
أطال الدعاء والتضرع إلى الله، لعله يكشف عنه تلك الغمة، ويزيل عنه برحمته هاتيك الملمّة.
ونحو الآية قوله «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» الآية.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
تفسير المفردات
أرأيتم: أي أخبرونى، أضل: أي أكثر ضلالا وبعدا عن الحق، والشقاق:
الخلاف، والآفاق: النواحي من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها واحدها أفق (بضمتين وبضم فسكون) وشهيد: أي شاهد على كل ما يفعله خلقه، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، ومرية: أي شك، من لقاء ربهم: أي من البعث بعد الممات، محيط: أي عالم بجميع الأشياء لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.
المعنى الجملي
بعد أن أوعد سبحانه على الشرك وهدد، وحذر وأنذر، وذكر أن المشركين ينكرون الشرك يوم القيامة ويتبرءون من الشركاء، ويظهرون الذل والخضوع، لاستيلاء الخوف عليهم لما يرون من شديد الأهوال، وأردف هذا ذكر طبيعة الإنسان وأنه

متبدل لا يثبت على حال واحدة، فإن أحس القوة تكبر وتعظم، وإن شعر بالضعف أظهر المسكنة والمذلة- أعقب ذلك بلفت أنظار الطاعنين فى ثبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى التأمل والتفكر فيما بين أيديهم من الدلائل، ليرعووا عما هم فيه من الغى والضلال، ويقروا بها لتظاهر الأدلة عليها، وعلى أن القرآن منزل من عند الله حقا، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالقرآن الذي جئتهم به من عند ربك: أخبرونى أيها القوم إن كان هذا الذي أنتم به تكذبون- من عند ربى ثم كفرتم به، أفلا تكونون مفارقين للحق بعيدين من الصواب؟.
وقد كانوا كلما سمعوا القرآن أعرضوا عنه وبالغوا فى النفرة منه، حتى قالوا: قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر، فلفت أنظارهم إلى أنه يجب عليهم النظر والتأمل فيه، فإن دل الدليل على صحته قبلوه، وإن أرشد إلى فساده تركوه، أما قبل ذلك فالإصرار على الإعراض والإنكار بعيدان عو الصواب وعما يحكم به العقل.
فما أضلكم وأكثر عنادكم ومشاقتكم للحق واتباعكم للهوى.
وخلاصة ذلك- قل لهم: من أشد ذهابا عن قصد السبيل، وأسلك لغير طريق الصواب، ممن هو فى فراق لأمر الله وخلاف له، وبعد عنه؟
وبعد أن ذكر أدلة التوحيد والنبوة أجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال:
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) أي سنرى هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد المحيطة بمكة وبمكة بما أجريناه على يدى نبينا وعلى يدى خلفائه وأصحابه من الفتوح الدالة على قوة الإسلام وأهله، ووهن الباطل وحزبه حتى

يعلموا حقيقة ما أوحينا به إليك وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن وعده صادق وأنه مظهر دينك على الأديان كلها.
والخلاصة- سنيسر لهم من الفتوح ما لم يتيسر لأحد ممن قبلهم، ونظهرهم على الجبابرة والأكاسرة، ونجرى على أيديهم من الأمور الخارجة عن المعهود، الخارقة للعادة، فيستبين لهم أن هذا القرآن هو الحق، ومن ثمّ نصر حامليه، وأظهرهم على أعدائهم فى قليل من الزمان.
ثم وبخهم على إنكارهم تحقق هذه الإراءة وحصولها فقال:
(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟) أي كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم، وهو يشهد بأن محمدا صادق فيما أخبر به عنه كما قال: «لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ» الآية، وقوله: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ».
وقصارى ذلك- ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها سبحانه فى هذه السورة وفى كل سور القرآن، وفيها البيان الكافي لإثبات وحدانية الله وتنزيهه عن كل نقص، وإثبات النبوة والبعث.
وبعد أن أقام الأدلة، وأوضح الحجج حتى لم يبق بعدها مقال لمتنعت ولا جاحد- بين سبب عنادهم واستكبارهم فقال:
(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي إنهم فى شك من البعث والجزاء، واستبعادهم إحياء الموتى بعد تفرق أجزائهم، وتبدد أعضائهم، ومن ثم لا يلتفتون إلى النظر فيما ينفعهم عند لقائه كالتفكر فى صدق نبوة محمد ﷺ وأن القرآن حق لا شك فيه.
ثم دفع مريتهم وشكهم فى البعث وإعادة ما تفرق واختلط، مما يتوهم منه عدم إمكان تمييزه فقال:

(أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي إنه تعالى عليم بجمل الأشياء وتفاصيلها، مقتدر عليها لا يفوته شىء منها، فهو يعلم ما تفرق من أجزاء الأجسام، ويقدر على إعادتها إلى مكنتها، ثم بعثها وحسابها، لتستوفى جزاءها على ما قدمت من عمل.
مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
(١) وصف الكتاب الكريم.
(٢) إعراض المشركين عن تدبره.
(٣) جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين.
(٤) إقامة الأدلة على الوحدانية.
(٥) إنذار المشركين بأنه سيحل بهم ما حل بالأمم قبلهم.
(٦) شهادة الأعضاء عند الحشر على أربابها.
(٧) ما يفعله قرناء السوء من التصليل والصد عن سبيل الله.
(٨) ما كان يفعله المشركون حين سماع القرآن.
(٩) طلب المشركين إهانة من أضلوهم انتقاما منهم.
(١٠) ما يلقاه المؤمنون من الكرامة يوم العرض والحساب.
(١١) إعادة الأدلة على الوحدانية.
(١٢) القرآن هداية ورحمة.
(١٣) إحاطة علم الله وعظيم قدرته.
(١٤) من طبع الإنسان التكبر عند الرخاء والتضرع وقت الشدة.
(١٥) آيات الله فى الآفاق والأنفس الدالة على وحدانيته وقدرته.
(١٦) شك المشركين فى البعث والنشور ثم الرد عليهم.