
اليابسة التي لا زرع فيها ولا نبات بنزول الغيث عليها، فإن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها.
وقد تكرر هذا الدليل مرارا في القرآن، والدليل الأصلي هو قوله: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وتقديره كما ذكر الرازي: أي عودة التأليف والتركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته، وعود الحياة والعقل والقدرة إلى تلك الأجزاء بعد اجتماعها أيضا أمر ممكن لذاته، والله تعالى قادر على الممكنات، فوجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب والتأليف والحياة والقدرة والعقل والفهم إلى تلك الأجزاء، مما يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه «١».
تهديد الملحدين في آيات الله تعالى وتنزيه القرآن العظيم عن الطعن فيه
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)

الإعراب:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ.. خبر إِنَّ فيه وجهان: إما أنه محذوف، وتقديره: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يعذبون أو نجازيهم. وإما قوله تعالى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الآية: ٤٤] قال الرازي: والأول أصوب. وجملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: بدل من قوله:
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ...
ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ.. ما قَدْ قِيلَ: في تأويل مصدر، نائب فاعل ل يُقالُ.
البلاغة:
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ بينهما مقابلة، والمراد بالهمزة هنا التي هي للاستفهام: الإقرار بأن الملحدين يلقون في النار، وأن المؤمنين يأتون آمنين.
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أمر يراد به التهديد والوعيد..
مَغْفِرَةٍ وعِقابٍ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
يُلْحِدُونَ يميلون عن الحق والاستقامة، أي يؤولون الآيات تأويلا باطلا، ويطعنون فيها ويحرّفونها عن مواضعها فِي آياتِنا آيات القرآن والدلائل الدالة على قدرة الله وحكمته لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أي فنجازيهم على إلحادهم أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً؟ قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمنا، مبالغة في الإشادة بحال المؤمنين اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ تهديد شديد إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وعيد بالمجازاة.
بِالذِّكْرِ القرآن وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ منيع لا يتأتى إبطاله وتحريفه لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ لا يتطرق إليه الباطل من جميع جهاته سواء الأخبار الماضية أو الأحكام التشريعية حَكِيمٍ في جميع أفعاله، يضع الأمور في نصابها الصحيح حَمِيدٍ يحمده جميع خلقه بما أنعم من النعم الكثيرة عليهم.
ما يُقالُ لَكَ أي ما يقول لك كفار قومك من تكذيب إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ

قَبْلِكَ
أي إلا مثل ما قال لهم كفار قومهم لَذُو مَغْفِرَةٍ للمؤمنين وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ مؤلم للكافرين أعداء الله والمؤمنين.
سبب النزول: نزول الآية (٤٠) :
أَفَمَنْ يُلْقى..: أخرج ابن المنذر عن بشير بن فتح قال: نزلت هذه الآية في أبي جهل وعمار بن ياسر: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟
المناسبة:
بعد الأمر بالدعوة إلى دين الله تعالى، وبيان أسلوب الدعوة بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة، هدد الله تعالى من ينازع في تلك الآيات والدلائل، ويحاول إلقاء الشبهات فيها. ثم نوّه بوصف القرآن، وسلّى نبيه ص على آلامه من تكذيب قومه، وأمره بأن يصبر على أذاهم، وألا يضيق قلبه بإعراضهم عن رسالته، فتلك عادة الأمم مع الأنبياء والرسل.
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أي إن الذين يميلون عن الحق، فيضعون الكلام في غير موضعه، ويحرّفون كلام الله تعالى وآياته الدالة على قدرته وحكمته، لا يخفون علينا، بل نحن نعلمهم، فنجازيهم بما يعملون بالعقوبة والنكال.
وفي هذا تهديد شديد ووعيد أكيد، يقتضي الحذر والخوف.

ونوع الجزاء هو:
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ أي هل يستوي من يلقى في النار قسرا وقهرا لإلحاده بالآيات وتكذيبه للرسول ص، ومن يكون آمنا يوم القيامة من العذاب؟ وهذا استفهام بمعنى التقرير، والمراد أن الملحدين في الآيات يلقون في النار، وأن المؤمنين بها يأتون يوم القيامة، فاحكموا أيها العقلاء أيّ الحالين أفضل؟! ثم أكد التهديد للكفرة بقوله تعالى:
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اعملوا أي شيء تريدون فعله من خير أو شر، فإن الله عالم بكم، وبصير بأعمالكم، ومجازيكم بحسب ما تعملون، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا وعيد وتهديد، صرف فيه الأمر إلى التهديد، قال الزجاج: لفظ اعْمَلُوا لفظ الأمر، ومعناه الوعيد.
ثم أبان صفة أولئك الملحدين وجزاءهم فقال وهو أيضا تهديد:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ أي إن الذين كفروا بالقرآن لما جاءهم، وكذبوا به، معذبون هالكون يجازون بكفرهم.
ثم أشاد بأوصاف ثلاثة للقرآن تنبيها للأنظار والعقول، فقال:
وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي وإن القرآن الذي يلحدون فيه عزيز عن المعارضة أو الطعن، منيع عن كل عيب، لا يتأتى لأحد أن يأتي بمثله، وليس لأحد أن يبطله من جميع جوانبه، ولا يكذبه كتاب سابق قبله، ولا لاحق بعده، محفوظ من النقص والزيادة، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر ١٥/ ٩]، وإنه تنزيل من حكيم في أقواله وأفعاله، محمود في

جميع ما يأمر به وينهى عنه، مشكور من جميع خلقه على كثرة نعمه وأفضاله، وأجلها بحق: تنزيل هذا الكتاب، فهو النعمة العظمى والرحمة الكبرى، الذي بيّن للناس طريق الهداية، وعرفهم محذرا سبيل الغواية والضلالة.
ثم سلّى الله تعالى رسوله ص على ما يناله من أذى المشركين وطعنهم في كتابه وتكذيبهم لرسالته، وأمره بالصبر والثبات على دعوته، فقال:
ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ أي ما يقال لك من هؤلاء الكفار المشركين من وصفك بالسحر والكذب والجنون إلا مثل ما قيل للرسل من قبلك، فإن قومهم كانوا يقولون لهم مثلما يقول لك هؤلاء، فكما كذبت كذّبوا، وكما صبروا على أذى قومهم لهم، فاصبر أنت على أذى قومك لك، وإن ربك لغفار لمن تاب إليه، ومعاقب بعقاب مؤلم لمن استمر على كفره، وأصر على طغيانه وعناده، ومات كافرا ولم يتب.
ونظير الآية كثير مثل: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات ٥١/ ٣٩].
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيّب قال: لما نزلت هذه الآية:
إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
قال رسول الله ص: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنا أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- أورد تعالى تهديدات أربعة متعاقبة في هذه الآيات، فقال: إِنَّ

الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا..
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ.. اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ...
٢- هدد الله تعالى أولا الملحد في آيات القرآن، وهو المنحرف عن الحق إلى الباطل فقال: ليس القرآن من عند الله، أو هو شعر أو سحر، وحاول الصد عن سماعه بالتصفيق والتصفير واللغو والغناء، وبدّل الكلام ووضعه في غير موضعه.
موضعه.
٣- الغرض من قوله: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ.. التنبيه على أن الذين يلحدون في آيات الله، يلقون في النار، والذين يؤمنون بآيات الله يأتون آمنين يوم القيامة. وهذا هو التهديد الثاني.
٤- والتهديد الثالث: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أي بعد ما علمتم أن الملحد الكافر والمؤمن لا يستويان، فلا بد لكم من الجزاء، فمن اختار لنفسه طريق الكفر عوقب بالنار، ومن اختار منهج الإيمان جوزي بالجنة.
٥- والتهديد الرابع: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ.. أي إن الذين جحدوا بالقرآن وكونه منزلا من عند الله تعالى يجازون بكفرهم، لأن القرآن اشتمل على جميع ما يحتاج إليه الناس من العقائد الصحيحة، والشرائع المحكمة، والأحكام الصالحة لكل زمان ومكان.
٦- ذكر الله تعالى هنا للقرآن الكريم أوصافا ثلاثة هي:
أولا- إنه كتاب عزيز منيع الجانب، لا نظير له، ولا يطعن فيه، ولا يعارضه أحد، كريم على الله تعالى، محفوظ من الله سبحانه.
ثانيا- لا يكذبه شيء مما أنزل الله من قبل من الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل والزبور، ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه، ولا يستطيع أحد أن يزيد