من الماء، مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا». والعبارة الأخيرة تدلّ على جواز منع الضّرر، وفي الحديث دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وفيه دليل على جواز القرعة واستعمالها.
١٢- إن التّمتع بالدنيا قليل وعمرها قصير، والآخرة أي الجنة لمن اتّقى وخاف.
أخرج التّرمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر».
وقد تقدّم حديث الترمذي عن سهل بن سعد: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».
حال المعرض عن ذكر الله وتثبيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم على دعوته
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٦ الى ٤٥]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
الإعراب:
وَمَنْ يَعْشُ... نُقَيِّضْ مَنْ: شرطية، وما بعدها فعل الشرط وجوابه.
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ... جمع الضميرين مراعاة لمعنى مَنْ إذ المراد جنس العاشي والشيطان المقيض له. وأما ضمير لَهُ فروعي فيه لفظ مَنْ وهكذا أعاد الضمير أولا على اللفظ، ثم على المعنى. وضمير لَيَصُدُّونَهُمْ عائد على جنس الشيطان وبما أن لكل عاش شيطانا قرينا، فجاز أن يعود الضمير مجموعا. وقال ابن عطية: ضمير وَإِنَّهُمْ عائد على الشيطان، وضمير لَيَصُدُّونَهُمْ عائد على الكفار، قال أبو حيان: والأولى ما ذكر أولا لتناسق الضمائر في وَإِنَّهُمْ وفي لَيَصُدُّونَهُمْ وفي وَيَحْسَبُونَ لمدلول واحد كأن الكلام: وفي وَإِنَّهُمْ وفي لَيَصُدُّونَهُمْ وفي وَيَحْسَبُونَ لمدلول واحد كأن الكلام: وإن العشاة ليصدونهم الشياطين عن سبيل الهدى والفوز. وَيَحْسَبُونَ أي الكفار.
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ... إِذْ بدل من اليوم.
فَإِمَّا فيه إدغام نون «إن» الشرطية في «ما» الزائدة المؤكدة بمنزلة لام القسم في طلب النون المؤكدة.
البلاغة:
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ استعارة تمثيلية، شبه الكفار بالصم والعمي.
والهمزة: إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم بعد استغراقهم في الضلال.
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا جناس الاشتقاق، لتغير الشكل وبعض الحروف بينهما.
المفردات اللغوية:
يَعْشُ يتغافل ويتعام ويعرض، لفرط اشتغاله بالمحسوسات وانهماكه في الشهوات، وقرئ «يعش» بالفتح، وقرئ «يعشو» على أن مَنْ موصولة يقال: عشي يعشى كرضي يرضى وعرج يعرج: إذا كان في بصره آفة ذِكْرِ الرَّحْمنِ القرآن. نُقَيِّضْ نهيئ ونسبب ونضم إليه شيطانا. قَرِينٌ رفيق ملازم لا يفارقه، يوسوسه ويغويه دائما.
وَإِنَّهُمْ أي الشياطين. لَيَصُدُّونَهُمْ أي العاشين. عَنِ السَّبِيلِ طريق الهدى.
وَيَحْسَبُونَ أي الكفار. جاءَنا العاشي، بقرينه يوم القيامة. يا لَيْتَ يا
للتنبيه بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي بعد ما بين المشرق والمغرب، مغلّبا المشرق على المغرب. فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت، والْقَرِينُ الصاحب والصديق.
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أي العاشين تمنيكم وندمكم في القيامة: إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ أي تبين لكم ظلمكم بالإشراك. أَنَّكُمْ أي لأنكم مع قرنائكم، بتقدير لام العلة، وقرئ «إنكم» بالكسر فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ تشتركون مع شياطينكم في العذاب، كما كنتم مشتركين في سببه.
الصُّمَّ جمع أصم وهو الذي في أذنه صمم. فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في خطإ بيّن، فهم لا يؤمنون، وقوله: وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ عطف على العمي، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى.
نَذْهَبَنَّ بِكَ أي فإن قبضناك وأمتناك قبل تعذيبهم. مُنْتَقِمُونَ بعدك في الدنيا أو الآخرة. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أي نبصرنك ما وعدناهم به من العذاب. فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ قادرون على عذابهم.
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ أي تمسك بالقرآن وقرئ «أوحى» أي الله تعالى. عَلى صِراطٍ طريق. مُسْتَقِيمٍ لا عوج له. لَذِكْرٌ لشرف عظيم به تذكر لَكَ وَلِقَوْمِكَ لنزوله بلغتهم. وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ عنه يوم القيامة عن القيام بحقه، بأداء التكاليف فيه من أمر ونهي. وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أي واسأل سلالتهم وعلماء دينهم. مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ غيره. آلِهَةً يُعْبَدُونَ هل حكمنا بعبادة الأوثان، وهل جاءت ملة من الملل به؟
والمراد الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد، والدلالة على أن الأمر به قديم غير جديد.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٦) :
وَمَنْ يَعْشُ: أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي: أن قريشا قالت: قيّضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه، فقيّضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله، فأتاه، وهو في القوم، فقال أبو بكر: إلام تدعوني؟
قال: أدعوك إلى عبادة اللّات والعزّى، قال أبو بكر: وما اللّات؟ قال:
ربنا، قال: وما العزّى؟ قال: بنات الله، قال أبو بكر: فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه، فقال طلحة لأصحابه: أجيبوا الرجل، فسكت القوم، فقال
طلحة: قم يا أبا بكر، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فأنزل الله هذه الآية: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً الآية.
سبب نزول الآية (٤١) :
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ..: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعب نفسه في دعاء قومه، وهم لا يزيدون إلا غاليا، فنزلت الآية: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ.. الآية.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن المال متاع الدنيا، وهو زائل، نبّه إلى آفات المال، لأن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله، وصار من جلساء الشياطين الضالين المضلين الذين يصدون الناس عن طريق الهداية في الدنيا، أما في الآخرة فيتبرأ الكافر من قرينه الشيطان. وهما في العذاب مشتركان، والاشتراك في العذاب لا يفيد التخفيف كما كان يفيده في الدنيا.
وبعد أن وصف الله تعالى المعرضين عن ذكره بالعشا، وصفهم أيضا بالصمم والعمى، بسبب كونهم في ضلال مبين، ولما بيّن تعالى أن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا تؤثر في قلوب هؤلاء، تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم، بيّن أنه لا بد وأن ينتقم لأجله منهم، إما حال حياته أو بعد وفاته، ثم أمره ربه أن يتمسك بما أمره به، فإنه على صراط مستقيم نافع، هو منهج القرآن الذي فيه شرف عظيم له ولقومه، وسوف يسألون عن القيام بحقه.
ثم أبان تعالى أن إنكار عبادة الأصنام في رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم ليس خاصا به، بل كل الأنبياء والرسل كانوا مجمعين على إنكاره.
التفسير والبيان:
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أي ومن
يتعام ويتغافل ويعرض عن النظر في القرآن والعمل به، نهيئ له شيطانا يوسوس له ويغويه، فهو له ملازم لا يفارقه، بل يتبعه في جميع أموره، ويطيعه في كل ما يزين له به. والعشا في العين: ضعف البصر، والمراد هنا عشا البصيرة.
والمراد بالآية: إن من يعرف كون القرآن حقا ولكنه يتجاهل ذلك فهو في ضلال، ومادة كل آفة وبلية الركون إلى الدنيا وأهلها، فإن ذلك بمنزلة الرمد للبصر، ثم يصير بالتدريج كالعشى، ثم كالعمى.
والآية مثل قوله تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [فصلت ٤١/ ٢٥]. وجاء في صحيح مسلم وغيره أن مع كل مسلم قرينا من الجن، وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أي وإن الشياطين الذين يقيّضهم الله لكل من يعشو عن ذكر الرحمن، ليمنعونهم بالوسواس عن سبيل الحق والرشاد، ويحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم مهتدون إلى الحق والصواب.
ثم يتبرأ الكافر في الآخرة من قرينة الشيطان، فقال تعالى:
حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ، فَبِئْسَ الْقَرِينُ أي حتى إذا وافانا الكافر يوم القيامة، يتبرم بالشيطان الذي وكل به، ويتبرأ منه، ويتمنى الكافر أن بينه وبين الشيطان المقارن له من البعد ما بين المشرق والمغرب، فبئس الصاحب الملازم للإنسان شيطانه.
وقرأ بعضهم: «حتى إذا جاءنا» أي القرين والمقارن.
ويقال لهم يوم القيامة توبيخا كما حكى تعالى:
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي ويقال لهم في الآخرة توبيخا وتأنيبا وتيئيسا: لن ينفعكم في هذا إذ تبين أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا اشتراككم في العذاب، فلا يخفف عن كل منكما شيء منه، بخلاف حال الدنيا، فإن المصيبة فيها إذا عمت هانت. وهذا يدل على أن حصول الشركة في العذاب لا يفيد التخفيف، كما كان يفيده في الدنيا، لأن اشتغال كل واحد بنفسه في شدة العذاب، يذهله عن حال الآخر، فلا تفيد الشركة الخفة، ولا يتمكن كل واحد من مواساة الآخر في كربه وحزنه وألمه، فلكل قدر مشترك من العذاب.
ثم بيّن الله تعالى لرسوله أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم تسلية له، فقال:
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي أتستطيع يا محمد إسماع أهل الصمم أو هداية أهل العمى أو إرشاد من مستغرقا في ضلال واضح بيّن. وهذا بعد أن وصفهم تعالى بالعشا، وصفهم بأوصاف ثلاثة هي: الصمم والعمى والضلال البيّن، فهؤلاء الكفار ضعاف البصيرة، بمنزلة الصم الذين لا يسمعون ما جئت به أيها الرسول، وبمنزلة العمي الذين لا يبصرونه، وهم مفرطون في الضلالة والكفر والجهالة.
وكان التناسب بينهم وبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم عكسيا، فهو صلّى الله عليه وسلّم يبالغ في دعوتهم إلى الإيمان الحق، وهم لا يزدادون إلا غيا وتعاميا عن بيّنات القرآن ودلائل النبوة، إمعانا في الكفر، وعنادا في الباطل.
ثم أعلم الله رسوله بانتقامه منهم، فقال:
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ أي إنهم لا يفلتون من العقاب في العاجل أو الآجل، فإن قبضنا روحك وأمتناك أيها الرسول قبل نزول العذاب بهم، فنحن منتقمون منهم إما في
الدنيا أو في الآخرة، وإن أبصرناك الذي وعدناهم به من العذاب قبل موتك، فنحن قادرون أيضا عليه، ومتى شئنا عذبناهم. وقد أقر الله عينه في حال حياته، فقهرهم يوم بدر، وأصبح المتحكم فيهم، المالك لحصونهم وقلاعهم.
والتعبير بالوعد دليل على وقوعه حتما، لأن الله لا يخلف الميعاد.
وبعد هذا الوعد بالنصر، أمره الله بشدة التمسك بالقرآن وهديه، فقال:
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ، إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي تمسّك أيها الرسول بالقرآن الموحى به إليك من ربك، فإنك على طريق قويم ومنهج سليم، مؤد إلى السعادة في الدنيا، والنجاة في الآخرة، وإن كذّب به من كذّب، فذاك لا يضيرك.
ثم أبان تعالى منزلة القرآن، فقال:
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ أي وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقريش والعرب عامة، إذ نزل بلغتهم، وسوف تسألون عن هذا القرآن وكيف عملتم به واستجبتم له وما يلزمهم من القيام بحقه.
ونظير الآية قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء ٢١/ ١٠] أي شرفكم،
أخرج البخاري والترمذي عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن هذا الأمر في قريش، لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين»
يعني الخلافة فإنها في قريش لا تكون في غيرهم،
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم عن جابر: «الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم».
وهذا التنويه بمنزلة العرب يجعلهم أولى الناس باتباع القرآن والعمل بأحكامه وشرائعه، وإن كانت الرسالة الإسلامية عامة للناس قاطبة.
ثم نبّه اللَّه تعالى إلى أن الدعوة إلى توحيد اللَّه ونبذ الشرك قديم، فقال:
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي واسأل سلالات الأمم التي أرسلنا فيها الأنبياء وعلماءهم، هل أذن اللَّه بعبادة الأوثان في ملة من الملل؟ والمعنى: جميع الرسل دعوا إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كما قال جل جلاله: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
والمراد بهذا التنبيه على إجماع المرسلين على التوحيد، وعلى أن محمّدا صلّى اللَّه عليه وسلّم ليس ببدع من بين الرسل في الأمر به، وهذا يدل على وحدة الدين الحق في أصوله، ووحدة مهمة الأنبياء عليهم السلام.
وسبب هذا الأمر أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك، فأمره اللَّه بسؤاله الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير والتأكيد، لا لأنه كان في شك منه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يلي:
١- إن الإضلال من اللَّه تعالى لا يكون إلا بعد إعراض الناس عن أوامر اللَّه، فمن يتعام ويتغافل عن آيات القرآن وشرائعه وأحكامه، ويعرض عنها إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم، نهيئ شيطانا يغويه، جزاء على كفره، فهو له قرين وصاحب ملازم في الدنيا، يمنعه من الحلال، ويبعثه على الحرام، وينهاه عن الطاعة، ويأمره بالمعصية، وقرين له في الآخرة في العذاب المشترك بينهما.
قال أبو سعيد الخدري: «إذا بعث الكافر زوّج بقرينه من الشياطين، فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار».
٢- إن مهمة الشياطين خطيرة تستوجب الحذر من وساوسهم وإغواءاتهم، فهم يصدرون الناس عن سبيل الهدى، حتى يخيل للكفار ويجعلهم يظنون أنهم مهتدون. وقيل: ويحسب الكفار أن الشياطين مهتدون، فيطيعونهم.
٣- تتجلى الحقيقة المرّة في الآخرة، حين يتبرأ الكافر من الشيطان، ويتمنى البعد عنه كالبعد بين المشرق والمغرب، ويقول له: فبئس القرين أنت، لأنه يورده النار. قال الفراء: أراد المشرق والمغرب، فغلّب اسم أحدهما، كما يقال:
القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر، والبصرتان للكوفة والبصرة، والعصران للغداة (الظهر) والعصر.
٤- يقول اللَّه للكافر يوم القيامة توبيخا: لن ينفعكم اليوم إذا أشركتم في الدنيا هذا الكلام، وهو قول الكافر: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي لا تنفع الندامة، فإنكم في العذاب مشتركون. أو لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، لأن لكل واحد نصيبه الأوفر منه، ولا ينفع أهل النار التأسي كما يتأسّى أهل المصائب في الدنيا، فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة، فيسكّن ذلك من حزنه، فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي شيئا لشغلهم بالعذاب.
٥- سلّى اللَّه نبيه عن حزنه وأسفه لإعراض قومه عن قبول رسالته، وقال له: ليس لك من الأمر شيء، فلا تستطيع هداية العشيّ الصمّ العمي الضالين، فلا يضيق صدرك إن كفروا.
قال القرطبي في قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ..: فيه رد على القدرية وغيرهم، وأن الهدى والرشد والخذلان في القلب خلق اللَّه تعالى، يضلّ من يشاء، ويهدي من يشاء.
٦- إن تعذيب المشركين آت عاجلا أم آجلا، سواء في حال حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أو بعد وفاته، فاللَّه قادر على كل شيء.
٧- رفع اللَّه تعالى من معنويات نبيه إلى القمّة بأمرين:
الأول- إعلامه بأنه على صراط مستقيم يوصله إلى اللَّه ورضاه وثوابه.
الثاني- إعلاء مجده وشرفه بالقرآن الذي هو شرف له ولقومه من قريش والعرب قاطبة، إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم، وسوف تسألون عن الشكر عليه، وعن العمل بتكاليفه. قال المحققون: في الآية دلالة على أن الذكر الجميل أمر مرغوب فيه لعموم أثره وشموله كل مكان وكل زمان.
وقال القرطبي: والصحيح أنه شرف لمن عمل به، كان من قريش أو من غيرهم.
أخرج الطبري عن ابن عباس قال: أقبل نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سريّة أو غزاة، فدعا فاطمة، فقال: «يا فاطمة اشتري نفسك من اللَّه، فإنّي لا أغني عنك من اللَّه شيئا» وقال مثل ذلك لنسوته، ولعترته، ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما بنو هاشم بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا قريش بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الأنصار بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الموالي بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون. إنما أنتم من رجل وامرأة كجمام «١» الصاع، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى».
وأخرج الطبري أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم، أو يكونون شرّا عند اللَّه من الجعلان التي تدفع النّتن بأنفها، كلكم بنو آدم، وآدم من تراب، إن اللَّه أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس مؤمن تقي وفاجر شقي» «٢».
(٢) تفسير القرطبي: ١٦/ ٦٤. [.....]