حديث أبي سعيد أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة أن الرجل ليولد له، وإذا قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقق وغيره، ورجح القول بعدم الولادة بعشرة وجوه مذكورة فيها، وأنا أختار القول بالولادة كما نطق بها حديث أبي سعيد وقد قال فيه الأستاذ أبو

(١) وقيل: إن أهل الجنة لا أدبار لهم اهـ منه.

صفحة رقم 99

سهل فيما نقله الحاكم: إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ، وفيه غير إسناد، وليس تكون الولد على الوجه المعهود في الدنيا بل يكون كما نطق به الحديث ومتى كان كذلك فلا يستبعد تكونه من نسيم يخرج وقت الجماع، وزعم أن الولد إنما يخلق من المني فحيث لا مني في الجنة كما جاء في الأخبار لا خلق فيه تعجيز للقدرة، ولا ينافي ذلك ما في حديث لقيط لأن المراد هناك نفي التوالد المعهود في الدنيا كما يشير إليه وقوع غير أن لا توالد بعد قوله عليه الصلاة والسلام: مثل لذاتكم في الدنيا، ويقال نحو ذلك في حديث أبي رزين جمعا بين الأخبار، ثم إن التوالد ليس على سبيل الاستمرار بل هو تابع للاشتهاء ولا يلزم استمراره فالقول بأنه إن استمر لزم وجود أشخاص لا نهاية لها وإن انقطع لزم انقطاع نوع من لذة أهل الجنة ليس بشيء، وما قيل: إنه
قد ثبت في الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «يبقى في الجنة فضل فينشىء الله تعالى لها خلقا يسكنهم إياها»
ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم الملازمة فيه ممنوعة لجواز أن يقال من يشتهي الولد يشتهي أن يكون معه في منزله، والقول بأن التوالد في الدنيا لحكمة بقاء النوع وهو باق في الجنة بدون توالد فيكون عبثا يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب فإنهما في الدنيا لشيء وفي الجنة لشيء آخر، وبالجملة ما ذكر لترجيح عدم الولادة من الوجوه مما لا يخفى حاله على من له ذهن وجيه.
وقرأ غير واحد من السبعة وغيرهم «ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين» بحذف الضمير العائد على ما من الجملتين المتعاطفتين، وفي مصحف عبد الله «ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين» بالضمير فيهما، والقراءة به في الأول دون الثانية لأبي جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وحفص وَأَنْتُمْ فِيها أي في الجنة، وقيل: في الملاذ المفهومة مما تقدم وهو كما ترى خالِدُونَ دائمون أبد الآبدين، والجملة داخلة في حيز النداء وهي كالتأكيد لقوله تعالى: لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ونودوا بذلك إتماما للنعمة وإكمالا للسرور فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الأحوال، ولله تعالى در القائل:

وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا للمرء خير من نعيم زائل
وعن النصرآباذي أنه إن كان خلودهم لشهوة الأنفس ولذة الأعين فالفناء خير من ذلك وإن كان لفناء الأوصاف والاتصاف بصفات الحق والمقام فيها على سرر الرضا والمشاهدة فانتم إذا أنتم، وأنت تعلم أن ما ذكره يدخل في عموم ما تقدم دخولا أوليا، وذكر بعضهم هنا أن الخطاب هنا من باب الالتفات وأنه للتشريف.
وقال الطيبي: ذق مع طبعك المستقيم معنى الخطاب والالتفات وتقديم الظرف في وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ لتقف على ما لا يكتنهه الوصف وَتِلْكَ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر وقوله تعالى: الَّتِي أُورِثْتُمُوها صفة الجنة وقوله سبحانه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ متعلق بأورثتموها، وقيل: تِلْكَ الْجَنَّةُ مبتدأ وصفة والَّتِي أُورِثْتُمُوها الخبر والجار بعده متعلق به، وقيل: تلك مبتدأ والجنة صفتها والتي أورثتموها صفة الجنة وبما كنتم متعلق بمحذوف هو الخبر.
والإشارة على الوجه الأول إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ وعلى الأخيرين إلى الجنة الواقعة صفة على ما قيل، والباء للسببية أو للمقابلة، وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة من الجنة ونعيمها الباقي لهم بما يخلفه المرء لوارثه من الأملاك والأرزاق ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث اسم فاعل فاستعير الميراث لما استحقوه ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية، وقال بعض: الاستعارة تمثيلية.
وجوز أن تكون مكنية، وقيل: الإرث مجاز مرسل للنيل والأخذ،
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله في النار والمؤمن

صفحة رقم 100

يرث الكافر منزله في الجنة وذلك قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
ولا يخلو الكلام عن مجاز عليه أيضا، وأيّا ما كان فسببية العمل لإيراث الجنة ونيلها ليس إلا بفضل الله تعالى ورحمته عزّ وجلّ، والمراد
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يدخل أحدكم الجنة عمله»
ففي إدخال العمل الجنة على سبيل الاستقلال والسببية التامة فلا تعارض.
وأخرج هناد. وعبد بن حميد في الزهد عن ابن مسعود قال: تجوزون الصراط بعفو الله تعالى وتدخلون الجنة برحمة الله تعالى وتقتسمون المنازل بأعمالكم فتأمل. وقرىء «ورثتموها» لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ بحسب الأنواع والأصناف لا بحسب الأفراد فقط مِنْها تَأْكُلُونَ أي لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في أشجارها فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا،
وفي الحديث «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها»
فمن تبعيضية وجوز كونها ابتدائية، والتقديم للحصر الإضافي وقيل لرعاية الفاصلة.
ولعل تكرير ذكر المطاعم في القرآن العظيم مع أنها كلا شيء بالنسبة إلى سائر أنواع نعيم الجنة لما كان بأكثرهم في الدنيا من الشدة والفاقة فهو تسلية لهم، وقيل: إن ذلك لكون أكثر المخاطبين عواما نظرهم مقصور على الأكل والشرب. وتعقب بأنه غير تام للصوفية، كلام سيأتي في مواضع إن شاء الله عزّ وجلّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أي الراسخين في الإجرام الكاملين فيه وهم الكفار فكأنه قيل: إن الكفار فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ وأيد إرادة ذلك بجعلهم قسيم المؤمنين بالآيات في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا [الزخرف: ٦٩] فلا تدل الآية على خلود عصاة المؤمنين كما ذهب إليه المعتزلة والخوارج، ولا يضر عدم التعرض لبيان حكمهم بناء على أن المراد بالذين آمنوا المتقون لقوله تعالى: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: ٦٨] والقول بأن الذين آمنوا شامل لهم لأن العلة إيمانهم وإسلامهم لا يخفى ما فيه. والظرف متعلق بخالدون وخالدون خبر إن، وجوز أن يكون الظرف هو الخبر وخالدون فاعله لاعتماده لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا، والمادة بأي صيغة كانت تدل على الضعف مطلقا وَهُمْ فِيهِ أي في العذاب، وقرأ عبد الله «فيها» أي في جهنم مُبْلِسُونَ حزينون من شدة البأس، قال الراغب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة البأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل.
ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته انتهى، وقد فسر الإبلاس هنا بالسكوت وانقطاع الحجة وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لسوء اختيارهم، وهُمُ ضمير فصل فيفيد التخصيص، وقرأ عبد الله. وأبو زيد «الظالمون» بالرفع على أن هم مبتدأ وهو خبره، وذكر أبو عمر الجرمي أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ويرفعون ما بعده على الخبر، وقال أبو زيد: سمعتهم يقرؤون «تجدوه عند الله هو خير وأعظم» (١) برفع خير وأعظم، وقال قيس بن ذريح:

تحن إلى ليلى وأنت تركتها وكنت عليها بالملا أنت أقدر
وقال سيبويه: بلغنا أن رؤبة كان يقول أظن زيدا هو خير منك يعني بالرفع وَنادَوْا أي من شدة العذاب.
وفي بعض الآثار يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه العذاب فيقولون: ادعوا مالكا فيدعون يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا من قضى عليه إذا أماته، ومرادهم سل ربك أن يقضي علينا حتى نستريح، واضافتهم الرب إلى ضميره لحثه لا للإنكار، وهذا لا ينافي الإبلاس على التفسير الأول لأنه صراخ وتمني للموت من فرط الشدة، وأما على التفسير الثاني أنه وإن نفاه لكن زمان كل غير زمان الآخر فإن أزمنة العذاب متطاولة وأحقابه
(١) سورة المزمل، الآية: ٢٠.

صفحة رقم 101

ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا خلاص لهم ولو بالموت ويغوثون أوقاتا لشدة ما بهم. وتعقب بأنه لا يناسب دوام الجملة الاسمية أعني وهم مبلسون وقيل إن نادوا معطوف بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا، ولا يخفى أن تلك الجملة حالية لا تنفك عن الخلود.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود وابن وثاب والأعمش «يا مال» بالترخيم
على لغة من ينتظر وقرأ أبو السوار «يا مال» بالترخيم أيضا لكن على لغة من لم ينتظر.
قال ابن جني: وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم فيه ضعفت قواهم وذلت أنفسهم فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة وبهذا يجاب عن قول ابن عباس وقد حكيت له القراءة به على اللغة الأولى: ما أشغل أهل النار عن الترخيم مشيرا بذلك إلى إنكارها فإن ما للتعجب وفيها معنى الصد يعني أنهم في حالة تشغلهم عن الالتفات إلى الترخيم وترك النداء على الوجه الأكثر في الاستعمال، وحاصل الجواب أن هذا الترخيم لم يصدر عنهم لقصد التصرف في الكلام والتفنن فيه كما في قوله:

يحيي رفات العظام بالية والحق يا مال غير ما تصف
بل للعجز وضيق المجال عن الإتمام كما يشاهد في بعض المكروبين قالَ أي مالك إِنَّكُمْ ماكِثُونَ مقيمون في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا غيره، وهذا تقنيط ونكاية لهم فوق ما هم فيه ولا يضر في ذلك علمه بيأسهم إن قلنا به.
وذكر بعض الأجلة أن فيه استهزاء لأنه أقام المكث مقام الخلود والمكث يشعر بالانقطاع لأنه كما قال الراغب ثبات مع انتظار، ويمكن أن يكون وجه الاستهزاء التعبير بما كثون من حيث إنه يشعر بالاختيار وإجابتهم بذلك بعد مدة.
قال ابن عباس يجيبهم بعد مضي ألف سنة، وقال نوف: بعد مائة، وقيل ثمانين، وقيل أربعين.
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ خطاب توبيخ وتقريع من جهته تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم، ولا مانع من خطاب سبحانه الكفرة تقريعا لهم، وقيل: هو من كلام بعض الملائكة عليهم السلام وهو كما يقول أحد خدم الملك للرعية أعلمناكم وفعلنا بكم قيل لا يجوز أن يكون من قول مالك لا لأن ضمير الجمع ينافيه بل لأن مالكا لا يصح منه أن يقوله لأنه لا خدمة له غير خزنه للنار.
وفيه بحث، وقيل: في قالَ ضميره تعالى فالكل مقوله عزّ وجلّ، وقيل: إن قوله تعالى إِنَّكُمْ ماكِثُونَ خاتمة حال الفريقين، وقوله سبحانه لقد إلخ كلام آخر مع قريش والمراد عليه جئناكم في هذه السورة أو القرآن بالحق، وعلى ما تقدم لقد جئناكم في الدنيا بالحق وهو التوحيد وسائر ما يجب الإيمان به وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب ولكن أكثركم للحق أي حق كان كارهون لا يقبلونه وينفرون منه وفسر الحق بذلك دون الحق المعهود سواء كان الخطاب لأهل النار أو لقريش لمكان أَكْثَرَكُمْ فإن الحق المعهود كلهم كارهون له مشمئزون منه، وقد يقال:
الظاهر العهد وعبر بالأكثر لأن من الأتباع من يكفر تقليدا. وقرىء «لقد جئتكم» وقوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً كلام مبتدأ ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأَمْ منقطعة وما فيها معنى بل للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء والهمزة للانكار فإن أريد بالإبرام الأحكام حقيقة فهي لإنكار الوقوع واستبعاده، وإن أريد الأحكام صورة فهي لإنكار الواقع واستقباحه أي بل أبرم مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا حقيقة لا هم أو فانا مبرمون كيدنا بهم حقيقة كما أبرموا كيدهم صورة كقوله تعالى أَمْ

صفحة رقم 102

يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ
[الطور: ٤٢] والآية إشارة إلى ما كان منهم من تدبير قتله عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وإلى ما كان منه عزّ وجلّ من تدميرهم، وقيل: هو من تتمة الكلام السابق، والمعنى أم أبرموا في تكذيب الحق ورده ولم يقتصروا على كراهته فإنّا مبرمون أمرا في مجازاتهم، فإن كان ذاك خطابا لأهل النار فإبرام الأمر في مجازاتهم هو تخليدهم في النار معذبين، وإن كان خطابا لقريش فهو خذلانهم ونصر النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم فكأنه قيل: فإنا مبرمون أمرا في مجازاتهم وإظهار أمرك، وفيه إشارة إلى أن إبرامهم لا يفيدهم، ولا يغني عنهم شيئا والعدول عن الخطاب في أكثركم إلى الغيبة في أبرموا على هذا القيل للإشعار بأن ذلك أسوأ من كراهتهم ويؤيده ما ذكر أولا على ما قيل قوله تعالى:
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ لأنه يدل على أن ما أبرموه كان أمرا قد أخفوه فيناسب الكيد دون تكذيب الحق لأن الكفرة مجاهرون فيه والمراد بالسر هنا حديث النفس أي بل أيحسبون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك الكيد وَنَجْواهُمْ أي تناجيهم وتحادثهم سرا.
وقال غير واحد: السر ما حدثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي بَلى نسمعهما ونطلع عليهما وَرُسُلُنا الذي يحفظون عليهم أعمالهم لَدَيْهِمْ ملازمون لهم يَكْتُبُونَ أي يكتبونهما أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما ذكر.
والمضارع للاستمرار التجددي، وهو مع فاعله خبر ولَدَيْهِمْ حال قدم للفاصلة أو خبر أيضا وجملة المبتدأ والخبر إما عطف على ما يترجم عنه بل أو حال أي نسمع ذلك والحال أن رسلنا يكتبونه، وإذا كان المراد بالسر حديث النفس فالآية ظاهرة في أن السر والكلام المخيل مسموع له تعالى، وكذا هي ظاهرة في أن الحفظة تكتبه كغيره من أقوالهم وأفعالهم الظاهرة، ولا يبعد ذلك بأن يطلعهم الله تعالى عليه بطريق من طرق الاطلاع فيكتبوه.
ومن خص كتابهم بالأمور الغير القلبية خص السر بما حدث به الغير في مكان خال والظاهر أن حسبانهم ذلك حقيقة ولا يستبعد من الكفرة الجهلة، فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة عند الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي فقال واحد منهم ترون الله تعالى يسمع كلامنا فقال واحد: إذا جهرتم وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت أَمْ يَحْسَبُونَ الآية.
وقيل: إنهم نزلوا في إقدامهم على الباطل وعدم خوفهم من الله عزّ وجلّ منزلة من يحسب أن الله سبحانه لا يسمع سره ونجواه قُلْ أي للكفرة تحقيقا للحق وتنبيها لهم على أن مخالفتك لهم بعدم عبادتك ما يعبدون من الملائكة عليهم السلام ليس لبغضك وعداوتك لهم أو لمعبوديهم بل إنما هو لجزمك باستحالة ما نسبوا إليهم وبنوا عليه عبادتهم من كونهم بنات الله سبحانه وتعالى إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي لذلك الولد وكان بمعنى صح كما يقال ما كان لك أن تفعل كذا وهو أحد استعمالاتها، و «أول» أفعل تفضيل والمفضل عليه المقول لهم، وجوز اعتبار ذلك مطلقا، والمراد إظهار الرغبة والمسارعة، والمنساق إلى الذهن الأول.
ووجه الملازمة أنه عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بشؤونه تعالى وبما يجوز عليه وبما لا يجوز أحرصهم على مراعاة حقوقه وما توجيه من تعظيم ولده سبحانه فإن حق الوالد على شخص يوجب عليه تعظيم ولده لما أن تعظيم الولد تعظيم الوالد. فالمعنى إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه، وهذرا نفي

صفحة رقم 103

لكينونة ولد له سبحانه على أبلغ وجه وهو الطريق البرهاني والمذهب الكلامي، فإنه في الحقيقة قياس استثنائي استدل فيه بنفي اللازم البين انتفاؤه وهو عبادته صلّى الله عليه وسلّم للولد على نفي الملزوم وهو كينونة الولد له سبحانه، وذلك نظير قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] لكنه جيء بأن دون لو لجعل ما في حيزها بمنزلة ما لا قطع بعدمه على طريق المساهلة وإرخاء العنان للتبكيت والإفحام.
وفي الكشف أن في الآية مبالغة من حيث إنه جعل الممكن في نفسه أعني عبادته عليه الصلاة والسلام لما يدعونه ولدا محالا فهو نفي لعبادة الولد على أبلغ وجه حيث جعل مسببا عن محال ثم نفى للولد كذلك من طريق آخر وهو أنه لما لم يعبد صلّى الله عليه وسلّم الولد مع كونه أولى بعبادته لو كان دل على نفيه، ونحوها ذكر في الآية مرويا عن قتادة والسدي والطبري.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن المعنى قل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول من عبد الله تعالى وحده وكذبكم بما تقولون فالمراد من كونه عليه الصلاة والسلام أول العابدين كونه صلّى الله عليه وسلّم أول من ينكر ذلك عليهم، والملازمة في الشرطية باعتبار أن نسبتهم الولد له تعالى تقتضي أن يكذبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن يكون أول من ينكره لأنه صاحب الدعوة إلى التوحيد، وقد خفي ذلك على الإمام فنفى صحة هذا الوجه، وتكلف بعضهم فقال: إن تسبب الجزاء عن الشرط عليه باعتبار الأولية في العبادة والتوحيد من بينهم فإنهم إذا أطبقوا على ذلك الزعم يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم أولهم في عبادة الله تعالى وحده لا محالة، وقيل: إن السببية باعتبار الأخبار والذكر نحو إن تضربني فأنا لا أضربك وهو أولى مما قبله، والإنصاف أن الارتباط خفي لا يظهر إلا لمجاهد، وحكى أبو حاتم عن جماعة ولم يسم أحدا منهم أن الْعابِدِينَ من عبد يعبد كفرح يفرح إذا أنف من الشيء، ومنه قوله:
وأعبد أن أهجو كليبا بدارم وقول الآخر:

متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما
أي إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين من الولد أو من كونه لله سبحانه ونسبته له عزّ وجلّ. وروي نحو هذا عن ابن عباس أخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ فقال: أنا أول من ينفر عن أن يكون لله تعالى ولد، وأيد ذلك بقراءة السلمي واليماني «العبدين» جمع عبد كحذر وحذرين وهو للمعروف في معنى أنف وقلما يقال فيه عابد، ومن هنا ضعف ابن عرفة هذا الوجه لما فيه من استعمال ما قل استعماله في كلامهم، وذكر الخليل في كتاب العين أنه قرىء «العبدين» بسكون الباء تخفيفي العبدين بكسرها، وقال أبو حاتم:
العبد بكسر الباء الشديد الغضب، وقال أبو عبيدة: العرب تقول عبدني حقي أي جحدني، وروي عن الحسن وابن زيد وزهير بن محمد وهو رواية عن ابن عباس وقتادة والسدي أيضا أن إِنْ نافية أي ما كان للرحمن ولد فانا أول من قال ذلك وعبد ووحد، وكانَ عليه للاستمرار والمقصود استمرار النفي لا نفي الاستمرار والفاء للسببية. وتعقب بأنه خلاف الظاهر مع خفاء وجه السببية أو حسنها، وزعم مكي أنه لا يجوز لإيهامه نفي الولد فيما مضى وهو كما ترى.
وقرأ عبد الله وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي كما قال القاضي «ولد» بضم الواو وسكون اللام جمع ولد بفتحهما.
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي عن وصفهم أو الذي يصفونه به من كونه سبحانه له ولد، وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت

صفحة رقم 104

تحت ملكوته تعالى وربوبيته عزّ وجلّ كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءا منه سبحانه وهو ينافي وجوب الوجود، وفي تكرير ذلك الاسم الجليل تفخيم لشأن العرش فَذَرْهُمْ فدعهم غير ملتفت إليهم حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي يَخُوضُوا في أباطيلهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم فإن ما هم فيه من الأقوال والأفعال ليس إلا من باب الجهل، والجزم لجواب الأمر حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وهو يوم القيامة عند الأكثرين، وعن عكرمة. وجماعة أنه يوم بدر وقد وعدوا الهلاك فيه، وقريب منه تفسيره بيوم الموت، وقيل: ينبغي تفسيره به دون يوم القيامة لأن الغاية للخوض واللعب إنما هو يوم الموت لانقطاعهما بالموت، وانتصر للأكثرين بأن يوم القيامة هو اليوم الموعود وبه سمي في لسان الشرع وتفسيره بذاك مخالف لمعروف ولما بعد من ذكر الساعة، وما ذكر من أمر الانقطاع مدفوع بأن الموت وما بعده في حكم القيامة ولذا ورد من مات فقد قامت قيامته ومثله قد يراد به الدلالة على طول المدة مع قطع النظر عن الانتهاء فيقال: لا يزال في ضلالة إلى أن تقوم القيامة.
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو «يلقوا» مضارع لقي، والآية قيل منسوخة بآية السيف وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ الظرفان متعلقان بإله لأنه صفة بمعنى معبود من أله بمعنى عبد وهو خبر مبتدأ محذوف أي هو إله وذلك عائد الموصول وحذف لطول الصلة بمتعلق الخبر والعطف عليه.
وقال غير واحد: الجار متعلق بإله باعتبار ما ينبىء عنه من معنى المعبودية بالحق بناء على اختصاصه بالمعبود بالحق وهذا كتعلق الجار بالعلم المشتهر بصفة نحو قولك: هو حاتم في طيء حاتم في تغلب، وعلى هذا تخرج قراءة عمر وعلي وعبد الله وأبي والحكم بن أبي العالي وبلال بن أبي بردة وابن يعمر وجابر وابن زيد وعمر بن عبد العزيز وأبو شيخ الهنائي وحميد وابن مقسم وابن السميفع «وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله» فيعلق الجار بالاسم الجليل باعتبار الوصف المشتهر به، واعتبر بعضهم معنى الاستحقاق للعبادة وعلل ذلك بأن العبادة بالفعل لا تلزم، وجوز كون الجار والمجرور صلة الموصول، و «إله» خبر مبتدأ محذوف أيضا على أن الجملة بيان للصلة وأن كونه سبحانه في السماء على سبيل الإلهية لا على معنى الاستقرار.
واختير كون إِلهٌ في هذا الوجه خبر مبتدأ محذوف على كونه خبرا آخر للمبتدأ المذكور أو بدلا من الموصول أو من ضميره بناء على تجويزه لأن إبدال النكرة الغير الموصوفة من المعرفة إذا أفادت ما لم يستفد أولا كما هنا جائز حسن على ما قال أبو علي في الحجة لأن البيان هاهنا أتم وأهم فلذا رجح مع ما فيه من التقدير وحينئذ فلا فاصل أجنبي بين المتعاطفين، ولا يجوز كون الجار والمجرور خبر مقدما وإله مبتدأ مؤخرا للزوم خلو الجملة عن العائد مع فساد المعنى، وفي الآية نفي الآلهة السماوية والأرضية واختصاص الإلهية به عزّ وجلّ لما فيها من تعريف طرفي الإسناد. والموصول في مثل ذلك كالمعرف بالأداة وللاعتناء بكل من إلهيته تعالى في السماء وإلهيته عزّ وجلّ في الأرض قيل وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ولم يقل: وهو الذي في السماء وفي الأرض إله أو هو الذي في السماء والأرض إله، وحديث الإعادة قيل مما لا يجري هاهنا لأن القاعدة أغلبية كأكثر قواعد العربية.
وقال بعض الأفاضل: يجوز إجراء القاعدة فيه والمغايرة بين الشيئين أعم من أن تكون بالذات أو بالوصف والاعتبار والمراد هنا الثاني ولا شك أن طريق عبادة أهل السماء له تعالى غير طريق عبادة أهل الأرض على ما يشهد به تتبع الآثار فإذا كان إله بمعنى معبود كان معنى الآية أنه تعالى معبود في السماء على وجه ومعبود في الأرض على وجه آخر، وإن كان بمعنى التحير فيه فالتحير في أهل السماء غير التحير في أهل الأرض فلا جرم تكون أطوارهم مخالفة لأطوار أهل الأرض، ومن ذلك اختلاف علومهم فإن علوم أهل الأرض إن كانت ضرورية فأكثرها مستندة إلى الحس وإن كانت نظرية كانت مكتسبة من النظر فإذا انسد طريق النظر والحسن عجزوا وتحيروا ولا كذلك أهل السماء

صفحة رقم 105

لتنزههم عن الكسب والحسن فتحيرهم على نحو آخر، أو نقول التحير في إدراك ذاته تعالى وصفاته إنما ينشأ من مشاهدة آثار عظمته وكمال قدرته سبحانه ولا شك أن تلك الآثار في السماء أعظم من الآثار في الأرض وعليه فيجوز أن يكون الإله بمعنى المتحير فيه ويكون مجازا عن عظيم الشأن من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم فيكون المعنى أنه تعالى عظيم الشأن في السماء على نحو وعظيم الشأن في الأرض على نحو آخر اهـ، ولا يخلو عن شيء كما لا يخفى وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ كالدليل على النفي والاختصاص المشار إليهما فإن من لا يتصف بكمال الحكمة والعلم لا يستحق الإلهية.
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كالهواء ومخلوقات الجو المشاهدة وغيرها وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي العلم بالساعة أي الزمان الذي تقوم القيامة فيه فالمصدر مضاف لمفعوله، والساعة بمعناها اللغوي وهو مقدار قليل من الزمان، ويجوز أن يراد بها معناها الشرعي وهو يوم القيامة، والمحذور مندفع بأدنى تأمل، وفي تقديم الخبر إشارة إلى استئثاره تعالى بعلم ذلك وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء، والالتفات إلى الخطاب للتهديد، وقرأ الأكثر بياء الغيبة والفعل في القراءتين مبني للمفعول وقرىء بفتح تاء الخطاب والبناء للفاعل، وقرىء «تحشرون» بتاء الخطاب أيضا والبناء للمفعول وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي ولا يملك آلهتهم الذين يدعونهم مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله عزّ وجلّ، وقرىء «تدعون» بتاء الخطاب والتخفيف والسلمي وابن وثاب بها وشد الدال إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ الذي هو التوحيد وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي يعلمونه، والجملة في موضع الحال، وقيد بها لأن الشهادة عن غير علم بالمشهود به لا يعول عليها، وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن الأفراد أولا باعتبار لفظه، والمراد به الملائكة وعيسى وعزير وأضرابهم صلاة الله تعالى وسلامه عليهم، والاستثناء قيل: متصل إن أريد بالذين يدعون من دونه كل ما يعبد من دون الله عزّ وجلّ ومنفصل إن أريد بذلك الأصنام فقط، وقيل: هو منفصل مطلقا وعلل بأن المراد نفي ملك الآلهة الباطلة الشفاعة للكفرة ومن شهد بالحق منها لا يملك الشفاعة للمؤمنين فكأنه قيل على تقدير التعميم: ولا يملك الذين يدعونهم من دون الله تعالى كائنين ما كانوا الشفاعة لهم لكن من شهد بالحق يملك الشفاعة لمن شاء الله سبحانه من المؤمنين فالكلام نظير قولك: ما جاء القوم إلي إلا زيدا جاء إلى عمرو فتأمل.
وقال مجاهد وغيره: المراد بمن شهد بالحق المشفوع فيهم، وجعل الاستثناء عليه متصلا والمستثنى منه محذوفا كأنه قيل: ولا يملك هؤلاء الملائكة واضرابهم الشفاعة في أحد إلا فيمن وحد عن إيقان وإخلاص ومثله في حذف المستثنى منه قوله:

نجا سالم والنفس منه بشرقة ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
أي واستدل بالآية على أن العلم مما لا بد منه في الشهادة دون المشاهدة.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ أي سألت العابدين أو المعبودين لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لتعذر المكابرة في ذلك من فرط ظهوره ووجه قول المعبودين ذلك أظهر من أن يخفى فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره سبحانه ويشركونه معه عزّ وجلّ مع إقرارهم بأنه تعالى خالقهم أو مع علمهم بإقرار آلهتهم بذلك، والفاء جزائية أي إذا كان الأمر كذلك فإني إلخ، والمراد التعجب من إشراكهم مع ذلك، وقيل: المعنى فكيف يكذبون بعد علمهم بذلك فهو تعجب من عبادة غيره تعالى وإنكارهم للتوحيد مع أنه مركوز في فطرتهم، وأيّاما كان فهو متعلق بما قبله من التوحيد والإقرار بأنه تعالى هو الخالق، وأما كون المعنى فكيف أو أين يصرفون عن التصديق بالبعث مع أن الإعادة

صفحة رقم 106

أهون من الإبداء وجعله متعلقا بأمر الساعة كما قيل فيأباه السياق.
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «تؤفكون» بتاء الخطاب وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ بحر «قيلة» وهي قراءة عاصم وحمزة والسلمي وابن وثاب. والأعمش.
وقرأ الأعرج وأبو قلابة ومجاهد والحسن وقتادة ومسلم بن جندب برفعه وهي قراءة شاذة.
وقرأ الجمهور بنصبه، واختلف في التخريج فقيل الجر على عطفه لفظ الساعة في قوله تعالى وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي عنده علم قيله، والنصب على عطفه على محلها لأنها في محل نصب بعلم المضاف إليها فإنه كما قدمنا مصدر مضاف لمفعوله فكأنه قيل: يعلم الساعة ويعلم قيله، والرفع على عطفه على عِلْمُ السَّاعَةِ على حذف مضاف والأصل وعلم قيله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ونسب الوجه الأول لأبي علي والثالث لابن جني وجميع الأوجه للزجاج وضمير قِيلِهِ عليها للرسول صلّى الله عليه وسلّم المفهوم من قوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ والقيل والقال والقول مصادر جاءت بمعنى واحد، والمنادى وما في حيزه مقول القول، والكلام خارج مخرج التحسر والتحزن والتشكي من عدم إيمان أولئك القوم، وفي الإشارة إليهم بهؤلاء دون قوله قومي ونحوه تحقير لهم وتبرّ منهم لسوء حالهم، والمراد من أخباره تعالى بعلمه ذلك وعيده سبحانه إياهم، وقيل: الجر على إضمار حرف القسم والنصب على حذفه وإيصال فعله إليه محذوفا والرفع على نحو لعمرك لأفعلن وإليه ذهب الزمخشري وجعل المقول يا رب وقوله سبحانه إِنَّ هؤُلاءِ إلخ جواب القسم على الأوجه الثلاثة وضمير قِيلِهِ كما سبق، والكلام إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون وإقسامه سبحانه عليه بقوله صلّى الله عليه وسلّم: يا رب لرفع شأنه عليه الصلاة والسلام وتعظيم دعائه والتجائه إليه تعالى، والواو عنده للعطف أعني عطف الجملة القسمية على الجملة الشرطية لكن لما كان القسم بمنزلة الجملة الاعتراضية صارت الواو كالمضمحل عنها معنى العطف، وفيه أن الحذف الذي تضمنه تخريجه من ألفاظ شاع استعمالها في القسم كعمرك وايمن الله واضح الوجه على الأوجه الثلاثة، وأما في غيرها كالقيل هنا فلا يخلو عن ضعف، وقيل: الجر على أن الواو واو القسم والجواب محذوف أي لننصرنه أو لنفعلن بهم ما نشاء حكاه في البحر وهو كما ترى، وقيل:
النصب على العطف على مفعول يكتبون المحذوف أي يكتبون أقوالهم وأفعالهم وقيله يا رب إلخ وليس بشيء، وقيل:
بشيء، هو على العطف على مفعول يعلمون أعني الحق أي يعلمون الحق وقيل إلخ، وهو قول لا يكاد يعقل، وعن الأخفش أنه على العطف على سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ورد بأنه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم. وتعقب أن ما ذكر من الفصل ظاهر وأما ضعف المعنى وتنافر النظم فغير مسلم لأن تقديره أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وأنا لا نسمع قيله إلخ وهو منتظم أتم انتظام، وعنه أيضا أنه على إضمار فعل من القيل ناصب له على المصدرية والتقدير قال قيله ويؤيده قراءة ابن مسعود «وقال الرسول» والجملة معطوفة على ما قبلها. ورد بأنه لا يظهر فيه ما يحسن عطفه على الجملة قبله وليس التأكيد بالمصدر في موقعه ولا ارتباط لقوله تعالى فَاصْفَحْ به، وقال العلامة الطيبي في توجيهه: إن قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ تقديره وقلنا لك: ولئن سألتهم إلخ وقلت: يا رب يأسا من إيمانهم وإنما جعل غائبا على طريق الالتفات لأنه كأنه صلّى الله عليه وسلّم فاقد نفسه لتحزن عليهم حيث لم ينفع فيهم سعيه واحتشاده، وقيل: الواو على هذا الوجه للحال وقال بتقدير قد والجملة حالية أي فأنّى يؤفكون وقد قال الرسول يا رب إلخ، وحاصله فأنّى يؤفكون وقد شكا الرسول عليه الصلاة والإسلام إصرارهم على الكفر وهو خلاف الظاهر، وقيل: الرفع على الابتداء والخبر يا رب إلى لا يؤمنون أو هو محذوف أي مسموع أو متقبل فجملة النداء وما بعده في موضع نصب بقيله والجملة حال أو معطوفة، ولا يخفى ما في ذلك، والأوجه عندي ما نسب إلى الزجاج،

صفحة رقم 107

والاعتراض عليه بالفصل هين، وبضعف المعنى والتنافر غير مسلم، ففي الكشف بعد ذكر تخريج الزجاج الجر أن الفاصل أعني من قوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ- إلى- يُؤْفَكُونَ يصلح اعتراضا لأن قوله سبحانه وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ مرتبط بقوله تعالى: حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ على ما لا يخفى، والكلام مسوق للوعيد البالغ بقوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى قوله عزّ وجلّ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ متصل بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ اتصال العصا بلحاها، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ خطاب لمن يتأتى منه السؤال تتميم لذلك الكلام باستحقاقهم ما أوعدوه لعنادهم البالغ، ومنه يظهر وقوع التعجب في قوله سبحانه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وعلى هذا ظهر ارتباط وعلم قيله بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وأن الفاضل متصل بهما اتصالا يجل موقعه، ومن هذا التقرير يلوح أن ما ذهب إليه الزجاج في الأوجه الثلاثة حسن، ولك أن ترجحه على ما ذهب إليه الأخفش بتوافق القراءتين، وأن حمل وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ على الخطاب المتروك إلى غير معين أوفق بالمقام من حمله على خطابه عليه الصلاة والسلام وسلامته من إضمار القول قبل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مع أن السياق غير ظاهر الدلالة عليه اهـ، وهو أحسن ما رأيته للمفسرين في هذا المقام. وقرأ أبو قلابة «يا رب» بفتح الباء ووجه ظاهر فَاصْفَحْ فأعرض عَنْهُمْ ولا تطمع في إيمانهم، وأصل الصفح ليّ صفحة العنق فكني به عن الإعراض.
وَقُلْ لهم سَلامٌ أي امري سلام تسلم منكم ومتاركة فليس ذلك أمرا بالسلام عليهم والتحية وإنما هو أمر بالمتاركة، وحاصله إذا أبيتم القبول فأمري التسلم منكم، واستدل بعضهم بذلك على جواز السلام على الكفار وابتدائهم بالتحية، أخرج ابن أبي شيبة. عن شعيب بن الحبحاب قال: كنت مع علي بن عبد الله البارقي فمر علينا يهودي أو نصراني فسلم عليه قال شعيب: فقلت: إنه يهودي أو نصراني فقرأ علي آخر سورة الزخرف وَقِيلِهِ يا رَبِّ إلى الآخر، وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال قلت لعمر بن عبد العزيز كيف تقول أنت في ابتداء أهل الذمة بالسلام؟ فقال: ما أرى بأسا أن نبتدئهم قلت لم؟ قال: لقوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ ومما ذكرنا يعلم ضعفه، وقال السدي المعنى قل خيرا بدلا من شرهم، وقال مقاتل: اردد عليهم معروفا، وحكى الماوردي أي قل ما تسلم به من شرهم والكل كما ترى والحق ما قدمنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حالهم السيئة وإن تأخر ذلك وهو وعيد من الله سبحانه لهم وتسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ أبو جعفر والحسن والأعرج ونافع وهشام «تعلمون» بتاء الخطاب على أنه داخل في حيز قُلْ وإن أريد من الآية الكف عن القتال فهي منسوخة وإن أريد الكف عن مقابلتهم بالكلام فليست بمنسوخة والله تعالى أعلم.

صفحة رقم 108
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية