شك أنه على تقدير وجود المثل يصدق عليه أنه شيء مثل لمثله، والإضافة لا تقتضي خروجه عن عموم شيء بخلاف المثال المذكور فإن القرينة العقلية دلت على تخصيص أحد بغير المتكلم لأن مقصوده المنع عن دخول الغير، وعن الثاني أن وجود المثل لشيء مطلقا يستلزم المثل مع قطع النظر عن خصوصية ذلك الشيء وذلك بين فالمنع بتجويز أن يكون لذاته تعالى مثل ولا يكون هو سبحانه مثلا لمثله مكابرة، ثم إن هذا الوجه لكثرة ما فيه من القيل والقال بالنسبة إلى غيره من الأوجه السابقة لم نذكره عند ذكرها وهو على علاته أحسن من القول بالزيادة كما لا يخفى على من وفقه الله عزّ وجلّ وَهُوَ السَّمِيعُ المدرك إدراكا تاما لا على طريق التخيل والتوهم لجميع المسموعات ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول هواء الْبَصِيرُ المدرك إدراكا تاما لجميع المبصرات أو الموجودات لا على سبيل التخيل والتوهم ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول شعاع فالسمع والبصر صفتان غير العلم على ما هو الظاهر وأرجعهما بعضهم إلى صفة العلم، وتمام الكلام على ذلك في الكلام، وقدم سبحانه نفي المثل على إثبات السمع والبصر لأنه أهم في نفسه وبالنظر إلى المقام.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقدم تفسيره في سورة الزمر وكذا قوله تعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ.
وقرىء «يقدّر» بالتشديد إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مبالغ في الإحاطة به فيفعل كل ما يفعل جلّ شأنه على ما ينبغي أن يفعل عليه، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى وإيذان بأن ما شرع سبحانه لهم صادر عن كمال العلم والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنبيه على كونه دينا قديما أجمع عليه الرسل، والخطاب لأمته عليه الصلاة والسلام أي شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ومن بعده من أرباب الشرائع وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرهم به أمرا مؤكدا، وتخصيص المذكورين بالذكر لما أشير إليه من علو شأنهم وعظم شهرتهم ولاستمالة قلوب الكفرة إلى الاتباع لاتفاق كل على نبوة بعضهم واختصاص اليهود بموسى عليه السلام والنصارى بعيسى عليه السلام وإلا فما من نبي إلا وهو مأمور بما أمروا به من إقامة دين الإسلام وهو التوحيد وما لا يختلف باختلاف الأمم وتبدل الأعصار من أصول الشرائع والأحكام كما ينبىء عنه التوصية فإنها معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به، والمراد بايحائه إليه صلّى الله عليه وسلّم إما ما ذكر في صدر السورة الكريمة وفي قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: ٧] الآية وإما ما يعمهما وغيرهما ما وقع في سائر المواقع التي من جملتها قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل: ١٢٣] وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف: ١١٠] وغير ذلك، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآية المذكورة ولما في الإيحاء من التصريح برسالته عليه الصلاة والسلام القامع لإنكار الكفرة، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بايحائه، وفي ذلك إشعار بأن شريعته صلّى الله عليه وسلّم هي الشريعة المعتنى بها غاية الاعتناء ولذا عبر فيها بالذي التي هي أصل الموصولات وذلك هو السر في تقديم الذي أوحى إليه عليه الصلاة والسلام على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا، وتقديم توصية نوع عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينا قديما، وقد قيل إنه عليه الصلاة والسلام أول الرسل، وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه صلّى الله عليه وسلّم أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي دين الإسلام الذي هو توحيد الله تعالى وطاعته والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون العبد به مؤمنا، والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ والمواظبة عليه، وأَنْ مصدرية وتقدم الكلام في وصلها بالأمر والنهي أو مخففة من الثقيلة لما في شَرَعَ من معنى العلم، والمصدر إما منصوب على أنه بدل من مفعول شَرَعَ والمعطوفين عليه أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والحملة جواب عن سؤال نشأ من إبهام المشروع كأنه قيل: وما ذاك؟ فقيل: هو أن أقيموا الدين، وقيل: هو مجرور على أنه بدل من ضمير بِهِ ولا يلزمه بقاء الموصول بلا عائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة، نعم قال شيخ الإسلام: إنه ليس بذاك لما أنه مع إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مستلزم لكون الخطاب في النهي الآتي عن التفرق للأنبياء المذكورين عليهم السلام وتوجيه النهي إلى أممهم تمحل ظاهر مع أن الأظهر أنه متوجه إلى أمته صلّى الله عليه وسلّم وأنهم المتفرقون، ثم بين ما استظهره وسنشير إليه إن شاء الله تعالى.
وجوز كونه بدلا من الدِّينِ ويجوز كون أَنْ مفسرة فقد تقدمها ما يتضمن معنى القول دون حروفه والخطاب في أَقِيمُوا وقوله تعالى: وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ على ما اختاره غير واحد من الأجلة شامل للنبي صلّى الله عليه وسلّم
وأتباعه وللأنبياء والأمم قبلهم وضمير فِيهِ للدين أن ولا تتفرقوا في الدين الذي هو عبارة عما تقدم من الأصول بأن يأتي به بعض ولا يأتي بعض ويأتي بعض ببعض منه دون بعض وهو مراد مقاتل أي لا تختلفوا فيه، ولا يشمل هذا النهي عن الاختلاف في الفروع فإنها ليست من الأصول المرادة هنا ولم يتحد بها النبيون كما يؤذن بذلك قوله تعالى:
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: ٤٨] وبعضهم أدخل بعض الفروع في أصول الدين المرادة هنا من الدين.
قال مجاهد: لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار بالله تعالى وطاعته سبحانه وذلك إقامة الدين، وقال الحافظ أبو بكر بن العربي: لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه ولم يفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم وإنما كان منبها على بعض الأمور مقتصرا على بعض ضروريات المعاش واستمر الأمر إلى نوح عليه السلام فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات ووظف عليه الواجبات وأوضح له الأدب في الديانات ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحدا بعد واحد شريعة إثر شريعة حتى ختمه سبحانه بخير الملل على لسان أكرم الرسل، فمعنى الآية شرعنا لكم مما شرعنا للأنبياء دينا واحدا في الأصول وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب بصالح الأعمال والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإيذاء للخلق والاعتداء على الحيوان واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم، ومعنى أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ اجعلوه قائما أي دائما مستمرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب انتهى، ولعله أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج مطلقها لا ما نعرفه في شرعنا منها فإن الصلوات الخمس والزكاة المخصوصة وصيام شهر رمضان من خواص هذه الأمة على الصحيح، والظاهر أن حج البيت لم يشرع لأمة موسى وأمة عيسى عليهما السلام ولا لأكثر الأمم قبلهما على أن الآية مكية ولم تشرع الزكاة المعروفة وصيام رمضان إلا في المدينة، وبالجملة لا شك في اختلاف الأديان في الفروع، نعم لا يبعد اتفاقها فيما هو من مكارم الأخلاق واجتناب الرذائل كَبُرَ أي عظم وشق عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ على سبيل الاستمرار التجددي من التوحيد ورفض عبادة الأصنام ويشعر بإرادته التعبير بالمشركين وهو أصل الأصول وأعظم ما شق عليهم كما تنبىء بذلك الآيات أو ما تدعوهم إليه من إقامة الدين وعدم التفرق فيه اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ تسلية له صلّى الله عليه وسلّم بأن منهم من يجيب، ويَجْتَبِي من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والضمير في إِلَيْهِ لله تعالى كما ذكر محيي السنة وغيره وكذا الضمير في قوله تعالى: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي يصطفي إليه سبحانه من يشاء اصطفاءه ويخصصه سبحانه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع النعم ويهدي عزّ وجلّ بالإرشاد والتوفيق من يقبل إليه تعالى شأنه، وعدي الاجتباء بإلى لما فيه من الجمع على ما يفهم من كلام الراغب، وجعله جمع من الجباية بمعنى الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته فيه فمنهم من اختار جعل ضمير إِلَيْهِ في الموضعين- لما- لما فيه من اتساق الضمائر أي يجتلب ويجمع من يشاء اجتلابه وجمعه إلى ما تدعوهم إليه، ومنهم من اختار جعله للدين لمناسبة معنوية هي اتحاد المتفرق فيه والمجتمع عليه والزمخشري اختار كونه من الجباية بمعنى الجمع وعود الضمير على الدين، وما ذكره محيي السنة وغيره. قال في الكشف: أظهر وأملأ بالفائدة، أما الثاني فللدلالة على أنه أهل الاجتباء غير أهل الاهتداء وكلتا الطائفتين هم أهل الدين والتوحيد الذين لم يتفرقوا فيه وعلى مختار طائفة واحدة.
وأما الأول فلأن الاجتباء بمعنى الاصطفاء أكثر استعمالا ولأنه يدل على أن أهل الدين هم صفوة الله تعالى اجتباهم إليه واصطفاهم لنفسه سبحانه، وأما الذي آثره الزمخشري فكلام ظاهري بناه على أن الكلام في عدم التفرق
في الدين فناسب الجمع والانتهاء إليه، وقيل: ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ على معنى ما تدعوهم إلى الإيمان به والمراد به الرسالة أي ثقلت عليهم رسالتك وعظم لديهم تخصيصنا إياك بالرسالة والوحي دونهم وقوله تعالى: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ رد عليهم على نحو اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤] وما قدمنا أظهر وَما تَفَرَّقُوا أي أمم الأنبياء بعد وفاة أنبيائهم كما في الكشف منذ بعث نوح عليه السلام في الدين الذي دعوا إليه واختلفوا فيه في وقت من الأوقات إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ من أنبيائهم بأن الفرقة ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وهذا يؤيد ما دل عليه سابقا من أن الأمم القديمة والحديثة أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين، والمراد بالعلم سببه مجازا مرسلا، ويجوز أن يكون التجوز في الإسناد، وأن يكون يكون الكلام بتقدير مضاف أي جاءهم سبب العلم، وقد يقال جاء مجاز عن حصل، والاستثناء على ما أشرنا إليه مفرغ من أعم الأوقات، وجوز أن يكون من أعم الأحوال أي ما تفرقوا في حال من الأحوال إلا حال من الأحوال إلا حال مجيء العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي عداوة على أن البغي الظلم والتجاوز والعداوة سبب له وهي الداعي للتفرق أو طلبا للدنيا والرياسة على أن البغي مصدر بغي بمعنى طلب وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ هي عدته تعالى بترك معاجلتهم بالعذاب إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معلوم له سبحانه وهو يوم القيامة أو آخر أعمارهم القدرة لهم لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ باستئصال المبطلين حين افترقوا لعظم ما اقترفوا وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلّى الله عليه وسلّم وقرأ زيد بن علي «ورّثوا» مبنيا للمفعول مشدد الواو لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من كتابهم فلم يؤمنوا به حق الإيمان مُرِيبٍ مقلق أو مدخل في الريبة، والجملة اعتراض يؤكد أن تفرقهم ذلك باق في أعقابهم منضما إليه الشك في كتابهم مع انتسابهم إليه فهم تفرقوا بعد العلم الحاصل لهم من النبي المبعوث إليهم المصدق لكتابهم وتفرقوا قبله شكا في كتابهم فلم يؤمنوا به ولم يصدقوا حقه.
فَلِذلِكَ أي إذا كان الأمر كما ذكر فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبا فَادْعُ إلى الائتلاف والاتفاق على الملة الحنيفية القديمة وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي اثبت على الدعاء كما أوحي إليك، وقيل: الإشارة إلى قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ وما يتصل به ونقل عن الواحدي أي ولأجل ذلك من التوصية التي شوركت فيها مع نوح ومن بعده ولأجل ذلك الأمر بالإقامة والنهي عن التفرق فادع، وما ذكر أولا أولى لأن قوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا شمل النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه كما سمعت، ويدل عليه كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فقوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ إلخ لا يتسبب عنه لما يظهر من التكرار وهو تفرع الأمر عن الأمر، وأما تسببه عن تفرقهم فظاهر على معنى فلما أحدثوا من التفرق وأبدعوا فاثبت أنت على الدعاء الذي أمرت به واستقم وهذا ظاهر للمتأمل.
ومن الناس من جعل المشار إليه الشرع السابق ولم يدخل فيه الأمر بالإقامة لئلا يلزم التكرار أي فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون فادع، وقيل: هو الكتاب، وقيل: هو العلم المذكور في قوله تعالى: جاءَهُمُ الْعِلْمُ وقيل: هو الشك ورجح بالقرب وليس بذاك، واللام على جميع الأقوال المذكورة للتعليل، وقيل: على بعضها هي بمعنى إلى صلة الدعاء فما بعدها هو المدعو إليه، وأنت تعلم أنه لا حاجة في إرادة ذلك إلى جعلها بمعنى إلى فإن الدعاء يتعدى بها أيضا كما في قوله:
دعوت لما نابني مسورا ونقل ذلك عن الفراء والزجاج، وأيا ما كان فالفاء الأولى واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه والفاء الثانية مؤكدة للأولى، وقيل: كان الناس بعد الطوفان أمة واحدة موحدين فاختلف أبناؤهم بعد موتهم حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين
ومنذرين، وجعل ضمير «تفرقوا» لإخلاف أولئك الموحدين والذين أورثوا الكتاب باق على ما تقدم والأول أظهر.
وقيل: ضمير تفرقوا لأهل الكتاب تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فهذا كقوله تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: ٤] وإنما تفرقوا حسدا له عليه الصلاة والسلام لا لشبهة، والمراد بالذين أورثوا الكتاب من بعدهم مشركو مكة وأحزابهم لأنهم أورثوا القرآن فالكتاب القرآن وضمير منه له وقيل للرسول وهو خلاف الظاهر، واختار كون المتفرقين أهل الكتاب اليهود والنصارى والمورثين الشاكين مشركي مكة وأحزابهم شيخ الإسلام واستظهر الخطاب في أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ لأمته صلّى الله عليه وسلّم. وتعقب القول بكون المتفرق كل أمة بعد نبيها والقول بكونه اخلاف الموحدين الذين كانوا بعد الطوفان فقال: يرد ذلك قوله تعالى:
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار وإمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيد الوجوب إقامته وتشديدا للزجر عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الإخلال بذلك المرام انتهى.
وأجيب عن الأول بأن ضمير بَيْنَهُمْ لأولئك الذين تفرقوا وقد علمت أن المراد بهم المتفرقون بعد وفاة أنبيائهم وهم لم يصبهم عذاب الاستئصال وإنما أصاب الذين لم يؤمنوا غي عهد أنبيائهم وإطلاق المتفرقين ليس بذاك الظهور، وقيل: المراد لقضي بينهم ريثما افترقوا ولم يمهلوا أعواما، وقيل: المراد لقضي بينهم بإهلاك المبطلين وإثابة المحقين إثابتهم في العقبى وهو كما ترى، وعن الثاني بأنا لا نسلم إيهام التعرض لبيان تفرق الأمم الإخلال بالمرام بعد بيان أنه لم يكن إلا بعد أن جاءهم العلم بأنه ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وأنه كان بغيا بينهم ولم يكن لشبهة في صحة الدين، وقيل: ضمير تَفَرَّقُوا للمشركين في قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
حكي في البحر عن ابن عباس أنه قال: وما تفرقوا يعني قريشا والعلم محمد صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي قال سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ [الأنعام: ١٠٩، النحل: ٣٨، النور: ٥٣، فاطر: ٤٢] لئن جاءهم نذير الآية، وقد يقال عليه: المراد بالذين أورثوا الكتاب أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومعنى من بعدهم على ما قال أبو حيان من بعد أسلافهم.
ونقل الطبرسي عن السدي ما يدل على أن المراد من بعد أحبارهم وفسر الموصول بعوام أهل الكتاب، وقيل:
ضمير بعدهم للمشركين أيضا والبعدية رتبية كما قيل في قوله تعالى: «والأرض بعد ذلك دحاها» ولا يخفى عليك أنه لا بأس بعود ضمير تَفَرَّقُوا للمشركين لو وجد للذين أورثوا الكتاب توجيه يقع في حيز القبول والله تعالى الموفق، وجعل متعلق اسْتَقِمْ الدعاء لا تخفى مناسبته. وجوز جعله عاما فيكون استقم أمرا بالاستقامة في جميع أموره عليه الصلاة والسلام، والاستقامة أن يكون على خط مستقيم، وفسرها الراغب بلزوم المنهج المستقيم فلا حاجة إلى التأويل بالدوام على الاستقامة أي دم على الاستقامة وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي شيئا من أهوائهم الباطلة على أن الإضافة للجنس وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي بجميع الكتب المنزلة لأن ما من أدوات العموم، وتنكير كِتابٍ المبين مؤيد لذلك، وفي هذا القول تحقيق للحق وبيان لاتفاق الكتب في الأصول وتأليف لقلوب أهل الكتابين وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي أمرني الله تعالى بما أمرني به لأعدل بينكم في تبليغ الشرائع والأحكام فلا أخص بشيء منها شخصا دون شخص وقيل: لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم، وقيل: بتبليغ الشرائع وفصل الخصومة واختاره غير واحد، وقيل: لأسوّي بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعمله ولا أخالفكم إلى ما
أنهاكم عنه ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عزّ وجلّ، فاللام للتعليل والمأمور به محذوف، وقيل:
اللام مزيدة أي أمرت أن أعدل ويحتاج لتقدير الباء أي بأن أعدل، ولا يخلو عن بعد اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي خالق الكل ومتولي أمره فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب لَنا أَعْمالُنا لا يتخطانا جزاؤها ثوابا كان أو عقابا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا يجاوزكم آثارها لننتفع بحسناتكم ونتضرر بسيئاتكم لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة والعناد، وجاءت الحجة هنا على أصلها فإنها في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج كما ذكره الراغب وشاعت بمعنى الدليل وليس بمراد اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فيفصل سبحانه بيننا وبينكم، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسا حتى تكون منسوخة بآية السيف، وادعى أبو حيان أن ما يظهر منها الموادعة المنسوخة بتلك الآية.
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي يخاصمون في دينه، قال ابن عباس ومجاهد نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم فقالوا: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم، وفي رواية بدل فديننا إلخ فنحن أولى بالله تعالى منكم، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [الفتح: ١] قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا أو اتركوا الإسلام، والمحاجة فيه غير ظاهرة ولعلهم مع هذا يذكرون ما فيه ذلك مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي من بعد ما استجاب الناس الله عزّ وجلّ أو لدينه ودخلوا فيه وأذعنوا له لظهور الحجة ووضوح المحجة، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ زائلة باطلة لا تقبل عنده عزّ وجلّ بل لا حجة لهم أصلا، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة وهي الدليل هاهنا مجاراة معهم على زعمهم الباطل.
وجوز كون ضمير لَهُ للرسول عليه الصلاة والسلام لكونه في حكم المذكور والمستجيب أهل الكتب واستجابتهم له صلّى الله عليه وسلّم إقرارهم بنعوته واستفتاهم به قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا هم المحاجين كان الكلام في قوة والذين يحاجون في دين الله من بعد ما استجابوا لرسوله وأقروا بنعوته حجتهم في تكذيبه باطلة لما فيها من نفي ما أقروا به قبل وصدقة العيان، وقيل: المستجيب هو الله عزّ وجلّ وضمير لَهُ لرسوله عليه الصلاة والسلام، واستجابته تعالى له صلّى الله عليه وسلّم بإظهار المعجزات الدالة على صدقة، وإلى نحوه ذهب الجبائي حيث قال: أي من بعد ما استجاب الله تعالى دعاءه في كفار بدر حتى قتلهم بأيدي المؤمنين ودعائه على أهل مكة حتى قحطوا ودعاءه للمستضعفين حتى خلصهم الله تعالى من أيدي قريش وغير ذلك مما يطول تعداده، وبطلان حجتهم لظهور خلاف ما تقتضيه بزعمهم بذلك، وهذا ظاهر في أن هذه الآية مدنية لأن وقعة بدر بعد الهجرة وحمل اسْتُجِيبَ على الوعد خلاف الظاهر جدا، وكذا ما روي عن عكرمة، وقيل: إن حمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب يقتضي ذلك أيضا إذ لم يكن بمكة أحد منهم، وقيل: لا يقتضيه لأن خبر استجابتهم وإقرارهم بنعوته صلّى الله عليه وسلّم وهو عليه الصلاة والسلام بمكة بلغ أهل مكة والمجادلون محمول عليهم فلا مانع من كونها مكية وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لا يقادر قدره.
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ جنس الكتاب أو الكتاب المعهود أو جميع الكتب بِالْحَقِّ ملتبسا بالحق بعيدا من الباطل في أحكامه وأخباره أو ملتبسا بما يحق ويجب من العقائد والأحكام وَالْمِيزانَ أي العدل كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم أو الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوي بين الناس، وعلى الوجهين فيه استعارة ونسبة الإنزال إليه مجز لأنه من صفات الأجسام والمنزل حقيقة من بلغه، واعتبر بعضهم الأمر أي أنزل الأمر بالميزان، وتعقب
بأنه أيضا محتاج إلى التأويل، وقد يقال: نسبة الإنزال وكذا النزول إلى الأمر مشهورة جدا فالتحقت بالحقيقة، ويجوز أن يتجوز في الإنزال ويقال نحو ذلك في أَنْزَلَ الْكِتابَ وعن مجاهد أن الميزان الآلة المعروفة فعلى هذا إنزاله على حقيقته، وجوز أن يكون على سبيل الأمر به، واستظهر الأول لما نقل الزمخشري في الحديد أنه نزل إلى نوح وأمر أن يوزن به، وكون المراد به ميزان الأعمال بعيد هنا.
وَما يُدْرِيكَ أي: أي شيء يجعلك داريا أي عالما لَعَلَّ السَّاعَةَ أي إتيان الساعة الذي أخبر به الكتاب الناطق بالحق فالكلام بتقدير مضاف مذكر، وقوله تعالى: قَرِيبٌ خبر عنه في الحقيقة لأن المحذوف بقرينة كالملفوظ وهو وجه في تذكيره وجوز أن يكون لتأويل الساعة بالبعث وأن يكون قَرِيبٌ من باب تامر ولابن أي ذات قرب إلى أوجه أخر تقدمت في الكلام على قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف: ٥٦] وأيا ما كان فالمعنى إن الساعة على جناح الإتيان فاتبع الكتاب وواظب على العدل واعمل بالشرع قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استعجال إنكار واستهزاء كانوا يقولون: متى هي ليتها قامت حتى يظهر لنا أهو الذي نحن عليه أم كالذي عليه محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه.
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها أي خائفون منها مع اعتناء بها فإن الإشفاق عناية مختلطة بخوف فإذا عدي بمن كما هنا فمعنى الخوف فيه أظهر وإذا عدي بعلى فمعني العناية أظهر، وعنايتهم بها لتوقع الثواب، وزعم الجلبي أن الآية من الاحتباك والأصل يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلون بها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ الأمر المتحقق الكائن لا محالة أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ أي يجادلون فيها، وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب، وإطلاق المماراة على المجادلة لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه، ويجوز أن يكون من المرية التردد في الأمر وهو أخص من الشك ومعنى المفاعلة غير مقصود فالمعنى أن الذين يترددون في أمر الساعة ويشكون فيه لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق فإن البعث أقرب الغائبات بالمحسوسات لأنه يعلم من تجويزه من إحياء الأرض بعد موتها وغير ذلك فمن لم يهتد إليه فهو عن الاهتداء إلى ما وراءه أبعد وأبعد.
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ بر بليغ البر بهم يفيض جل شأنه على جميعهم من صنوفه ما لا يبلغه الأفهام ويؤذن بذلك مادة اللطف وصيغة المبالغة فيها وتنكيرها الدال على المبالغة بحسب الكمية الكيفية، قال حجة الإسلام عليه الرحمة:
إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها وما دق منها ولطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطيف ولا يتصور كمال ذلك إلا في الله تعالى شأنه، فصنوف البر من المبالغة في الكم، وكونها لا تبلغها الأفهام من المادة والمبالغة في الكيفية لأنه إذا دق جدا كان أخفى وأخفى، وإرادة الجميع من إضافة العباد وهو جمع إلى ضميره تعالى فيفيد الشمول والاستغراق، وبالعموم قال مقاتل إلا أنه قال: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا.
وقال أبو حيان: لطيف بعباده أي بر بعباده المؤمنين ومن سبق له الخلود في الجنة وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف إنما هو إملاء إلا ما آل إلى رحمة ووفاة على الإسلام، وحكى الطيبي هذا التخصيص عن الواحدي ومال إلى ترجيحه وذلك أنه ادعى أن الإضافة في (عباده) إضافة تشريف إذ أكثر استعمال التنزيل الجليل في مثل ذلك فيختص العباد بأوليائه تعالى المؤمنين، وحمل اللطف على منح الهداية وتوفيق الطاعة وعلى الكمالات الأخروية والكرامات السنية، وحمل الرزق في قوله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ عليه أيضا وقال: إن استعماله فيما ذكر كاستعماله في قوله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [النور: ٣٨].
وجعل قوله سبحانه: وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مؤذنا بالتعليل كأنه قيل: إنما تلطف جل شأنه في حق عباده المؤمنين دون من غضب عليهم بمحض مشيئته سبحانه لأنه تعالى قوي قادر على أن يختص برحمته وكرامته من يشاء من عباده عزيز غالب لا يمنعه سبحانه عما يريده أحد، وادعى أنه يكون وزان الآية على هذا مع قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ الآية وزان قوله عزّ وجلّ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: ٧، ١٠] وينتظم الكلام أتم انتظام وتلتئم أطرافه أشد التئام، ولا يقال حينئذ: إن قوله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ حكم مترتب على السابق فكان ينبغي أن يعم عمومه والعموم أظهر، وحديث التخصيص في يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ فقد أجاب عنه صاحب التقريب فقال: إنما خصص الرزق بمن يشاء مع أنهم كلهم بر سبحانه بهم لأنه تعالى قد يخص أحدا بنعمة وغيره بأخرى فالعموم لجنس البر والخصوص لنوعه. وأشار جار الله إلى أنه لا تخصيص بالحقيق فإن الله تعالى بليغ البر بجميع عباده يرزق من يشاء ما يشاء سبحانه منه. فيرزق من يشاء.
بيان لتوزيعه على جميعهم فليس الرزق إلا النصيب الخاص لكل واحد، ولما شمل الدارين لاءم قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ إلخ كل الملاءمة، ولا يتوقف هذا على ما قاله الطيبي، ولعل أمر التذييل بالاسمين الجليلين على القول بالعموم أظهر والتعليل أنسب فكأنه قيل: لطيف بعباده عام الإحسان بهم لأنه تعالى القوي الباهر القدرة الذي غلب وغلبت قدرته سبحانه جميع القدر يرزق من يشاء لأنه العزيز الذي لا يغلب على ما يريد فكل من الاسمين الجليلين ناظر إلى حكم فافهم وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤].
فكم لله من لطف خفي... يدق خفاه عن فهم الذكي
والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذور المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها وَمَنْ كانَ يُرِيدُ بأعماله حَرْثَ الدُّنْيا وهو متاعها وطيباتها نُؤْتِهِ مِنْها أي شيئا منها حسبما قدرناه له بطلبه وإرادته وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذ كانت همته مقصورة على الدنيا وقرأ ابن مقسم والزعفراني ومحبوب والمنقري كلاهما عن أبي عمرو «يزد» و «يؤته» بالياء فيهما، وقرأ سلام «نؤته» بضم الهاء وهي لغة أهل الحجاز وقد جاء في الآية فعل الشرط ماضيا والجواب مضارعا مجزوما قال أبو حيان: ولا نعلم خلافا في جواز الجزم في مثل ذلك وانه فصيح مختار مطلقا إلا ما ذكره صاحب كتاب الاعراب أبو الحكم بن عذرة عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الفصيح إلا إذا كان فعل الشرط كان، وإنما يجيء معها لأنها أصل الأفعال ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص بكان بل سائر الأفعال مثلها في ذلك وأنشد سيبويه للفرزدق:
دست رسولا بأن القوم إن قدروا... عليك يشفوا صدورا ذات توغير
وقال أيضا:
تعش فإن عاهدتني لا تخونني... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ في الكفر وهم الشياطين شَرَعُوا لَهُمْ أي لهؤلاء الكفرة المعاصرين لك بالتسويل والتزيين مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا. وأَمْ منقطعة فيها معنى بل الاضرابية والهمزة التي للتقرير والتقريع والاضراب عما سبق من قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ إلخ فالعطف عليه وما اعترض به بين الآيتين من تتمة الأولى، وتأخير الاضراب ليدل على أنهم في شرع يخالف ما شرعه الله تعالى من كل
وجه فالشرك في مقابلة إقامة الدين والاستقامة عليه وإنكار البعث في مقابلة قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ والعمل للدنيا لقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ وهذا أظهر من جعل الاضراب عما تقدم من قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كما لا يخفى، وقيل: شركاؤهم أصنامهم، وإضافتها إليهم لأنهم الذين جعلوها شركاء لله سبحانه، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم كقوله تعالى: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً [إبراهيم: ٤٦] وجوز أن يكون الاستفهام المقدر على هذا للإنكار أي ليس لهم شرع ولا شارع كما في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: ٤٣] وأيا ما كان فضمير شَرَعُوا للشركاء وضمير لَهُمْ للكفار.
وجوز على تفسير الشركاء بالأصنام أن يكون الأول للكفار والثاني للشركاء أي شرع الكفار لأصنامهم ورسموا من المعتقدات والأحكام ما لم يأذن به الله تعالى كاعتقاد أنهم آلهة وأن عبادتهم تقربهم إلى الله سبحانه، وكجعل البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك، وهو كما ترى وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء والحكم السابق منه تعالى بتأخير العذاب إلى يوم القيامة أو إلى آخر أعمارهم لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الكافرين والمؤمنين في الدنيا أو حين افترقوا بالعقاب والثواب، وجوز أن يكون المعنى لولا ما وعدهم الله تعالى به من الفصل في الآخرة لقضي بينهم فالفصل بمعنى البيان كما في قوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات: ٣٨] وقيل: ضمير بينهم للكفار وشركائهم بأي معنى كان وَإِنَّ الظَّالِمِينَ وهم المحدث عنهم أو الأعم منهم ويدخلون دخولا أوليا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. وفي البحر أي في الدنيا بالقتل والأسر والنهب وفي الآخرة بالنار.
وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب «وأن» بفتح الهمزة عطفا على كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي لولا القضاء السابق بتأخير العذاب وتقدير أن الظالمين لهم عذاب أليم في الآخرة أو لولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة وتقدير أن الظالمين لهم إلخ لقضي بينهم، والعطف على التقديرين تتميم للإيضاح لا تفسيري محض تَرَى الظَّالِمِينَ جملة مستأنفة لبيان ما قبل، والخطاب لكل أحد يصلح له للقصد إلى المبالغة في سوء حالهم أن ترى يا من يصح منه الرؤيا الظالمين يوم القيامة مُشْفِقِينَ خائفين الخوف الشديد مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا من السيئات، والكلام قيل على تقدير مضاف.
و (من) صلة الإشفاق أي مشفقين من وبال ما كسبوا وَهُوَ أي الوبال واقِعٌ بِهِمْ أي حاصل لهم لا حق بهم، واختار بعضهم أن لا تقدير ومن تعليلية لأنه أدخل في الوعيد، والجملة اعتراض للإشارة إلى أن إشفاقهم لا ينفعهم، وإيثار واقِعٌ على يقع من أن المعنى على الاستقبال لأن الخوف إنما يكون من التوقع بخلاف الحزن للدلالة على تحققه وأنه لا بد منه، وجوز أن تكون حالا من ضمير مُشْفِقِينَ وظاهر ما سمعت أنه حال مقدرة.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ أي مستقرون في أطيب بقاعها وأنزهها.
وقال الراغب: هي محاسنها وملاذها، وأصل الروضة مستنقع الماء والخضرة واللغة الكثيرة في واوها جمعا التسكين كما في المنزل ولغة هذيل بن مدركة فتحها فيقولون روضات إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات ولم يقرأ فيما علمنا بغتهم لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم فالظرف متعلق بمتعلق الجار والمجرور الواقع خبرا لما أو به واختاره جار الله ونفى أن يكون متعلقا بيشاؤون مع أنه الظاهر نحوا، وبين صاحب الكشف ذلك بأنه كلام في معرض المبالغة في وصف ما يكون أهل الجنة فيه من النعيم الدائم فأفيد أنهم في أنزه موضع من الجنة وأطيب مقعد منها بقوله تعالى: فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لأن روضة الجنة
أنزه موضع منها لا سيما والإضافة في هذا المقام تنبىء عن تميزها بالشرف والطيب، والتعقيب بقوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ أيضا ثم أفيد أن لهم ما يشتهون من ربهم ولا خفاء أنك إذا قلت: لي عند فلان ما شئت كان أبلغ في حصول كل مطالبك منه مما إذا قلت: لي ما شئت عند فلان بالنسبة إلى الطالب والمطلوب منه.
أما الأول فلأنه يفيد أن جميع ما تشاؤوه موجود مبذول لك منه، والثاني يفيد أن ما شئت عنده مبذول لا جميع ما تشاؤوه، وأما الثاني فلأنك وصفته بأنه يبذل جميع المرادات، وفي الثاني وصفته بأن ما شئت عنده مبذول لك إما منه وإما من غيره ثم في الأول مبالغة في تحقيق ذلك وثبوته كما تقول: لي عندك وقبلك كذا، فالله تعالى شأنه أخبر بأن ذلك حق لهم ثابت حق لهم ثابت مقتضى في ذمة فضله سبحانه ولا كذلك في الثاني، ثم قال: ولعل الأوجه أن يجعل عِنْدَ رَبِّهِمْ خبرا آخر أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم في روضات الجنات لهم فيها ما يشاؤون، وإنما أخر توخيا لسلوك طريق المبالغة في الترقي من الترقي من الأدنى إلى الأعلى ومراعاة لترتيب الوجود أيضا فإن الوافد والضيف ينزل في أنزه موضع ثم يحضر بين يديه الذي يشتهيه وملاك ذلك كله أن يختص رب المنزل بالقرب والكرامة، وأن جعله حالا من فاعل يشاؤون أو من المجرور في لَهُمْ أفاد هذا المعنى أيضا لكنه يقصر عما آثرناه لأنه قد أتى به إتيان الفضلة وهو مقصود بذاته عمدة، ولعمري إن ما آثره حسن معنى إلا أنه أبعد لفظا مما أثره جار الله، ولا يخفى عليك ما هو الأنسب بالتنزيل.
وفي الخبر عن أبي ظبية قال: إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول: ما أمطركم؟ فما يدعو داع من القوم إلا امطرته حتى أن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أترابا
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من حال المؤمنين، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي لا يقدر قدره ولا تبلغ غايته ويصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا ذلِكَ الفضل الكبير أو الثواب المفهوم من السياق هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول كما هو عادتهم في التدريج في الحذف، ولا مانع كما قال الشهاب من حذفهما دفعة، وجوز كون ذلك إشارة إلى التبشير المفهوم من يُبَشِّرُ بعد والإشارة قد تكون لما يفهم بعد كما قرروه في قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣] ونحوه، والعائد إلى الموصول ضمير منصوب بيبشر على أنه مفعول مطلق له لأنه ضمير المصدر أي ذلك التبشير يبشره الله عباده وزعم أبو حيان أنه لا يظهر جعل الإشارة إلى التبشير لعدم تقدم لفظ البشرى ولا ما يدل عليها وهو ناشىء عن الغفلة عما سمعت فلا حاجة في الجواب عنه أن كون ما تقدم تبشيرا للمؤمنين كاف في صحة ذلك، ثم قال: ومن النحويين من جعل الذي مصدرية حكاه ابن مالك عن يونس وتأول عليه هذه الآية أي ذلك تبشير الله تعالى عباده، وليس بشيء لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل وقد ثبتت اسمية الذي فلا يعدل عن ذلك بشيء لا يقوم به دليل ولا شبهة.
وقرأ عبد الله بن يعمر وابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة في رواية والكسائي وحمزة «يبشر» ثلاثيا ومجاهد وحميد بن قيس بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر وهو معدى بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين وإما بشر بفتحها فمتعد وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية لأن المعدى إلى واحد وهو مخفف لا يعدى بالتضعيف إليه فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على ما أتعاطاه لكم من التبليغ والبشارة وغيرهما أَجْراً أي نفعا ما، ويختص في العرف بالمال إِلَّا الْمَوَدَّةَ أي إلا مودتكم إياي فِي الْقُرْبى أي لقرابتي منكم ففي للسببية مثلها في «إن امرأة دخلت النار في هرة» فهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة، وإلى هذا المعنى مجاهد وقتادة وجماعة والخطاب إما لقريش على ما قيل: إنهم جمعوا له مالا وأرادوا أن يرشوه على أن يمسك عن سب آلهتهم
فلم يفعل ونزلت. وله عليه الصلاة والسلام في جميعهم قرابة. أخرج أحمد والشيخان. والترمذي. وغيرهم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال ابن عباس:
عجلت أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة أو للأنصار بناء على ما قيل: إنهم أتوه بمال ليستعين به على ما ينوبه فنزلت فرده، وله عليه الصلاة والسلام قرابة منهم لأنهم أخواله فإن أم عبد المطلب وهي سلمى بنت زيد النجارية منهم وكذا أخوال آمنة أمه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما في بعض التواريخ من الأنصار أيضا أو لجميع العرب لقرابته عليه الصلاة والسلام منهم جميعا في الجملة كيف لا وهم إما عدنانيون وقريش منهم وإما قحطانيون والأنصار منهم، وقرابته عليه الصلاة والسلام من كل قد علمت وذلك يستلزم قرابته من جميع العرب، وقضاعة من قحطان لا قسم برأسه على ما عليه معظم النسابين، والمعنى إن لم تعرفوا حقي لنبوتي وكوني رحمة عامة ونعمة تامة فلا أقل من مودتي لأجل حق القرابة وصلة الرحم التي تعتنون بحفظها ورعايتها.
وحاصله لا أطلب منكم إلا مودتي ورعاية حقوقي لقرابتي منكم وذلك أمر لازم عليكم، وروي نحو هذا في الصحيحين عن ابن عباس بل جاء ذلك عنه رضي الله تعالى عنه في روايات كثيرة وظاهرها أن الخطاب لقريش منها ما أخرجه سعيد بن منصور وابن مسعود وعبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الشعبي قال: أكثر الناس علينا في هذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ إلخ فكتبنا إلى ابن عباس نسأله فكتب رضي الله تعالى عنه إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان وسط النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه قال الله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً على ما أدعوكم عليه إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى تودوني لقرابتي منكم وتحفظوني بها ومنها ما
أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. والطبراني عنه قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرابة من جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يتابعوه قال: يا قوم إذا أبيتم أن تتابعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم
، والظاهر من هذه الأخبار أن الآية مكية والقول بأنها في الأنصار يقتضي كونها مدنية، والاستثناء متصل بناء على ما سمعت من تعميم الأجر.
وقيل: لا حاجة إلى التعميم وكون المودة المذكورة من أفراد الأجر ادعاء كاف لاتصال الاستثناء، وقيل: هو منقطع إما بناء على أن المودة له عليه الصلاة والسلام ليست أجرا أصلا بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم أو لأنها لازمة لهم ليمدحوا بصلة الرحم فنفعها عائد عليهم والانقطاع اقطع لتوهم المنافاة بين هذه الآية والآيات المتضمنة لنفي سؤال الأجر مطلقا وذهب جماعة إلى أن المعنى لا أطلب منكم أجرا إلا محبتكم أهل بيتي وقرابتي. وفي البحر أنه قول ابن جبير والسدي وعمرو بن شعيب، وفِي عليه للظرفية المجازية.
والْقُرْبى بمعنى الأقرباء، والجار والمجرور في موضع الحال أي إلا المودة ثابتة في أقربائي متمكنة فيهم، ولمكانة هذا المعنى لم يقل: إلا مودة القربى، وذكر أنه على الأول كذلك وأمر اتصال الاستثناء وانقطاعه على ما سبق، والمراد بقرابته عليه الصلاة والسلام في هذا القول قيل: ولد عبد المطلب، وقيل
علي وفاطمة وولدها رضي الله تعالى عنهم وروي ذلك مرفوعا
، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق ابن جبير عن ابن عباس قال: «لما نزلت هذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ إلخ قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت مودتهم؟ قال علي وفاطمة وولدها صلّى الله عليه وسلّم على النبي وعليهم».
وسند هذا الخبر على ما قال السيوطي في الدر المنثور ضعيف، ونص على ضعفه في تخريج أحاديث الكشاف ابن حجر، وأيضا لو صح لم يقل ابن عباس ما حكي عنه في الصحيحين وغيرهما وقد تقدم إلا أنه روي عن جماعة من
أهل البيت ما يؤيد ذلك،
أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أسيرا فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي رضي الله تعالى عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أقرأت آل حم؟ قال: نعم قال: ما قرأت: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم
وروى ذاذان عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن ثم قرأ هذه الآية
، وإلى هذا أشار الكميت في قوله:
وجدنا لكم في آل حم آية... تأولها منا تقيّ ومعرب
ولله تعالى در السيد عمر الهيتي أحد الأقارب المعاصرين حيث يقول:
بأية آية يأتي يزيد... غداة صحائف الأعمال تتلى
وقام رسول رب العرش يتلو... وقد صمت جميع الخلق قل لا
والخطاب على هذا القول لجميع الأمة لا للأنصار فقط وإن ورد ما يوهم ذلك فإنهم كلهم مكلفون بمودة أهل البيت،
فقد أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أذكركم الله تعالى في أهل بيتي.
وأخرج الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال عليه الصلاة والسلام «أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لحب الله تعالى وأحبوا أهل بيتي لحبي»
وأخرج ابن حبان والحاكم عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار»
إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة من الأخبار، وفي بعضها ما يدل على عموم القربى وشمولها لبني عبد المطلب.
أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودر عرق بين عينيه ثم قال: والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي
، وهذا ظاهر إن خص القربى بالمؤمنين منهم وإلا فقيل: إن الحكم منسوخ، وفيه نظر، والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث إنهم قرابته صلّى الله عليه وسلّم كيف كانوا، وما أحسن ما قيل:
داريت أهلك في هواك وهم عدا... ولأجل عين ألف عين تكرم
وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد، فمودة العلويين الفاطميين ألزم من محبة العباسيين على القول بعموم الْقُرْبى وهي على القول بالخصوص قد تتفاوت أيضا باعتبار تفاوت الجهات والاعتبارات وآثار تلك المودة التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتم قيام، وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتى عدوا من الرفض السلوك في هاتيك المسالك. وأنا أقول قول الشافعي الشافي العي:
يا راكبا قف بالمحصب من منى... واهتف بساكن خيفها والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى... فيضا كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضا حب آل محمد... فليشهد الثقلان أني رافضي
ومع هذا لا أعد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم دينا وأرى حبهم فرضا علي مبينا فقد أوجبه أيضا الشارع وقامت على ذلك البراهين السواطع. ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكرين قال:
إنه عليه الصلاة والسلام قال: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم»
ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات وراكب البحر يحتاج إلى أمرين: أحدهما السفينة الخالية عن العيوب، والثاني الكواكب الطالعة النيرة، فإذا ركب تلك السفينة ووضع بصره على تلك الكواكب كان رجاء السلامة غالبا، فلذلك
ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد صلّى الله عليه وسلّم ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة يرجون أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة انتهى، والكثير من الناس في حق كل من الآل والأصحاب في طرفي التفريط والإفراط وما بينهما هو الصراط المستقيم، ثبتنا الله تعالى على ذلك الصراط.
وقال عبد الله بن القاسم: المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن يود بعضكم بعضا وتصلوا قراباتكم، وأمر فِي والاستثناء لا يخفى.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا التقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح فالقربى بمعنى القرابة وليس المراد قرابة النسب قيل: ويجري في الاستثناء الاتصال والانقطاع، واستظهر الخفاجي أنه منقطع وأنه على نهج قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم البيت، وأراه على القول قبله كذلك.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «إلا مودة في القربى» هذا ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه
قال علي كرم الله تعالى وجهه: واجب المحبة وكل واجب المحبة واجب الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة
ينتج علي رضي الله تعالى عنه صاحب الإمامة وجعلوا الآية دليل الصغرى، ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث، أما أولا فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتم إلا على القول بأن معناها لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأول، وقيل في هذا المعنى: إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم، وأيضا فيه منافاة ما لقوله تعالى: وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [يوسف: ١٠٤] وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن كل واجب المحبة واجب الطاعة فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الاعتقادات أن الإمامية أجمعوا على وجوب محبة العلوية مع أنه لا يجب طاعة كل منهم، وأما ثالثا فلأنا لا نسلم أن كل واجب الطاعة صاحب الإمامة أي الزعامة الكبرى وإلا لكان كل نبي في زمنه صاحب ذلك ونص إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً [البقرة: ٢٤٧] يأبى ذلك، وأما رابعا فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى أهل البيت واجبو الطاعة ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا ينتج النتيجة التي ذكروها ولو سلمت جميع مقدماته بل ينتج أهل البيت صاحبو الإمامة وهم لا يقولون بعمومه إلى غير ذلك من الأبحاث فتأمل ولا تغفل.
وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً أي يكتسب أي حسنة كانت، والكلام تذييل، وقيل المراد بالحسنة المودة في قربى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وروي ذلك عن ابن والسدي، وأن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لشدة محبته لأهل البيت، وقصة فدك. والعوالي لا تأبى ذلك عند من له قلب سليم، والكلام عليه تتميم، ولعل الأول أولى، وحب آل الرسول عليه الصلاة والسلام من أعظم الحسنات وتدخل في الحسنة هنا دخولا أوليا نَزِدْ لَهُ فِيها أي في الحسنة حُسْناً بمضاعفة الثواب عليها فإنها يزاد بها حسن الحسنة، ففي للظرفية وحُسْناً مفعول به أو تمييز، وقرأ زيد بن علي وعبد الوارث عن أبي عمرو وأحمد بن جبير عن الكسائي «يزد» بالياء أي يزد الله تعالى. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «حسنى» بغير تنوين وهو مصدر كبشرى أو صفة لموصوف مقدر أي صفة أو خصلة حسنى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ساتر ذنوب عباده شَكُورٌ مجاز من أطاع منهم بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة، وقال السدي: غفور لذنوب آل محمد صلّى الله عليه وسلّم شكور لحسناتهم.