آيات من القرآن الكريم

أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ
ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ

أستغفرك وأتوب إليك، وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله عنه:
يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين، فتوبتك تحتاج إلى توبة، فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ فقال:
اسم يقع على ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندم، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة، كما ربّيتها في المعصية، وإذاقة النفس ومرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
١٤- أكد الله تعالى قبول التوبة بأنه يقبل عبادة من أخلص له بقلبه وأطاع ببدنه، ويزيدهم من فضله على ما طلبوه أو استحقوه.
١٥- جرت عادته تعالى على إقران الوعد بالوعيد، لذا ذكر بعد وعد المؤمنين بالثواب، وعيد الكافرين بالعذاب الشديد.
من مظاهر حكمة الله في خلقه وآياته على قدرته
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٧ الى ٣٦]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)

صفحة رقم 66

الإعراب:
وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ فِيهِما: أي في أحدهما، فحذف المضاف، كقوله تعالى:
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ [الرحمن ٥٥/ ٢٢] أي من أحدهما، فحذف المضاف.
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ.. فَبِما: الفاء في جواب الشرط، وقرئ بغير فاء، وحذفت إما لأن ما بمعنى الذي، فحذفت كما تحذف مع الذي، أو أن ما الشرطية لا تعمل في الفعل شيئا، لأنه فعل ماض، فحذفت الفاء، وهذا أولى من الأول، لأنها أعم في كل مصيبة، فكان المعنى أقوى.
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا... وَيَعْلَمَ يُوبِقْهُنَّ: مجزوم بالعطف على قوله تعالى:
فَيَظْلَلْنَ المعطوف على جواب الشرط. ويَعْلَمَ: بتقدير «أن» بعد الفاء، ونصب الفعل بها، لأنه غير معطوف على ما قبله، ويقرأ بالرفع: «ويعلم» على الاستئناف. وجملة ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ سدت مسد مفعولي يَعْلَمَ لأن النفي يعلق الفعل عن العمل.
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ.. فَما: موصولة تضمنت معنى الشرط، لأن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا، فجازت الفاء في جوابها.
البلاغة:
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ: عطف عام على خاص، فالغيث خاص، والرحمة عام.
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ: تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، أي كالجبال في الضخامة والعظم.

صفحة رقم 67

صَبَّارٍ شَكُورٍ من صيغ المبالغة.
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
بَسَطَ وسع لِعِبادِهِ لجميعهم لَبَغَوْا جميعهم أي طغوا وتجاوزوا الحد، والبغي:
الظلم ومجاوزة الحد يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ بتقدير معين ما يَشاءُ ما اقتضته مشيئته إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ أي إنه يعلم خفايا أمرهم وجلايا حالهم.
الْغَيْثَ المطر الذي يغيث من الجدب قَنَطُوا يئسوا من نزوله وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ يعم رحمته كل شيء من السهل والجبل والنبات والإنسان والحيوان الْوَلِيُّ المتولي عباده بالإحسان الْحَمِيدُ المستحق للحمد على نعمه.
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهي بذاتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم وَما بَثَّ فِيهِما نشر وفرّق، وهو معطوف على السموات أو على كلمة خَلْقُ أي وخلق ما بث دابَّةٍ كل ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم جَمْعِهِمْ للحشر والحساب، وفي الضمير:
تغليب العاقل على غيره إِذا يَشاءُ في أي وقت يشاء قَدِيرٌ متمكن منه. وإذا: تدخل على الماضي وعلى المضارع.
مُصِيبَةٍ بلية وشدة فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فبسبب معاصيكم، وعبر بالأيدي، لأن أكثر الأفعال تزاول بها وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب، فلا يعاقب عليه، وهو تعالى أكرم من أن يثنّي الجزاء في الآخرة. أما ما يصيب غير المذنبين فلرفع درجاتهم وتعريضهم للأجر العظيم في الآخرة.
وَما أَنْتُمْ أيها البشر بِمُعْجِزِينَ فائتين الله هربا في الأرض، أي بجاعلين الله تعالى عاجزا بالهرب منه دُونِ اللَّهِ غيره وَلِيٍّ يحرسكم نَصِيرٍ يدفع عذاب الله عنكم الجواري السفن الجارية، جمع جارية: وهي السفينة التي تجري على الماء: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة ٦٩/ ١١] كَالْأَعْلامِ كالجبال في العظم، جمع علم: وهو الجبل.
يُسْكِنِ الرِّيحَ يجعلها ساكنة لا تتحرك، وقرئ «الرياح». رَواكِدَ ثوابت سواكن صَبَّارٍ كثير الصبر شَكُورٍ كثير الشكر، وهما صفتان للمؤمن الكامل، لأن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، والمؤمن يصبر في الشدة، ويشكر في الرخاء يُوبِقْهُنَّ يهلكهن أو يغرقهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة والمراد: إهلاك أهلها، لقوله: بِما كَسَبُوا

صفحة رقم 68

اقترفوا من الذنوب وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أي يتجاوز عن الكثيرين وينجيهم من الهلاك بالعفو عنهم.
وَيَعْلَمَ عطف على علة مقدرة، مثل ليغرقهم وينتقم منهم ويعلم مَحِيصٍ مهرب من العذاب، وجملة النفي ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ سدت مسد مفعولي يَعْلَمَ والنفي يعلّق الفعل عن العمل، كما تقدم.
فَما أُوتِيتُمْ أيها الناس المؤمنون وغيرهم، وآتاه الشيء: أعطاه إياه مِنْ شَيْءٍ من أمتعة الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فهو مجرد متاع مؤقت تتمتعون به فيها، ثم يزول. والمتاع:
ما ينتفع به ويتمتع من أثاث وغيره وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب الأخروي خَيْرٌ وَأَبْقى لخلوص نفعه ودوامه يَتَوَكَّلُونَ يفوضون إليه أمورهم بعد اتخاذ الأسباب.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٧) :
وَلَوْ بَسَطَ:
أخرج الحاكم وصححه عن علي قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الصّفّة: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ
وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا والغنى. وقال خبّاب بن الأرتّ: فينا نزلت هذه الآية- أي في أهل الصفّة- وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فتمنيناها.
نزول الآية (٣٦) :
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ:
عن علي رضي الله عنه: تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع، فنزلت.
جاء في الحديث: أنه أنفق ثمانين ألفا.
المناسبة:
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ: عن علي رضي الله عنه: تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع، فنزلت. جاء في الحديث: أنه أنفق ثمانين ألفا.
المناسبة:
بعد أن قال الله تعالى في الآية السابقة: إنه يجيب دعاء المؤمنين، ذكر هنا أنه لا يعطيهم من الأرزاق إلا بقدر وحكمة، حسبما يعلم من مصلحتهم، وإلا

صفحة رقم 69

فإنهم يبغون ويقدمون على المعاصي. ولو احتاجوا أمدهم بالرزق، لأنه المتولي أمورهم بإحسانه، المستحق الحمد على نعمه.
ثم أقام الله تعالى الأدلة على ألوهيته بخلق السموات والأرض وما فيهما، ثم جمعهم للحساب في الآخرة. ثم أوضح أن المصائب والأحوال المكروهة كالآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق والفقر ونحوها تكون عقوبات على الذنوب لمن يرتكبها، أو من باب الامتحان في التكليف، لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء.
ثم ذكر تعالى دليلا آخر على ألوهيته وهو إجراء السفن العظيمة على وجه البحر، وتأثير الرياح فيها إما بالتسيير وإما بالإغراق.
والخلاصة: بعد أن ذكر الله تعالى أنواعا من دلائل وحدانيته، ذكر بعدها العالم الأكبر وهو السموات والأرض، ثم العالم الأصغر، وهو الحيوان، ثم أتبعه بذكر المعاد وذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة.
التفسير والبيان:
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ أي لو وسع الله على عباده رزقهم، وأعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان، وعصوا في الأرض، وبطروا النعمة، وتكبروا، وطلبوا ما ليس لهم طلبه مثل قارون وفرعون، ولكنه تعالى ينزل من الرزق لعباده بتقدير معين، على حسب مشيئته، وما تقتضيه حكمته البالغة، ويختار لهم مما فيه صلاحهم، فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر، إنه بعباده خبير بأحوالهم، بصير بما يصلحهم من توسيع الرزق وتضييقه، كما
جاء في الحديث القدسي عن انس: «إن من

صفحة رقم 70

عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه».
قال قتادة: كان يقال: خير العيش ما لا يهليك ولا يطغيك.
ثم ذكر الله تعالى أنه لو احتاج الناس إلى الخير أمدهم به، فقال:
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أي وهو سبحانه الذي ينزل المطر من بعد إياس الناس في وقت حاجتهم وفقرهم إليه، والمطر أنفع أنواع الرزق، وأكثرها فائدة ونفعا، ويعم الوجود كله برحمته، ويفيض على أهل ذلك القطر أو الناحية فيضه، وهو المتولي لأمور عباده بالإحسان إليهم، وجلب النفع لهم، ودفع الشر عنهم، وهو المستحق للحمد منهم على إنعامه.
ونظير الآية في إنزال المطر بعد اليأس قوله تعالى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [الروم ٣٠/ ٤٩].
قال قتادة: ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، قحط المطر، وقنط الناس، فقال عمر: مطرتم، ثم قرأ الآية:
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ.
ثم ذكر تعالى الأدلة على ألوهيته، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه: خلق السموات والأرض على هذا النحو البديع، وخلق ما نشر وفرق فيهما، أي في السموات والأرض مما يدب ويتحرك، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم

صفحة رقم 71

وطباعهم. وربما يكون في الكواكب الأخرى أحياء، فتدل الآية عليهم.
وقيل: أراد ما بث في الأرض دون السماء، لأن المراد من فِيهِما في أحدهما، كما جاء في آية أخرى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ [لقمان ٣١/ ١٠].
وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ وهو على جمع سائر الخلائق من السموات والأرض في صعيد واحد، وحشرهم يوم القيامة، إذا أراد، قادر كل القدرة، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل الحق.
والمقصود بالآية أنه تعالى خلق الكائنات الحية متفرقة، لا لعجز، ولكن لمصلحة، فلهذا قال: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ «١» قَدِيرٌ يعني الجمع للحشر والمحاسبة، وإنما قال: عَلى جَمْعِهِمْ ولم يقل: على جمعها، لأن المقصود من هذا الجمع المحاسبة، فكأنه تعالى قال: وهو على جمع العقلاء إذا يشاء قدير.
ثم ذكر تعالى أسباب الذنوب والآثام، فقال:
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي ما أصابكم أيها الناس من المصائب (وهي الأحوال المكروهة) كالآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق والزلازل ونحوها، فإنما هي بسبب سيئات اقترفتموها، ومعاص اقتحمتموها، فهي عقوبات الذنوب وكفاراتها، ويعفو الله عن كثير من معاصي العباد، فلا يعاقب عليها، وقد يكون المصاب لغير ذنب، وإنما لزيادة الأجر ورفع الدرجة.
ونظير مقدمة الآية قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء ٤/ ١٦٠]

(١) إذا كما بينا تدخل على المضارع، كما تدخل على الماضي، قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل ٩٢/ ١] ومنه إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ.

صفحة رقم 72

وقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء ٤/ ١٢٣]. ونظير آخر الآية: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر ٣٥/ ٤٥].
وورد في الحديث الصحيح عن الشيخين والموطأ عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: «والذي نفسي بيده، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن إلا كفّر الله عنه بها من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها»
وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفّرها».
ولما نزلت هذه الآية،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر».
وفي حديث آخر: «ما ينزل العقاب إلا بذنب، ولا يرتفع إلا بتوبة».
وروى الواحدي في البسيط: «ما عفا الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة، وما عاقب عليه في الدنيا، فالله أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة».
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي ما أنتم أيها المذنبون الكافرون بمعجزين الله حيثما كنتم، ولا بفائتين عليه هربا في الأرض، بل ما قضاه عليهم من المصائب، واقع عليهم، نازل بهم، وليس لكم من غير الله ولي يتولى أموركم، فيمنع عنكم ما قضاه الله، ولا نصير ينصركم من عذاب الله.
ثم ذكر الله تعالى آيات أخرى دالة على قدرته وعظمته، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه إجراء السفن السائرة في البحر كالجبال.
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ، فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي إن يرد الله

صفحة رقم 73

إيقاف السفن التي تجري، يجعل الرياح ساكنة، فتصبح السفن ثوابت سواكن على ظهر البحر، واقفة على وجه الماء لا تتحرك.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي إن في أمر السفن المذكور وجريها في البحر لدلالة عظيمة على قدرته تعالى، لكثير الصبر على الشدائد والبلايا وعلى طاعة الله، كثير الشكر على النعماء. وهذه جملة معترضة.
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا، وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أي وإن يشأ يهلكهنّ بالغرق بما كسبوا من الذنوب، ويعف عن كثير من ذنوبهم، أو عن كثير منهم، فينجيهم من الغرق، ولو آخذهم بجميع ذنوبهم، لأهلك كل من ركب البحر.
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي لينتقم منهم ويعلم حينئذ الذين ينازعون في آيات الله مكذبين بها أنه لا مفر ولا مهرب ولا ملجأ من عذاب الله، فإنهم مقهورون بقدرة الله وسلطانه.
وبعد بيان أدلة التوحيد حذر الله تعالى من الاغترار بالدنيا، فقال:
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي إن كل ما أعطيتم من الغنى والسعة في الرزق والجاه والسلطان، فإنما هو متاع قليل في الدنيا يتمتع به في زمن قصير، ثم سرعان ما ينقضي ويذهب، لأن الدنيا فانية زائلة لا محالة، ويلاحظ أن الذي يمنع من قبول دلائل التوحيد إنما هو الرغبة في الدنيا ومطامعها بسبب الرياسة وطلب الجاه، لذا حذر تعالى من الاغترار بالدنيا، ورغّب في الآخرة، فقال:
وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي وما عند الله من ثواب الطاعات وجزاء الجنات خير من متاع الدنيا، وأبقى وأدوم، لأنه لا ينقطع، ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة، فلا تقدموا الفاني على الباقي. وهو خير

صفحة رقم 74

وأبقى للذين صدّقوا بالله ورسوله، وعلى ربهم يعتمدون في كل شؤونهم، ويفوضون إليه أمورهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن الإمداد بالرزق يخضع لحكمة الله ومشيئته، فيعطي بقدر الحاجة، وعلى وفق المصلحة، فلو بسط الله الرزق لعباده، لوقعوا في المعاصي، وبغى بعضهم على بعض، لأن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بقارون وفرعون عبرة، ولذا قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق ٩٦/ ٦- ٧]
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها».
٢- قال المالكية: أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح، وإن لم يجب على الله الاستصلاح، فقد يعلم من حال عبد أنه لو بسط عليه، قاده ذلك إلى الفساد، فيزوي عنه الدنيا، مصلحة له. فليس ضيق الرزق هوانا، ولا سعة الرزق فضيلة، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد، ولو فعل بهم خلاف ما فعل، لكانوا أقرب إلى الصلاح، والأمر على الجملة مفوّض إلى مشيئته، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح في كل فعل من أفعال الله تعالى.
٣- يتولى الله أمور عباده بالإحسان والإنعام، فلو احتاجوا أغناهم بقدر الحاجة، وأنزل عليهم المطر الذي يكون سببا لوفرة الخيرات والغلال والثمار، وعمهم بالرحمة، وهو سبحانه الولي المتولي شؤون عباده وناصر أوليائه المؤمنين، والمحمود على كل لسان.
٤- من دلائل وجود الله ووحدانيته وقدرته: خلق السموات والأرض

صفحة رقم 75

وما فيهما من المخلوقات التي لا يعلم حصرها إلا الله تعالى، وأنه قادر على جمعهم للحشر والحساب يوم القيامة.
ويرى بعض العلماء استدلالا بقوله تعالى: وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ أنه لا يستبعد وجود مخلوقات في الكواكب والعوالم العلوية غير الملائكة، كما تدل الدلائل الفلكية- وربما اكتشاف سفن الفضاء الحديثة- على وجود حياة في كوكب المرّيخ. وليس في هذا دلالة قطعية، لأن في تفسير الآية وجها آخر كما تقدم.
٥- المصائب في الغالب تكون بسبب الذنوب والمعاصي، فهي عقوبات على السيئات، وقد تكون للابتلاء كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن سعد: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل»
والقصد من الابتلاء رفع الدرجات، لأن الأنبياء معصومون عن الذنوب والآثام، ويكون حصول المصيبة من باب الامتحان في التكليف، لا من باب العقوبة، كما في حق الأنبياء والأولياء.
والعقوبة عن الذنب في الدنيا كفارة له في الآخرة، وهذا في حق المؤمنين، فأما الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن آية: وَما أَصابَكُمْ... : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل. وإذا كان يكفّر عني بالمصائب، ويعفو عن كثير، فما يبقى بعد كفارته وعفوه؟!
٦- إن قدرة الله عامة شاملة لكل شيء، ومهيمنة على كل شيء، فلن يستطيع الكفار والمشركون أن يعجزوه أو يفوتوه هربا من سلطانه، ولن يجدوا لهم في الآخرة وليا يتولى أمورهم، ويتعهد مصالحهم، ولا نصيرا يدفع عنهم عذاب الله وانتقامه، فهم في الدنيا والآخرة في قبضة القدرة الإلهية.

صفحة رقم 76

٧- من آيات الله تعالى أيضا على قدرته، ونعمته على العباد، هذه السفن السائرة في عرض البحر على سطح الماء عند هبوب الرياح، أو ما حل محلها من الطاقة الدافعة لمحركاتها، مما صنعه الإنسان بإلهام الله وتعليمه والتمكن من اكتشافه، وشأن الأجسام الثقيلة الكثيفة الغرق في الماء، لكنه تعالى جعل للماء قوة لحمل السفن ومنع الغوص، ثم جعل الرياح سببا لسيرها، فإذا أراد أن ترسو أسكن الريح.
والله قادر على جعل الرياح ساكنة هادئة، فتبقى السفن سواكن على ظهر البحر، وقادر على تعطيل آلاتها وإيقاف محركاتها بأيسر الأشياء، وهو قادر أيضا على جعل الرياح عواصف فيوبق السفن، أي يغرق ركابها بذنوبهم، ويعفو عن كثير من أهلها فلا يغرقهم معها، وحينئذ يعلم الكفار إذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أو بقيت السفن رواكد أنه لا ملجأ لهم سوى الله تعالى، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة.
إن في أمر السفن دلالات وعلامات لكل صبار على البلوى، شكور على النعماء، قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. وقال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر. وكم من مبتلى غير صابر.
٨- لا ينبغي التفاخر بمظاهر الدنيا، فإن كل ما فيها من ثروات وقصور ومبان وآلات، هو متاع يستمتع به في أيام قليلة تنقضي وتذهب. وما عند الله من الثواب على الطاعة خير وأدوم للذين صدّقوا بالله ووحّدوه، وتوكلوا على ربهم وفوضوا إليه أمورهم.

صفحة رقم 77
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية