فَإِنَّكَ حِينَئِذٍ قَدْ أَخَذْتَ بِطَرَفَيْ حَبْلِ مَا يُسَمُّونَهُ عِلْمَ الْكَلَامِ، وَعِلْمَ أُصُولِ الدِّينِ:
وَدَعْ عنك نهبا صيح في حجراته | ولكن حديث مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ |
ثُمَّ لَمَّا ذكر سبحانه أن بيده مقاليد السموات والأرض ذَكَرَ بَعْدَهُ الْبَسْطَ وَالْقَبْضَ فَقَالَ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أَيْ: يُوَسِّعُهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلِيمٌ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَإِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا عِلْمُهُ بِطَاعَةِ الْمُطِيعِ وَمَعْصِيَةِ الْعَاصِي، فَهُوَ يُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الله ابن عَمْرٍو. قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ. فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟
قُلْنَا لَا، إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ:
هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَاءِ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ لَهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ طَرَفًا مِنْهُ عن ابن عمر مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. قُلْتُ: بَلِ الْمَرْفُوعُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، فَقَدْ رَفَعَهُ الثِّقَةُ وَرَفْعُهُ زِيَادَةٌ ثَابِتَةٌ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَيُقَوِّي الرَّفْعَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ.
قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ كِتَابٌ يَنْظُرُ فِيهِ قَالُوا: انْظُرُوا إِلَيْهِ كَيْفَ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ، قَالَ: فَعَلِمَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءِ قَبَائِلِهِمْ لَا يُزَادُ مِنْهُمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ، وَقَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنْ أعمال العباد».
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٣ الى ١٨]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) صفحة رقم 606
الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ لأمة محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَيْ: بَيَّنَ وَأَوْضَحَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً مِنَ التَّوْحِيدِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ وَأُصُولِ الشَّرَائِعِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا الرُّسُلُ وَتَوَافَقَتْ عَلَيْهَا الْكُتُبُ وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، وَخَصَّ مَا شرعه لنبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْإِيحَاءِ مَعَ كَوْنِ مَا بَعْدَهُ، وَمَا قَبْلَهُ مَذْكُورًا بِالتَّوْصِيَةِ لِلتَّصْرِيحِ بِرِسَالَتِهِ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى مِمَّا تَطَابَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا وَصَّى بِهِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ:
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أَيْ: تَوْحِيدَ اللَّهِ، وَالْإِيمَانَ بِهِ، وَطَاعَةَ رُسُلِهِ، وَقَبُولَ شَرَائِعِهِ، وَأَنْ: هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ:
وَهِيَ وَمَا بَعْدَهَا: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا ذَلِكَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ؟ فَقِيلَ: هُوَ إِقَامَةُ الدِّينِ، أَوْ: هِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ الْمَوْصُولِ، أَوْ: فِي مَحَلِّ جَرٍّ بَدَلًا مِنَ الدِّينِ، أَوْ: هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّهُ قد تقدمها ما فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَنَّهُ شَرَعَ لَكُمْ، وَلِمَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ دِينًا وَاحِدًا.
قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي التَّوْحِيدَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَصَّاهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، فَذَلِكَ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَ لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي تَحْلِيلَ الْحَلَالِ، وَتَحْرِيمَ الْحَرَامِ، وَخُصَّ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى بِالذِّكْرِ مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ أَرْبَابُ الشَّرَائِعِ. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِإِقَامَةِ الدِّينِ، نَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ فَقَالَ: وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أَيْ: لَا تَخْتَلِفُوا فِي التَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَقَبُولِ شَرَائِعِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَدْ تَطَابَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ، وَتَوَافَقَتْ فِيهَا الْأَدْيَانُ، فَلَا يَنْبَغِي الْخِلَافُ فِي مِثْلِهَا، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا فُرُوعُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا الْأَدِلَّةُ، وَتَتَعَارَضُ فِيهَا الْأَمَارَاتُ، وَتَتَبَايَنُ فِيهَا الْأَفْهَامُ، فَإِنَّهَا مِنْ مَطَارِحِ الِاجْتِهَادِ، وَمَوَاطِنِ الْخِلَافِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ شَقَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ:
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَيْ: عَظُمَ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَرَفْضِ الْأَوْثَانِ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَضَاقَ بِهَا إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَنْصُرَهَا، وَيُعْلِيَهَا، وَيُظْهِرَهَا، وَيُظْفِرَهَا عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا. ثُمَّ خَصَّ أَوْلِيَاءَهُ فَقَالَ: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يَخْتَارُ، وَالِاجْتِبَاءُ: الِاخْتِيَارُ، وَالْمَعْنَى: يَخْتَارُ لِتَوْحِيدِهِ وَالدُّخُولِ فِي دِينِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أَيْ: يُوَفِّقُ لِدِينِهِ وَيَسْتَخْلِصُ لِعِبَادَتِهِ مَنْ يَرْجِعُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيُقْبِلُ إِلَى عِبَادَتِهِ.
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ، وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ فِيهِ ذكر ما وقع من التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فَقَالَ:
وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ أَيْ: مَا تَفَرَّقُوا إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ ضَلَالَةٌ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ التَّفَرُّقَ لِلْبَغْيِ بَيْنَهُمْ بِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَشِدَّةِ الْحَمِيَّةِ، قِيلَ: الْمُرَادُ قُرَيْشٌ هُمُ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ،
وهو محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَغْياً مِنْهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ «١» الآية، وَبِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «٢» وَقِيلَ: الْمُرَادُ أُمَمُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ اخْتَلَفُوا لَمَّا طَالَ بِهِمُ الْمَدَى فَآمَنَ قَوْمٌ، وَكَفَرَ قَوْمٌ، وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى خَاصَّةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «٣» وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَهِيَ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كما في قوله: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «٤» وَقِيلَ: إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ لِعَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَالذُّلِّ وَالْقَهْرِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَيْ: لَوَقَعَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ بِإِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ مُعَجَّلَةً، وَقِيلَ: لَقُضِيَ بَيْنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَفَرَ بِنُزُولِ الْعَذَابِ بِالْكَافِرِينَ، وَنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ مُرِيبٍ مُوقِعٍ في الريب ولذلك لَمْ يُؤْمِنُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى مِنْ بَعْدِهِمْ: مِنْ قَبْلِهِمْ: يَعْنِي مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ الْمُرَادُ كُفَّارُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ أُورِثُوا الْقُرْآنَ مِنْ بَعْدِ مَا أُورِثَ أَهْلُ الْكِتَابِ كِتَابَهُمْ، وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ مُرِيبٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أُورِثُوا وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «وُرِّثُوا» بِالتَّشْدِيدِ فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ أَيْ: فَلِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالشَّكِّ، أَوْ فَلِأَجْلِ أَنَّهُ شُرِعَ مِنَ الدِّينِ مَا شُرِعَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ أَيْ: فَادْعُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَاسْتَقِمْ عَلَى مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ:
الْمَعْنَى فَإِلَى ذَلِكَ فَادْعُ كَمَا تَقُولُ: دَعَوْتُ إِلَى فُلَانٍ وَلِفُلَانٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَصَّى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ التَّوْحِيدِ.
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تدعوهم إِلَيْهِ فَلِذَلِكَ فَادْعُ. قَالَ قَتَادَةُ: اسْتَقِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: اسْتَقِمْ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَقِمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ كَما أُمِرْتَ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الْبَاطِلَةَ وَتَعَصُّبَاتِهِمُ الزَّائِغَةَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى خِلَافِ مَنْ خَالَفَكَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أَيْ: بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ، لَا كَالَّذِينِ آمَنُوا بِبَعْضٍ مِنْهَا وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ إِذَا تَرَافَعْتُمْ إِلَيَّ، وَلَا أَحْيَفُ عَلَيْكُمْ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، أَوْ بِنُقْصَانٍ مِنْهُ، وَأُبَلِّغُ إِلَيْكُمْ مَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ كَمَا هُوَ، وَاللَّامُ لَامُ كَيْ، أَيْ:
أُمِرْتُ بِذَلِكَ الَّذِي أَمَرْتُ بِهِ لِكَيْ أَعْدِلَ بَيْنَكُمْ، وَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: أُمِرْتُ أَنْ أَعْدِلَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أُمِرْتُ لِأُسَوِّيَ بَيْنَكُمْ فِي الدِّينِ فَأُومِنُ بِكُلِّ كِتَابٍ وَبِكُلِّ رَسُولٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمَعْنَى: أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أَيْ: إِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ، وَخَالِقُنَا وَخَالِقُكُمْ لَنا أَعْمالُنا أَيْ: ثَوَابُهَا وَعِقَابُهَا خَاصٌّ بِنَا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أَيْ: ثَوَابُهَا وَعِقَابُهَا خَاصٌّ بِكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أَيْ: لَا خُصُومَةَ بَيْنِنَا وَبَيْنَكُمْ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ ظَهَرَ وَوَضَحَ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا فِي الْمَحْشَرِ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيِ: الْمَرْجِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. قِيلَ:
الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ، وقيل: للكفار عَلَى الْعُمُومِ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي:
(٢). البقرة: ٨٩.
(٣). التين: ٤.
(٤). القمر: ٤٦.
يُخَاصِمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتَجَابَ النَّاسُ لَهُ، وَدَخَلُوا فِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ بَعْدِ مَا أَسْلَمَ النَّاسُ. قَالَ:
وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ تَوَهَّمُوا أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ تَعُودُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمُحَاجَّتُهُمْ قَوْلُهُمْ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمُ الْفَضِيلَةَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَأَنَّهُمْ أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وأحسن نديا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمَوْصُولُ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ وَهِيَ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ: لَا ثَبَاتَ لَهَا كَالشَّيْءِ الَّذِي يَزُولُ عَنْ مَوْضِعِهِ، يُقَالُ: دَحَضَتْ حُجَّتُهُ دُحُوضًا: بَطَلَتْ، وَالْإِدْحَاضُ: الْإِزْلَاقُ، وَمَكَانٌ دَحْضٌ: أَيْ زَلِقٌ، وَدَحَضَتْ رِجْلُهُ: زَلِقَتْ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ أَيْ:
غَضَبٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِمُجَادَلَتِهِمْ بِالْبَاطِلِ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ فِي الْآخِرَةِ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْجِنْسُ فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ خَاصَّةً، وَبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، وهو الصدق وَالمراد ب الْمِيزانَ الْعَدْلُ، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا وَسُمِّيَ الْعَدْلُ مِيزَانًا لِأَنَّ الْمِيزَانَ آلَةُ الْإِنْصَافِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: الْمِيزَانُ مَا بُيِّنَ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الطاعة بالثواب، وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالْعِقَابِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمِيزَانُ نَفْسُهُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَعَلَّمَ الْعِبَادَ الْوَزْنَ بِهِ لِئَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمْ تَظَالُمٌ وَتَبَاخُسٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ «١» وقيل:
هو محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ دَارِيًا بِهَا، عَالِمًا بِوَقْتِهَا لَعَلَّهَا شَيْءٌ قَرِيبٌ، أَوْ قَرِيبٌ مَجِيئُهَا، أَوْ ذَاتُ قُرْبٍ. وَقَالَ قَرِيبٌ وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
الْمَعْنَى لَعَلَّ الْبَعْثَ أَوْ لَعَلَّ مَجِيءَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قَرِيبٌ نَعْتٌ يُنْعَتُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ والمذكر كما في قوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «٢» وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَكُنَّا قَرِيبًا وَالدِّيَارُ بَعِيدَةٌ | فَلَمَّا وَصَلْنَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ غِبْنَا |
أَنَّهَا آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ «٣».
ثُمَّ بَيَّنَ ضَلَالَ الْمُمَارِينَ فِيهَا فَقَالَ: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ أَيْ: يُخَاصِمُونَ فيها مخاصمة شك وريبة، من المماراة وَهِيَ: الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُجَادَلَةُ، أَوْ مِنَ الْمِرْيَةِ: وَهِيَ الشَّكُّ وَالرِّيبَةُ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عَنِ الْحَقِّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي الْمُوجِبَاتِ لِلْإِيمَانِ بِهَا مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي هِيَ مُشَاهَدَةٌ لَهُمْ مَنْصُوبَةٌ لِأَعْيُنِهِمْ مَفْهُومَةٌ لِعُقُولِهِمْ، وَلَوْ تَفَكَّرُوا لَعَلِمُوا أَنَّ الذي خلقهم ابتداء قادر على الإعادة.
(٢). الأعراف: ٥٦.
(٣). المؤمنون: ٦٠. [.....]