
إلى الله إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا بغيره. قال الله تعالى مقررا لجواب مالك ومبينا لسبب مكثهم لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ أي بالدين الحق في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أي ينفرون عنه ويبغضونه أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أي أأتقن مشركو مكة أمرا في كيدهم برسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنّا متقنون كيدنا حقيقة، وكانوا يتشاورون في أموره صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أي بل يحسبون أنّا لا نسمع ما حدّثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال وما تكلموا فيما بينهم بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) أي بلى نسمعهما ونطلع عليهما، والحال أن رسلنا وهم الحفظة الذين يلازمونهم أينما كانوا يكتبون عليهم كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) لذلك الولد، فإن السلطان إذا كان له ولد يجب على عبده أن يخدمه كما يجب عليه أن يخدم السلطان والمعنى إن قام الدليل على ثبوت الولد له تعالى كنت مقرا بوجوب خدمته، لكن لم يوجد الدليل على ثبوته، بل الدليل القاطع قائم على عدمه، فكيف أقر بوجوده؟ قال بعضهم: إن كلمة «إن» هاهنا نافية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول المقرين من أهل مكة بأن ليس لله ولد وأنا أول الموحدين منهم أن لا شريك له تعالى. وقرأ حمزة والكسائي «ولد» بضم الواو وإسكان اللام، والباقون بفتحهما سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) من أن له ولدا فَذَرْهُمْ أي فاتركهم في ذلك الباطل حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي فَذَرْهُمْ أي يفعلوا في أباطيلهم، وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) أي حتى يصلوا إلى اليوم الّذي يوعدون فيه بالعذاب، وهو يوم القيامة، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي وهو الّذي هو معبود في السماء، ومعبود في الأرض، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤)
فكونه بليغ الحكمة في تدبير خلقه وبالغا في العلم بمصالحهم ينافي حصول الولد له، وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي دام الذي له ملكها وكثرت خيراته، فعيسى ليس ولد الله تعالى لأنه حدث بعد أن لم يكن، ثم إنه مات ولأنه محتاج إلى الطعام فالذي هذا صفته كيف يكون ولدا لمن كان خالقا للسموات والأرض وما بينهما؟! ولا مجانسة بين عيسى والباقي الغني عن كل شيء، فامتنع كونه ولدا له تعالى، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم وقت قيامها ومن كان كاملا في الذات والعلم والقدرة امتنع أن يكون له ولد عاجز وعديم العلم في أحوال العالم بالحد الّذي وصفه النصارى، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥). وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتهديد، وقرئ «تحشرون» بالتاء.
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ أي أن الملائكة وعيسى عزيرا الذين كانوا يعبدهم الكفار من دون الله لا يشفعون إلّا لمن شهد بالحق، وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) بقلوبهم ما يشهدون به بألسنتهم.

روي أن النضر بن الحرث ونفرا معه قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نعبد الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمد، فأنزل الله هذه الآية، ويقال: إن كل معبود من دون الله لا يملكون الشفاعة إلّا من شهد أنه لا إله إلّا الله وهم الملائكة وعيسى وعزيرا فإن لهم شفاعة عند الله، وهم يعلمون أن الله خلقهم وأنهم عباده، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي الكفار الذين ادعوا الشريك لله مَنْ خَلَقَهُمْ أي العابدين والمعبودين معا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) أي فكيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره مع اعترافهم بكون الكل مخلوقا له تعالى، ولم يكذبون على الله؟
حيث قالوا: إن الله أمرنا بعبادة الأصنام وَقِيلِهِ قرأ الأكثرون بالنصب على المصدر أي قال النبي قوله، أو عطف على «سرهم»، أو على محل الساعة، وقرأ عاصم، وحمزة بالجر عطف على «الساعة» أو أن الواو للقسم، وقرأ الأعرج، وأبو قلابة، ومجاهد، والحسن بالرفع عطف على «علم الساعة»، أو مبتدأ وخبره ما بعده يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) بك وبرسولك قال تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي فأعرض عنهم بغير التبليغ، وبالدعاء عليهم بالعذاب، وَقُلْ سَلامٌ أي شأني الآن متاركة بسلامتكم مني، وسلامتي منكم، فهذا تباعد منهم، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩) ما يفعل بهم.
وقرأ نافع، وابن عامر بتاء الخطاب على الالتفات لزيادة التهديد، والتقريع، والباقون بالياء كناية عن قوم لا يؤمنون. وهذه الآية غير منسوخة لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة، فإذا أتي به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ.