
من صفات المؤمنين وجزائهم وأحوال الكافرين وعاقبتهم [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٧ الى ٤٦]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)

المفردات:
كَبائِرَ الْإِثْمِ: ما رتب عليه وعيد شديد وَالْفَواحِشَ: ما فحش وعظم قبحه كالزنا مثلا شُورى: ذو شورى، أى: أن أمورهم يتشاورون فيها الْبَغْيُ: الاعتداء الظالم سَيِّئَةٍ: هي الفعلة التي تسيء من تنزل به عَزْمِ الْأُمُورِ: معزومات الأمور التي أمر بها الله.
مَرَدَّ: رجوع إلى الدنيا سَبِيلٍ: طريق خاشِعِينَ: ذليلين طَرْفٍ الطرف: العين، والطرف مصدر طرف بصره يطرف طرفا إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر والمرة منه طرفة، يقال: أسرع من طرفة العين مُقِيمٍ: دائم إلى ما شاء الله.
ما مضى كان في بيان صفات المؤمنين التي تؤهلهم إلى التمتع بنعيم الجنان الذي هو خير وأبقى وما هنا بيان الكفار وحالهم ليظهر الفرق جليا واضحا.
المعنى:
ما أعده الله يوم القيامة خير وأبقى من متاع الدنيا الفاني الذي قد يكون سببا في عدم قبول الحق، ما أعده الله للذين آمنوا بالله ورسوله. والذين هم من المتوكلين على الله المفوضين الأمر إليه. لا الذين هم من المتكلين على أعمالهم خير وأبقى.
والذين يجتنبون كبائر الإثم التي توعد الله عليها وعيدا شديدا، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وإذا ما غضبوا هم يغفرون ويعفون، تراهم كفوا نفوسهم عن الشر، وقوتهم الشهوانية عن الفاحشة، وقوتهم العصبية عن الاسترسال في الشر، والذين استجابوا لربهم وانقادوا له وأذعنوا لكل ما يريده منهم راضين محتسبين ذلك عنده من صميم قلوبهم وهم مع ذلك يقيمون الصلاة، وأمرهم يتشاورون فيه فلا يقدم رئيسهم على عمل إلا بعد الاستشارة وأخذ الرأى، يا سبحان الله! تلك هي صفات المؤمنين في كتاب الله لم يلفت نظرنا إلى ترك الكبائر والفواحش وإقامة الصلاة والزكاة فقط، وإنما يبين لنا أن الشورى من مبادئ الإسلام وصفات المؤمنين التي يستحقون بها الفلاح في الدنيا والآخرة حتى تقضى على الدكتاتورية الغاشمة، فلتهنأ الديمقراطية العربية ففي الإسلام متسع لكل خير وفضل، وبعد عن كل ضرر وخطر.

ومن صفاتهم أيضا الإنفاق مما رزقهم الله، تلك الاشتراكية المنظمة السليمة من الآفات والعيوب.
وهكذا الإسلام يبين لنا أن من صفات المؤمنين العزة والكرامة، والاعتزاز بقوة الله والوثوق في نصره، وعلى ذلك فإذا أصابنا بغى وظلم بغير حق وجب علينا أن ننتصر وندافع عن حقوقنا، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يغضب جدا إذا انتهكت حرمة من محارم الله، ويغفر ويعفو لمن ينال من شخصه في بعض الأحيان، والشخص المعتدى عليه ينطبق- إذا كان اعتداؤه بغير قصد، ولم يكن مصرّا عليه، وكان في العفو عنه تسكين لفتنة- عليه قوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ «١»
وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «٢».
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ «٣»
وغير ذلك من آيات العفو.
فإن كان في ترك الانتصار جرأة السفهاء، ومذلة المؤمنين، وانتهاك حرمة الدين فالانتصار واجب إذ هم يكرهون أن يذلوا أنفسهم حتى يجترئ عليهم السفلة من الناس بل ينتصرون على من بغى عليهم واعتدى والله معهم. وعلى ذلك فلا تعارض في الآية.
ولكن رد الاعتداء والانتصار للحق يكون على أى شكل؟ لقد رد الله على هذا بقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فإن النقصان حيف، والزيادة ظلم، وبدء الاعتداء سيئة وشر، ورده كذلك يسيء من ينزل به،
لقد صدق الحكيم العربي حيث قال: «الشر بالشر والبادي أظلم».
فمن عفا عمن ظلمه وأصلح ما بينه وبينه حتى لا يعود إلى الاعتداء فأجره على الله وذلك خير بلا شك، إذ قد شرطنا في القصاص ورد الاعتداء المساواة، وتحقيقها واقعيا بعيد، ففي الغالب يكون معه ظلم وزيادة والله لا يحب الظالمين، ومن هنا نعلم أن الشرع يميل إلى العفو، وأنه أقرب إلى التقوى، وهذا كما قلنا بشروط موكول أمرها للمسلم.
وهل المنتصر لنفسه معتد أم لا؟ لا. ولمن انتصر بعد ظلمه والاعتداء عليه أولئك ما عليهم من سبيل، ولا عقوبة عليهم، إنما الإثم والعقوبة والسبيل على الذين يظلمون الناس بغير حق ويبدءون بالعدوان على الآمنين الهادئين أولئك لهم عذاب أليم.
(٢) - سورة البقرة آية ٢٣٧.
(٣) - سورة آل عمران آية ١٣٤.

ولمن صبر «١»
ولم يقتص حينما اعتدى عليه، وغفر فإن ذلك لمن عزائم الأمور وعظائمها التي لا يفعلها إلا أصحاب العزائم القوية،
فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الشّديد بالصّرعة إنّما الشّديد الّذى يملك نفسه عند الغضب».
المعنى:
ومن يضلله الله لأن نفسه ميالة إلى الشر والبعد عن الحق بمحض اختيارها، ومن كان كذلك فما له من ولى بعد الله يهديه إلى الحق وإلى الصواب، وهؤلاء هم الذين أعرضوا عن دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان بالله والمودة في القربى، وهم الظالمون.
وتراهم لما رأوا العذاب يوم القيامة، وأنه حق لا شك فيه، ندموا على ذلك وقالوا:
هل من رجوع إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا؟ لما رأوا العذاب آمنوا وتمنوا الرجوع إلى الدنيا، ولكن هيهات، وأنى لهم ذلك! وتراهم يعرضون على النار وهم في قبورهم صباح مساء، يعرضون عليها حالة كونهم خاشعين من الذل، ينظرون إليها بعيون ضعيفة لأنهم ناكسو الرءوس ذليلون، فهم ينظرون مسارقة فلا يستطيعون أن يمكنوا عيونهم منها، وقال الذين آمنوا يوم القيامة: حقا إن الخاسرين هم الذين خسروا أنفسهم حيث حرموا من الجنة، ودخلوا النار يصلونها نارا مسعرة، وخسروا أهليهم وأحبابهم لأنهم إن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وإن كانوا في النار فلا فائدة فيهم، ألا ذلك هو الخسران المبين! وأى خسارة فوق هذا؟ ألا إن الظالمين لأنفسهم في عذاب مقيم دائم إلى ما شاء الله، وما كان لهم في هذه الحالة من أولياء ينصرونهم متجاوزين الله كما كانوا يفهمون هذا خطأ، ولا غرابة في ذلك فمن يضلله الله فلا هادي له، وما له من سبيل إلى الخير يسلكه!