أَمْ يَقُولُونَ بل أيقولون افْتَرى محمد عليه الصلاة والسلام عَلَى اللَّهِ كَذِباً بدعوى النبوة أو القرآن، والهمزة للإنكار التوبيخي وبل للإضراب من غير إبطال وهو إضراب أطم من الأول فأطم فإن إثبات ما هم عليه من الشرع وإن كان شرا وشركا أقرب من جعل الحق الأبلج المعتضد بالبرهان النير من أوسطهم فضلا ودعة وعقلا افتراء ثم افتراء على الله عز وجل فكأنه قيل: أيتمالكون التفوه بنسبة مثله عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله عز وجل الذي هو أعظم الفري وأفحشها ولا تحترق ألسنتهم.
وفي ذلك أتم دلالة على بعده صلّى الله عليه وسلّم من الافتراء كيف وقد أردف بقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فإن هذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله عليه الصلاة والسلام وأنه في البعد مثل الشرك بالله سبحانه والدخول في جملة المختوم على قلوبهم فكأنه قيل: فإن يشأ الله سبحانه يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله تعالى إلا من كان في مثل حالهم وهو في معنى فإن يشأ يجعلك منهم لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وما أحسن هذا التعريض بأنهم المفترون وأنهم في نفس هذه المقالة عن افترائهم مفترون، ونظير الآية فيما ذكر قول أمين نسب إلى الخيانة: لعل الله تعالى خذلني لعل الله تعالى أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم، فالكلام تعليل لإنكار قولهم، وأتى بإن مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به قيل إرخاء للعنان، وقيل: إشعار بعظمته تعالى وأنه سبحانه غني عن العالمين، ثم ذيل بقوله تعالى: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ تأكيدا للمفهوم من السابق من أنه ليس من الافتراء في شيء أي كيف يكون افتراء ومن عادته تعالى محو الباطل ومحقه وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه وما أتى به عليه الصلاة والسلام يزداد كل يوم قوة ودحوا فلو كان مفتريا كما يزعمون لكشف الله تعالى افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه.
والفعل المضارع للاستمرار. والكلام ابتدائي فيمح مرفوع لا مجزوم بالعطف على يَخْتِمْ وأسقطت الواو في الرسم في أغلب المصاحف تبعا لإسقاطها في اللفظ لالتقاء الساكنين كما في سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨].
ويَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الإسراء: ١١] وكان القياس إثباتها رسما لكن رسم المصحف لا يلزم جريه على القياس، ويؤيد الاستئناف دون العطف على يَخْتِمْ إعادة الاسم الجليل ورفع يُحِقُّ وهذا ما ذكره جار الله في الجملتين
وبيان ارتباطهما بما قبلهما، وقد دقق النظر في ذلك وأتى بما استحسنه النظار حتى قال العلامة الطيبي: لو لم يكن في كتابه إلا هذا لكفاه مزية وفضلا، وجوز هو أيضا في قوله تعالى: وَيَمْحُ إلخ أن يكون عدة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنصر أي يمحو الله تعالى باطلهم وما بهتوك به ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له، وحينئذ يكون اعتراضا يؤكد ما سبق له الكلام من كونهم مبطلين في هذه النسبة إلى من هو أصدق الناس لهجة بأصدق حديث من أصدق متكلم، وقال في إرشاد العقل السليم في الجملة الأولى: إنها استشهاد على بطلان ما قالوه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام لو افترى على الله تعالى كذبا لمنعه من ذلك قطعا، وتحقيقه أن دعوى كون القرآن افتراء عليه تعالى قول منهم أنه سبحانه لا يشاء صدوره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بل يشاء عدم صدوره عنه ومن ضرورياته منعه عنه قطعا فكأنه قيل:
لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ولم تنطق بحرف من حروفه وحيث لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحي حينا فحينا تبين أنه من عند الله عز وجل، وذكر في الجملة الثانية ما ذكره جار الله من الوجهين، ولا يخفى عليك ما يرد على كلامه من المنع مع أن فيه جعل مفعول المشيئة غير ما يدل عليه الجواب وهو ذلك المشار به إلى عدم الصدور، والمتبادر كون المفعول الختم على ما هو المعروف في نظائر هذا التركيب أي فإن يشأ الله تعالى الختم على قلبك يختم، وإيهام كون القرآن ناشئا منه صلّى الله عليه وسلّم لا منزلا عليه عليه الصلاة والسلام، وقال السمرقندي: المعنى إن يشأ يختم على قلبك كما فعل بهم فهو تسلية له عليه الصلاة والسلام وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه له صلّى الله عليه وسلّم ليشكر ربه سبحانه ويترحم على من ختم على قلبه فاستحق غضب ربه ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر، فالتفريع بالنظر إلى المعنى المكنى عنه، وحاصله أنهم اجترءوا على هذا لأنهم مطبوعون على الضلال انتهى، وفيه شمة مما ذكره الزمخشري.
وعن قتادة وجماعة يختم على قلبك ينسك القرآن، والمراد على ما قال ابن عطية الرد على مقالة الكفار وبيان بطلانها كأنه قيل: وكيف يصح أن تكون مفتريا وأنت من الله تعالى بمرأى ومسمع وهو سبحانه قادر ولو شاء لختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك، وفيه أن اللفظ ضيق عن أداء هذا المعنى، وذكر القشيري أن المعنى فإن يشأ الله تعالى يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب ومن الجمع إلى الإفراد، وحاصله يختم على قلبك أيها القائل إنه عليه الصلاة والسلام افترى على الله تعالى كذبا، وفيه من البعد ما فيه مع أن الكفار مختوم على قلوبهم، وقال مجاهد ومقاتل: المعنى فإن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إنك مفتر، ولا مانع عليه من عطف يَمْحُ على جواب الشرط بل هو الظاهر فيكون سقوط الواو للجازم، ويُحِقُّ حينئذ مستأنف أي وإن يشأ يمح باطلهم عاجلا لكنه سبحانه لم يفعل لحكمة أو مطلقا وقد فعل جل وعلا بالآخرة وأظهر دينه، وقيل: لا مانع من العطف على بعض الأقوال السابقة أيضا أي إن يشأ يمح افتراءك لو افتريت وهو كما ترى، وكذا جوز كون الجملة حالية وإن أحوج ذلك إلى تقدير المبتدأ وفيه تكلف مستغنى عنه وربما يقال: إن جملة فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ من تتمة قولهم مفرعا على افْتَرى كأنه قيل: افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبه بسبب افترائه فلا يعقل شيئا أو كأنه قيل: افتريت على الله فإن يشأ يختم على قلبك جزاء ذلك إلا أن نكتة اختيار الغيبة في إحدى الجملتين والخطاب في الأخرى غير ظاهرة، وكونها الإشارة إلى أن من افترى يحق أن يواجه بالجزاء ليس مما يهش له السامع فيما أرى، ولعل الأولى أن يكون فَإِنْ يَشَإِ إلخ مفرعا على كلامهم خارجا مخرج التهكم بهم، ولا بأس حينئذ بعطف يمح على جواب الشرط ويراد بالباطل ما هو باطل بزعمهم كأنه قيل:
أم يقولون افترى على الله فإذن إن يشأ الله يختم على قلبك ويمح ما يزعمون أنه باطل، وهذا كما تقول لمن أخبرك أن
زيدا افترى عليك وأنت تعلم أنه لم يفتر وإنما أدى عنك ما أمرته به فإذن نؤدبه وننتقم منه ونمحو افتراءه تقصد بذلك التهكم بالقائل فتأمل، فهذه الآية كما قال الخفاجي من أصعب ما مر في كلامه تعالى العظيم وفقنا الله تعالى وإياكم لفهم معانيه والوقوف على سره وخافيه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فيعلم سبحانه ما في صدرك وصدورهم فيجري جلّ وعلا الأمر على حسب ذلك.
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ بالتجاوز عما تابوا عنه والقبول يعدى بعن لتضمنه معنى الإبانة وبمن لتضمنه معنى الأخذ كما في قوله تعالى: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ [التوبة: ٥٤] أي تؤخذ، وقيل: القبول مضمن هنا معنى التجاوز والكلام على تقدير مضاف أي يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده وهو تكلف.
والتوبة أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب في الحال ويندم على ما مضى ويعزم على تركه في المستقبل وزادوا التقصي منه بأي وجه أمكن إن كان الذنب لعبد فيه حق وذلك بالرد إليه أو إلى وكيله أو الاستحلال منه إن كان حيا وبالرد إلى ورثته إن كان ميتا ووجدوا ثم القاضي لو كان أمينا وهو كالإكسير ومن رأى الإكسير؟ فإن لم يقدر على شيء من ذلك يتصدق عنه والا يدع له ويستغفر.
وفي الكشف التقصي داخل في الرجوع إذ لا يصح الرجوع عنه وهو ملتبس به بعد، واختير أن حقيقتها الرجوع وإنما الندم والعزم ليكون الرجوع إقلاعا ويتحقق أنه التوبة التي ندبنا إليها وهو موافق لما في الاحياء من أنها اسم لتلك الحالة بالحقيقة والباقي شروط التحقق ويشترط أيضا أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينيا فلو رجع لمانع آخر من ضعف بدن أو غرم لذلك لم يكن من التوبة في شيء، وأشار الزمخشري إلى ذلك بكون الرجوع لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب وخرج عنه ما لو رجع طلبا للثناء أو رياء أو سمعة لأن قبح القبيح معناه كونه مقتضيا للعقاب آجلا وللذم عاجلا فلو رجع لما سبق لم يكن رجوعا لذلك.
وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله وجهه: إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى التوبة فقال يا أمير المؤمنين: ما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة ولتضيع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته
، وهذا يحتمل أن تكون التوبة مجموع هذه الأمور فالمراد أكمل أفرادها، ويحتمل أنها اسم لكل واحد منها والأول أظهر. واختلف في التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض هل هي صحيحة أم لا والذي عليه الأصحاب أنها صحيحة لظواهر الآيات والأحاديث وصدق التعريف عليها، وأكثر المعتزلة على أنها غير صحيحة قال أبو هاشم منهم: لو تاب عن القبيح لكونه قبيحا وجب أن يتوب عن كل القبائح وإن تاب عنه لا لمجرد قبحه بل لغرض آخر لم تصح توبته. وتعقب بأنه يجوز أن يكون الباعث شدة القبح أو أمرا دينيا آخر وأيضا يجري نظير هذا في فعل الحسن بل يقال: لو فعل الحسن لكونه حسنا وجب عليه أن يفعل كل حسن وإن فعله لغرض آخر لم يقبل وفيه بحث.
واستدل المعتزلة بالآية على أنه يجب عليه تعالى قبول التوبة واستدل أهل السنة بها على عدم الوجوب لمكان التمدح ولا تمدح بالواجب، وفيه أيضا بحث والأنفع في هذا المقام أدلة نفي الوجوب مطلقا عليه عز وجل. وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ صغائرها وكبائرها لمن يشاء من غير اشتراط شيء كالتوبة للكبائر واجتنابها للصغائر.
وقال الطيبي: المعنى من شأنه تعالى شأنه قبول التوبة عن عباده إذا تابوا والعفو عن سيئاتهم بمحض رحمته أو
بشفاعة شافع، وقال المعتزلة: أي يعفو عن الكبائر إذا تيب عنها وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر فالعفو عن السيئات عليه أعم من قبول التوبة لشموله الصغائر إذا اجتنبت الكبائر وهو تعميم بعد تخصيص، والظاهر مع أهل السنة إذ لا دلالة في النظم الجليل على تخصيص السيئات نعم المراد بها غير الشرك بالإجماع.
وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ بتاء الخطاب عند حفص والأخوين وعلقمة وعبد الله وبياء الغيبة عند الجمهور وعلى الأول ففيه التفات وما موصولة والعائد محذوف أي يعلم الذي تفعلونه كائنا ما كان من خير وشر فيجازى بالثواب والعقاب أو يتجاوز سبحانه بالعفو حسبما تقتضيه مشيئته جل وعلا المبنية على الحكم والمصالح.
وقيل: يعلم ذلك فيجازي التائب ويتجاوز عن غيره إذا شاء سبحانه والأول أظهر. وفي الكشاف يعلم سبحانه ذلك فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات. وفي الكشف بعد نقله هو أي قوله تعالى. وَيَعْلَمُ إلخ تذييل للكلام السابق يؤكد ما ذكره من القبول والعفو لأنه تعالى إذا علم العملين والعاملين جازى كلا بما فعل فأولى أن يجازي هؤلاء المحسنين بأفعالهم، ثم فيه لطف وحث على لزوم الحذر منه تعالى والإخلاص له سبحانه في إمحاض التوبة، ونحن أيضا لا ننكر أنه تذييل فيه تأكيد كما لا يخفى وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عطف على يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فالفاعل ضميره تعالى والَّذِينَ مفعول بدون تقدير شيء بناء على أن يَسْتَجِيبُ يتعدى بنفسه كما يتعدى باللام نحو شكرته وشكرت له أو بتقدير اللام على أنه من باب الحذف والإيصال والأصل يستجيب للذين آمنوا بناء على أنه يتعدى للداعي باللام وللدعاء بنفسه ونحو هذا قوله:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى | فلم يستجبه عند ذاك مجيب |
قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: «أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»
فقال: هذا كقوله تعالى
في الحديث القدسي: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»
ألا ترى قول أمية بن الصلت لابن جدعان حين أتاه يبغي نائلة:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني | ثناؤك إن شيمتك الحياء |
إذا أثنى عليك المرء يوما | كفاه عن تعرضك الثناء |
قوله صلّى الله عليه وسلّم «أفضل الدعاء الحمد لله»
على معنى أن الحمد يدل على الدعاء والسؤال بطريق الكناية والتعريض، وقيل: هو على إطلاق الدعاء على الحمد لشبهه به في طلب ما يترتب عليه، وجوز أن يراد بالإجابة معناها الحقيقي والإثابة بناء على القول بصحة الجمع بين الحقيقة والمجاز أي يجيب دعاءهم ويثيبهم على الطاعة وَيَزِيدُهُمْ على ما سألوا واستحقوا مِنْ فَضْلِهِ الواسع جل شأنه، وقيل: إن فاعل وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا واستظهره أبو حيان، والجملة عطف على مجموع قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ إلخ أي ينقادون لله تعالى ويجيبونه سبحانه إذا دعاهم، وهو المروي عن ابن جبير، وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له: ما لنا ندعو فلا نجاب؟
فقال: لأنه سبحانه دعاكم فلم تجيبوه ثم قرأ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يونس: ٢٥] وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وهذا يؤكد هذا الوجه لأنه قدس سره ذكر أن الله تعالى دعاكم بقوله عز وجل: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وذكر صفحة رقم 37
أن المؤمن من استجاب دعوة ربه تعالى بقوله: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا فمن لا يجيب دعاءه تعالى لا يجيب تعالى أيضا دعاءه، وكون الفاعل ضميره تعالى قد روى ما يقتضيه عن ابن عباس. ومعاذ بن جبل وَيَزِيدُهُمْ عليه عطف على ما قبله وعلى الوجه الآخر عطف على مقدر أي فيوفيهم أجورهم ويزيدهم عليها على أسلوب وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا [النمل: ١٥] وقوله سبحانه: مِنْ فَضْلِهِ متعلق بيزيدهم مطلقا، وجوز تعليقه بالفعلين على التنازع فإن الإجابة والثواب فضل منه تعالى كالزيادة.
وأيا ما كان فالظاهر عموم الذين آمنوا
وروي عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول الله عليه الصلاة والسلام ونقول له: إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها فنزلت قل لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقرأها عليهم، وقال تودون قرابتي من بعدي فخرجوا مسلمين فقال المنافقون: إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذل عز قرابته من بعده فنزلت أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [سبأ: ٨] فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا وندموا فأنزل الله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فأرسل صلّى الله عليه وسلّم إليهم فبشرهم وقال: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وهم الذين سلموا لقوله ذكر ذلك الطبرسي، وذكر قريبا منه في الدر المنثور لكن قال: أخرجه الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن ابن جبير
بسند ضعيف، والذي يغلب على الظن الوضع وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بدل ما للمؤمنين من الإجابة والتفضل.
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي لتكبروا فيها بطرا وتجاوزوا الحد الذي يليق بالعبيد أو لظلم بعضهم بعضا فإن الغني مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون عبرة،
وفي الحديث «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها»
ولبعض العرب:
وقد جعل الوسمي ينبت بيننا | وبين بني رومان نبعا وشوحطا |
خَبِيرٌ بَصِيرٌ
ووضع المظهر موضع المضمر أي إنه تعالى خبير بأحوال عباده المكرمين بصير بما يصلحهم وما يرديهم، وإليه ينظر ما
ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم إذا أحب الله تعالى عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء
، ويشد من عضده قول خباب بن الأرت نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت وَلَوْ بَسَطَ الآية وقول عمرو بن حريث طلب قوم من أهل الصفة من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يغنيهم الله تعالى ويبسط لهم الأموال والأرزاق فنزلت وعليه تفسير محيي السنة انتهى. ولا يخفى أن الأنسب بحال المكرمين المصطفين من عباده تعالى أن لا يبطرهم الغنى لصفاء بواطنهم وقوة توجههم إلى حظائر القدس ومزيد تعلق قلوبهم بمحبوبهم ووقوفهم على حقائق الأشياء وكمال علمهم بمنتهى زخارف الحياة الدنيا، وأبناء الدنيا لو فكروا في ذلك حق التفكر لهان أمرهم وقل شغفهم كما قيل:
لو فكر العاشق في منتهى | حسن الذي يسبيه لم يسبه |
مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا بكسر النون وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي منافع الغيث وآثاره في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان أو رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر انتظاما أوليا، وقيل: الرحمة هنا ظهور الشمس لأنه إذا دام المطر سئم فتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع ذكره المهدوي وليس بشيء، ومن البعيد جدا ما قاله السدي من أن الرحمة هنا الغيث نفسه عدد النعمة نفسها بلفظين، وأيا ما كان فضمير رَحْمَتَهُ لله عز وجل، وجوز على الأول كونه للغيث.
وَهُوَ الْوَلِيُّ الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة الْحَمِيدُ المستحق للحمد على ذلك لا غيره سبحانه.
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ على ما هما عليه من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه تعالى العظيمة، ومن له أدنى إنصاف وشعور يجزم باستحالة صدورها من الطبيعة العديمة الشعور.
وَما بَثَّ فِيهِما عطف على السَّماواتِ أي ومن آياته خلق ما بث أو عطف على خَلْقُ أي ومن آياته ما بث. وما تحتمل الموصولية والمصدرية والموصولية أظهر ولا حاجة عليه إلى تقدير مضاف أي خلق الذي بث خلافا لأبي حيان مِنْ دابَّةٍ أي حيوان له دبيب وحركة، وظاهر الآية وجود ذلك في السموات وفي الأرض وبه قال مجاهد وفسر الدابة بالناس والملائكة، ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران، واعترض ذلك ابن المنير بأن إطلاق الدابة على الاناسي بعيد في عرف اللغة فكيف بالملائكة وادعى أن الأصح كون الدواب في الأرض لا غير وما في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما في الجملة، فالآية على أسلوب يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: ٢٢] وذلك لقوله تعالى في [البقرة: ١٦٤] وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فإنه يدل على اختصاص الدواب بالأرض لأن مقام الإطناب يقتضي ذكره لو كان لا للعمل بمفهوم اللقب الذي لا يقول به الجمهور والجواب أن التي في البقرة لما كانت كلاما مع الغبي والفهم والمسترشد والمعاند جيء فيه بما هو معروف عند الكل وهو بث الدواب في الأرض وأما هاهنا فجيء به مدمجا مختصرا لما تكرر في القرآن ولا سيما في هذه السورة من كمال قدرته على كل ممكن فقيل: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مؤثرا على لفظ الخلق ليدل على التكثير الدال على كمال القدرة وبين بقوله تعالى: مِنْ دابَّةٍ تعميما وتغليبا لغير ذوي العلم في السماوي والأرضي تحقيقا للمخلوقية فقد ثبت في صحاح الأحاديث ما يدل على وجود الدواب في السماء من مراكب أهل الجنة وغيرها، وكذلك ما يدل على وجود ملائكة كالأوعال بل لا يبعد أن يكون في كل سماء حيوانات ومخلوقات على صور شتى وأحوال مختلفة لا نعلمها صفحة رقم 39
ولم يذكر في الأخبار شيء منها فقد قال تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: ٨] وأهل الأرصاد اليوم يتراءى لهم بواسطة نظاراتهم مخلوقات في جرم القمر لكنهم لم يحققوا أمرها لنقص ما في الآلات على ما يدعون، ويحتمل أن يكون فيما عدا القمر ونفي ذلك ليس من المعلوم من الدين بالضرورة ليضر القول به، وقيل: المراد بالسماوات جهات العلو المسامتة للأقاليم مثلا وفي جو كل قليم بل كل بلدة بل كل قطعة من الأرض حيوانات لا يحصي كثرتها إلا الله تعالى بعضها يحس بها بلا واسطة آلة وبعضها بواسطتها، وقيل: المراد بها السحب وفيها من الحيوانات ما فيها وكل ذلك على ما فيه لا يحتاج إليه، وكذا لا يحتاج إلى ما ذهب إليه كثير من أن المراد بالدابة الحي مجازا إما من استعمال المقيد في المطلق أو إطلاق الشيء على لازمه أو المسبب على سببه لأن الحياة سبب للدبيب وإن لم تكن الدابة سببا للحي فيكون مجازا مرسلا تبعيا لأن الاحتياج إلى ذلك عدول عن الظاهر ولا يعدل عنه إلا إذا دل دليل على خلافه وأين ذلك الدليل؟ بل هو قائم على وجود الدواب في السماء كما هي موجودة في الأرض.
وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ أي حشرهم بعد البعث للمحاسبة إِذا يَشاءُ ذلك قَدِيرٌ تام القدرة كاملها، وإِذا متعلقة بما قبلها لا بقدر لأن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته سبحانه وهي كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع، ومنه قوله:
وإذا ما أشاء أبعث منها | آخر الليل ناشطا مذعورا |
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر في رواية وشيبة «بما» بغير فاء لأنها ليست بلازمة وإيقاع المبتدأ موصولا يكفي في الإشعار المذكور، وحكي عن ابن مالك أنه قال: اختلاف القراءتين دل على أن ما موصولة فجيء تارة بالفاء في خبرها وأخرى لم يؤت بها حطا للمشبه عن المشبه به، وجوز كون ما شرطية واستظهره أبو حيان في القراءة بالفاء وجعلها موصولة في القراءة الأخرى بناء على أن حذف الفاء من جواب الشرط مخصوص بالشعر عند سيبويه نحو:
من يفعل الحسنات الله يشكرها والأخفش وبعض نحاة بغداد أجازوا ذلك مطلقا، ومنه قوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:
١٢١].
وقال أبو البقاء: حذف الفاء من الجواب حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ويعلم منه مزيد حسن حذفها هنا على جعل ما موصولة وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلا قيل وآجلا.
وجوز كون المراد بالكثير الكثير من الناس والظاهر الأول وهو الذي تشهد له الأخبار.
روى الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر وقرأ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ» صفحة رقم 40
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية وَما أَصابَكُمْ إلخ، قال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عزّ وجلّ عنه أكثر
، وأخرج ابن سعد عن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبي وما يغفره الله تعالى أكثر، ورؤي على كف شريح قرحة فقيل: بم هذا؟ فقال: بما كسبت يدي، وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال: إن أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي، والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن من لا ذنب له كالأنبياء عليهم السلام قد تصيبهم مصائب،
ففي الحديث «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»
ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، وأما الأطفال والمجانين فقيل غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية، وقيل: في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم إن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة، ويدل على ذلك ما
رواه أحمد في مسنده والحكيم الترمذي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه
، وزعم بعضهم أنها لا تكون جزاء لأن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار جزاء وتكليف معا وهو محال فما هي إلا امتحانات، وخبر علي كرم الله وجهه يرده وكذا ما صح من أن الحدود أي غير حد قاطع الطريق مكفرات وأي محالية في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيها لبعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفرا له.
وعن الحسن تفسير المصيبة بالحد قال: المعنى ما أصابكم من حد من حدود الله تعالى فإنما هو بكسب أيديكم وارتكابكم ما يوجبه ويعفو الله تعالى عن كثير فيستره على العبد حتى لا يحد عليه، وهو مما تأباه الأخبار ومع هذا ليس بشيء ولعله لم يصح عن الحسن.
وفي الانتصاف أن هذه الآية تبلس عندها القدرية ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها فإنها حملوا قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨، ١١٦] على التائب وهو غير ممكن لهم هاهنا فإنه قد أثبت التبعيض في العفو ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقيدا بالتوبة فإنه يلزم تبعيضا أيضا وهي عندهم لا تتبعض كما نقل الإمام عن أبي هاشم وهو رأس الاعتزال والذي تولى كبره منهم فلا محل لها إلا الحق الذي لا مرية فيه وهو رد العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة. وأجيب عنهم بأن لهم أن يقولوا: المراد ويعفو عن كثير فلا يعاقب عليه في الدنيا بل يؤخر عقوبته في الآخرة لمن لم يتب. وأنت تعلم ما دل خبر على كلام الله تعالى وجهه.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي بجاعلين الله سبحانه وتعالى عاجزا عن أن يصيبكم بالمصائب بما كسبت أيديكم وإن هربتم في أقطار الأرض كل مهرب، وقيل: المراد أنكم لا تعجزون من في الأرض من جنوده تعالى فكيف من في السماء وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ من متول بالرحمة يرحمكم إذا أصابتكم المصائب وقيل يحميكم عنها وَلا نَصِيرٍ يدفعها عنكم، والجملة كالتقرير لقوله تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي إن الله تعالى يعفو عن كثير من المصائب إذ لا قدرة لكم أن تعجزوه سبحانه فتفوتوا ما قضى عليكم منها ولا لكم أيضا من متول بالرحمة غيره عزّ وجلّ ليرحمكم إذا أصابتكم ولا ناصر سواه لينصركم منها ولهذا جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أن هذه أرجى آية
في القرآن للمؤمنين، ويقوي أمر الرجاء على ما قيل: أن معنى ما أَنْتُمْ إلخ ما أنتم بمعجزين الله في دفع مصائبكم أي إنه سبحانه قادر على ذلك وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ أي السفن الجواري أي الجارية فهي صفة لموصوف محذوف لقرينة قوله تعالى: فِي الْبَحْرِ وبذلك حسن الحذف وإلا فهي صفة غير مختصة والقياس فيها أن لا يحذف الموصوف وتقوم مقامه، وجوز أبو حيان أن يقال: إنها صفة غالبة كالأبطح وهي يجوز فيها أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف، وفِي الْبَحْرِ متعلق بالجواري وقوله تعالى: كَالْأَعْلامِ في موضع الحال.
وجوز أن يكون الأول أيضا كذلك، والأعلام جمع علم وهو الجبل وأصله الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق وعلم الجيش وسمي الجبل علما لذلك ولا اختصاص له بالجبل الذي عليه النار للاهتداء بل إذا أريد ذلك قيد كما في قول الخنساء:
وإن صخرا لتأتّم الهداة به | كأنه علم في رأسه نار |
وحكي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لما سمعه: قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا
وقرأ نافع وأبو عمرو «الجواري» بياء في الوصل دون الوقف.
وقرأ ابن كثير بها فيهما والباقون بالحذف فيهما والإثبات على الأصل والحذف للتخفيف، وعلى كل فالإعراب تقديري وسمع من بعض العرب الاعراب على الراء إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ التي تجري بها ويعدم سبب تموجها وهو تكاثف الهواء الذي كان في المحل الذي جرت إليه وتراكم بعضه على بعض وسبب ذلك التكاثف إما انخفاض درجة حرارة الهواء فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خليا وإما تجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فيخلو محلها، وهذا على ما قيل أقوى الأسباب فإذا وجد الهواء أمامه فراغا بسبب ذلك جرى بقوة ليشغله فتحدث الريح وتستمر حتى تملأ المحل وما ذكر في سبب التموج هو الذي ذكره فلاسفة العصر. وأما المتقدمون فذكروا أشياء أخرى، ولعل هناك أسبابا غير ذلك كله لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ، والقول بالأسباب تحريكا وإسكانا لا ينافي إسناد الحوادث إلى الفاعل المختار جلّ جلاله وعم نواله.
وقرأ نافع «الرياح» جمعا فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ فيصرن ثوابت على ظهر البحر أي غير جاريات لا غير متحركات أصلا، وفسر بعضهم (يظللن) بيبقين فيكون رَواكِدَ حالا والأول أولى.
وقرأ قتادة «فيظللن» بكسر اللام والقياس الفتح لأن الماضي مكسور العين فالكسر في المضارع شاذ، وقال الزمخشري: هو من ظل يظل ويظل بالفتح والكسر نحو ضل بالضاد يضل ويضل، وتعقبه أبو حيان بأنه ليس كما ذكر لأن يضل بالفتح من ضللت بالكسر ويضل بالكسر من ضللت بالفتح وكلاهما مقيس إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من السفن المسخرة في البحر تحت أمره سبحانه وحسب مشيئته تعالى: لَآياتٍ عظيمة كثيرة على عظمة شؤونه عزّ وجلّ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لكل من حبس نفسه عن التوجه إلى ما لا ينبغي ووكل همته بالنظر في آيات الله تعالى والتفكر في آلائه سبحانه فالصبر هنا حبس مخصوص والتفكر في نعمه تعالى شكر.
ويجوز أن يكون قد كنى بهذين الوصفين عن المؤمن الكامل لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر.
وذكر الإمام أن المؤمن لا يخلو من أن يكون في السراء والضراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين وإن كان في السراء كان من الشاكرين أَوْ يُوبِقْهُنَّ عطف على يُسْكِنِ أي أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة، والمراد على ما قال غير واحد إهلاك أهلها إما بتقدير مضاف أو بالتجوز بإطلاق المحل على حاله أو بطريق صفحة رقم 42