
كل نفس بما عملت، فاستعدوا لهذا اليوم، ولا تغفلوا عن ذكره فى حلّكم وترحالكم، يوم ظعنكم ويوم إقامتكم.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٥ الى ٢٥]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
تفسير المفردات
جزءا: أي ولدا إذ قالوا الملائكة بنات الله، وعبر عن الولد بالجزء، لأنه بضعة ممن ولد له كما قال شاعرهم:
إنما أولادنا أكبا... دنا تمشى على الأرض

مبين: أي ظاهر الكفر، من أبان بمعنى ظهر، أصفاكم: أي اختار لكم، ضرب:
أي جعل، مثلا: أي شبها أي مشابها بنسبة البنات إليه، لأن الولد يشبه الوالد، كظيم:
أي ممتلىء غيظا وغما، ينشّأ: أي يربّى، فى الحلية: أي فى الزينة، الخصام: أي الجدل، غير مبين: أي غير مظهر حجته لعجزه عن الجدل، يخرصون: أي يكذبون، مستمسكون: أي متمسكون ومعوّلون، على أمة: أي على طريقة خاصة، مترفوها:
أي أهل الترف والنعمة فيها الذين أبطرتهم الشهوات، فلا ينظرون إلى ما يوصلهم إلى الحق، مقتدون: أي سالكون طريقتهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنهم يعترفون بالألوهية لله وأنه خالق السموات والأرض، أردف هذا ببيان أنهم متناقضون مكابرون، فهم مع اعترافهم لله بخلق السموات والأرض يصفونه بصفات المخلوقين المنافية لكونه خالقا لهما، إذ جعلوا الملائكة بنات له ولا غرو، فالإنسان من طبعه الكفران وجحود الحق، ومن عجيب أمرهم أنهم أعطوه أخس صنفى الأولاد، وما لو بشّر أحدهم به اسودّ وجها وامتلأ غيظا، ومن يتربى فى الزينة وهو لا يكاد يبين حين الجدل، فلا يظهر حجة ولا يؤيد رأيا، واختاروا لأنفسهم الذكران، ثم أعقبه بالنعي عليهم فى جعلهم الملائكة إناثا، وزاد فى الإنكار عليهم ببيان أن مثل هذا الحكم لا يكون إلا عن مشاهدة، فهل هم شهدوا ذلك؟
ثم توعدهم على هذه المقالة وأنه يوم القيامة يجازيهم بها.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى، قالوا: لو شاء الله ألا نعبد الملائكة ما عبدناها، لكنه شاء عبادتها لأنها هى المتحققة فعلا فتكون حسنة ويمتنع النهى عنها، ثم رد مقالهم بأن المشيئة إنما هى ترجيح بعض الأشياء على بعض، ولا دخل لها فى حسن أو قبح وبعد أن أبطل استدلالهم العقلي نفى أن يكون لهم دليل نقلى على صحة ما يدّعون،

ثم أبان أن ما فعلوه إنما هو بمحض التقليد عن الآباء دون حجة ولا برهان، وهم ليسوا ببدع فى ذلك، فكثير من الأمم قبلهم قالوا مثل مقالهم، مع أن الرسل بينوا لهم الطريق السوىّ فكفروا به واتبعوا سنن من قبلهم حذو القذّة بالقذّة، فكان عاقبة أمرهم أن حلّ بهم نكالنا كما يشاهدون ويرون من آثارهم.
الإيضاح
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي وأثبتوا لله ولدا، إذ قالوا الملائكة بنات الله قاله مجاهد والحسن، والولد جزء من والده كما قال عليه السّلام «فاطمة بضعة منى».
وإن مقالهم هذا يقتضى الكفر من وجهين:
(١) كون الخالق جسما محدثا لمشابهة الولد له، فلا يكون إلها ولا خالقا.
(٢) الاستخفاف به، إذ جعلوا له أضعف نوعى الإنسان وأخسهما.
ثم أكد كفرهم بقوله:
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي إن الإنسان لجحود بنعم ربه التي أنعمها عليه، ظاهر كفره لمن تأمل حاله وتدبر أمره.
ثم زاد فى الإنكار عليهم والتعجب من حالهم فقال:
(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أي هل اتخذ سبحانه من خلقه أخسّ الصنفين لنفسه، واختار لكم أفضلهما؟ وكأنه قيل: هبو أنه اتخذ ولدا فأنتم قد ركبتم شططا فى القسمة فادعيتم أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما وترك لنفسه شرهما وأدناهما، فما أنتم إلا حمقى جهلاء.
ونحو الآية قوله: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» - جائرة-.
ثم زاد فى التوبيخ والإنكار بقوله:
(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)

أي وإذا بشر أحد هؤلاء بما نسبوه لله من البنات أنف وعلته الكآبة والحزن من سوء ما بشر به وتوارى من القوم خجلا.
روى أن بعض العرب وضعت امرأته أنثى فهجر البيت الذي ولدت فيه فقالت:
ما لأبى حمزة لا يأتينا | يظلّ فى البيت الذي يلينا |
غضبان ألا نلد البنينا | وليس لنا من أمرنا ماشينا |
(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي أو قد جعلوا لله الأنثى التي تتربى فى الزينة، وإذا خوصمت لا تقدر على إقامة حجة ولا تقرير دعوى، لنقصان عقلها وضعف رأيها؟ وما كان ينبغى لهم أن يفعلوا ذلك.
وفى قوله (يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) إيماء إلى ما فيهنّ من الدعة ورخاوة الخلق بضعف المقاومة الجسمية واللسانية، كما أن فيه دلالة على أن النشوء فى الزينة ونعومة العيش من المعايب والمذامّ للرجال، وهو من محاسن ربات الحجال، فعليهم أن يجتنبوا ذلك ويأنفوا منه ويربئوا بأنفسهم عنه، قال شاعرهم:
كتب القتل والقتال علينا | وعلى الغانيات جرّ الذيول |
(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي سموهم وحكموا لهم بذلك، وفى هذا كفر من وجوه ثلاثة:
(١) إنهم نسبوا إلى الله الولد.
(٢) إنهم أعطوه أخس النصيبين.
(٣) إنهم استخفوا بالملائكة بجعلهم إناثا. صفحة رقم 77

وقد رد الله عليهم مقالهم فقال:
(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟) أي أحضروا خلق الله لهم، فشاهدوهم بنات حتى يحكموا بأنوثتهم؟.
ونحو الآية قوله: «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ».
وفى هذا تجهيل شديد لهم، ورمى لهم بالسفه والحمق.
ثم توعدهم على مقالهم فقال:
(سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) أي ستكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها فى الدنيا فى ديوان أعمالهم، ويسألون عنها يوم القيامة ليأتوا ببرهان على صحتها، ولن يجدوا لذلك سبيلا.
وفى هذا دليل على أن القول بغير برهان منكر، وأن التقليد لا يغنى من الحق شيئا.
ثم حكى عنهم فنّا آخر من فنون كفرهم بالله جاءوا به للاستهزاء والسخرية فقال:
(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي وقالوا لو شاء الله لحال بيننا وبين عبادة الأصنام التي هى على صورة الملائكة، فإنه تعالى عالم بذلك وهو قد أقرّنا عليه.
وقد جمعوا فى هذا أفانين من الكفر وضروبا من الترهات والأباطيل، منها:
(١) إنهم جعلوا لله ولدا تقدس سبحانه وتنزه عن ذلك.
(٢) دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، إذ جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.
(٣) عبادتهم لهم بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله، بل بالرأى والهوى والتقليد للأسلاف.
(٤) احتجاجهم بتقدير الله ذلك، وقد جهلوا فى هذا جهلا كبيرا، فإنه تعالى أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار، وهو منذ أن بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته

وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة سواه كما قال: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» وقال:
«وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟».
ثم رد عليهم مقالهم وبيّن جهلهم بقوله:
(ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ما لهم على ما قالوا، دليل ولا برهان يستندون إليه فى تأييد دعواهم.
ثم أكد هذا الردّ بقوله:
(إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلا كاذبون فيما قالوا، متمحلون تمحلا باطلا، متقوّلون على الله ما لم يقله.
وبعد أن بين بطلان قولهم بالعقل أتبعه ببطلانه بالنقل فقال:
(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أي بل أأعطيناهم كتابا من قبل هذا القرآن ينطق بصحة ما يدّعون، فهم بذلك الكتاب متمسكون، وعليه معوّلون.
والخلاصة- إنه لا كتاب لهم بذلك.
ولما بين أنه لا حجة لهم على ذلك من عقل ولا نقل- ذكر أن الحامل لهم على ما جنحوا إليه إنما هو التقليد فقال:
(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي ليس لهم مستند على ما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد، وقد قالوا إنهم أرجح منا أحلاما وأصح أفهاما، ونحن سائرون على طريقتهم، وسالكون نهجهم، ولم نأت بشىء من عند أنفسنا، ولم نغلط فى الأتباع واقتفاء الآثار، كما قال قيس بن الخطيم:
كنا على أمّة آبائنا | ويقتدى بالأول الآخر |