
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) قال: يعرض.
وقد تأوّله بعضهم بمعنى. ومن يعمَ، ومن تأوّل ذلك كذلك، فيحب أن تكون قراءته (وَمَنْ يَعْشُ) بفتح الشين على ما بيَّنت قيل.
* ذكر من تأوّله كذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) قال: من يعمَ عن ذكر الرحمن.
وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) يقول تعالى ذكره: وإن الشياطين ليصدّون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله، عن سبيل الحقّ، فيزينون لهم الضلالة، ويكرهون إليهم الإيمان بالله، والعمل بطاعته (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) يقول: ويظن المشركون بالله بتحسين الشياطين لهم ما هم عليه من الضلالة، أنهم على الحق والصواب، يخبر تعالى ذكره عنهم أنهم من الذي هم عليه من الشرك على شكّ وعلى غير بصيرة. وقال جلّ ثناؤه: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) فأخرج ذكرهم مخرج ذكر الجميع، وإنما ذُكر قبل واحدا، فقال: (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا) لأن الشيطان وإن كان لفظه واحدا، ففي معنى جمع.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) ﴾
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) فقرأته عامة قرّاء الحجاز سوى ابن محيصن، وبعض الكوفيين وبعض الشاميين"حتى إذا جاءنا" على التوحيد بمعنى: حتى إذا جاءنا هذا الذي عَشِي عن ذكر الرحمن، وقرينه الذي

قيض له من الشياطين. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة وابن محيصن: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) على التوحيد، بمعنى: حتى إذا جاءنا هذا العاشي من بني آدم عن ذكر الرحمن.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى وذلك أن في خبر الله تبارك وتعالى عن حال أحد الفريقين عند مقدمه عليه فيما أقرنا فيه في الدنيا، الكفاية للسامع عن خبر الآخر، إذ كان الخبر عن حال أحدهما معلوما به خبر حال الآخر، وهما مع ذلك قراءتان مستفيضتان في قرءة الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: حتى إذَا جاءنا هو وقرينه جميعا.
وقوله: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) يقول تعالى ذكره: قال أحد هذين القرينين لصاحبه الآخر: وددت أن بيني وبينك بعد المشرقين: أى بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب اسم أحدهما على الآخر، كما قيل: شبه القمرين، وكما قال الشاعر؟
أخَذْنا بآفاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ... لنَا قَمَرَاهَا والنُّجُومُ الطَّوَالِعُ (١)

وكما قال الآخر؟
فَبَصْرَةُ الأزْدِ مِنَّا والعِرَاقُ لنَا... والمَوْصِلانِ وَمِنَّا مِصْرُ والحَرَمُ (١)
يعني: الموصل والجزيرة، فقال: الموصلان، فغلب الموصل.
وقد قيل: عنى بقوله (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) : مشرق الشتاء، ومشرق الصيف، وذلك أن الشمس تطلع في الشتاء من مشرق، وفي الصيف من مشرق غيره; وكذلك المغرب تغرب في مغربين مختلفين، كما قال جلّ ثناؤه: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ).
وذُكر أن هذا قول أحدهما لصاحبه عند لزوم كل واحد منهما صاحبه حتى يورده جهنم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن سعيد الجريري، قال: بلغني أن الكافر إذا بُعث يوم القيامة من قبره، سفع بيده الشيطان، فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار، فذلك حين يقول: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين، فبئس القرين. وأما المؤمن فيوكَّل به ملك فهو معه حتى قال: إما يفصل بين الناس، أو نصير إلى ما شاء الله.
وقوله: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) أيها العاشون عن ذكر الله في الدنيا (إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) يقول: لن يخفف عنكم اليوم من عذاب الله اشتراككم فيه، لأن لكل واحد منكم نصيبه منه، و"أنَّ" من قوله (أنَّكُمْ) في موضع رفع لما ذكرت أن معناه: لن ينفعكم اشتراككم.