
الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده وقدرته وحكمته
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
الإعراب:
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ.. اللَّيْلُ: مبتدأ، وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ: عطف عليه. وَمِنْ آياتِهِ: الخبر. وقوله: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ الهاء والنون في خَلَقَهُنَّ تعود على الآيات، ولا تعود على الشمس والقمر والليل والنهار، لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلّب جانب المذكر على جانب المؤنث.
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً..: أن وما عملت فيه: في موضع رفع بالظرف، على مذهب سيبويه والأخفش، لأن «أن» المصدرية إذا وقعت بعد الظرف ارتفعت به، كما يرفع الظرف إذا وقع خبرا لمبتدأ، أو صفة لموصوف، أو صلة لموصول، أو حالا لذي حال، أو معتمد على همزة الاستفهام أو حرف النفي، فالخبر مثل فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ فجزاء: مرفوع بالظرف، والصفة مثل: مررت برجل في الدار أبوه، والصلة مثل: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد ١٣/ ٤٣] والحال مثل وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ [المائدة ٥/ ٤٦] فهدى: مرفوع بالظرف، لأنه حال من الإنجيل، والمعتمد على همزة الاستفهام مثل أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم ١٤/ ١٠] وحرف النفي مثل: ما في الدار أحد. وخاشِعَةً: حال من الْأَرْضَ لأن تَرَى من رؤية العين. وَرَبَتْ: أصله ربوت، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وحذفت الألف لسكونها وسكون تاء التأنيث. وقرئ: «ربأت» أي ارتفعت.

البلاغة:
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً.. هذه الآية في قمة البلاغة والبيان وجمال الأسلوب والتناسق الفني في التعبير والأداء، فكأن الحركة ولمس معالم القدرة الإلهية وبعث الحياة تتمثل في جنباتها.
المفردات اللغوية:
وَمِنْ آياتِهِ جمع آية: وهي البرهان والحجة الدالة على وحدانية الله وقدرته الَّذِي خَلَقَهُنَّ أي خلق الآيات الأربع وسواها إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أمر بالسجود ثم ذكر العبادة، لأن السجود أخص العبادات، وهو موضع سجدة التلاوة عند الشافعية، لاقتران الأمر به، وعند أبي حنيفة: آخر الآية الأخرى، لأنه تمام المعنى.
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عن الامتثال أو السجود لله وحده فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ يصلون له دائما، لقوله تعالى: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لا يملّون.
خاشِعَةً جامدة يابسة لا نبات فيها، وأصل الخشوع: التذلل، أستعير لحال الأرض الجدبة اليابسة اهْتَزَّتْ تحركت وَرَبَتْ انتفخت وعلت بالنبات إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الإحياء والإماتة.
المناسبة:
بعد بيان أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى، ذكر الله تعالى الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته، كمادة للدعوة إلى الله، وتنبيها على أن الدعوة إليه تعالى هي تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته. وقد ذكر هنا الدلائل الكونية الفلكية الأربعة وهي الليل والنهار والشمس والقمر، ثم أتبعها بآية أرضية في مرأى العين، وهي إنبات النباتات بالمطر في الأرض.

التفسير والبيان:
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أي ومن العلامات الدالة على قدرة الله وعظمته وحكمته وجود الليل والنهار وتعاقبهما، وخلق الشمس المضيئة والقمر المنير، وتقدير منازلهما في فلكيهما، واختلاف سيرهما في مداريهما في السماء، ليعرف بذلك مقادير الليل والنهار والأسابيع والشهور والأعوام، وتعرف أوقات العبادة وآجال الحقوق والديون والمعاملات.
ولما كانت الشمس والقمر أنفع وأحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبّه الله تعالى إلى أنهما مخلوقان خاضعان لسلطان الله وتسخيره، فلا يعظمان وإنما يعظم خالقهما، فقال تعالى:
لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي إياكم من السجود للشمس والقمر، لأنهما مخلوقان من مخلوقات الله، فلا يصح أن تكونا شريكين له في ربوبيته، ولا تصح عبادتهما فهي لا تنفع مع عبادة الله، وتكون عبادتهما شركا.
وإنما الواجب السجود لمن خلق هذه الآيات الأربع وغيرها، إن كنتم تريدون العبادة الصحيحة الخالصة لله تعالى.
وآخر الآية رد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب، وعبدة الشمس في عصرنا، الذين زعموا أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن ذلك وأمروا ألا يسجدوا إلا لله الذي خلق هذه الأشياء.
وموضع سجود التلاوة في مذهب الشافعي رضي الله عنه كما تقدم هو قوله:
تَعْبُدُونَ لأن قوله: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ متصل به. وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو قوله: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ الآتي، لأن الكلام إنما يتم عنده.

وبعد أن أمر الله تعالى بالسجود له، قال بعده:
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ أي فإن تكبر هؤلاء المشركون عبدة الكواكب عن الامتثال وإفراد العبادة لله، وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره، فلا يهم أمرهم، فالملائكة عند ربك الذين هم خير منهم- عندية مكان لا قرب مكان- لا يستكبرون عن عبادته تعالى، بل يواظبون على تسبيح الله سبحانه بالليل والنهار، وهم لا يملون ولا يفترون، كقوله عز وجل: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ، فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام ٦/ ٨٩]. وهذه الآية: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا.. تدل على أن الملائكة أفضل من البشر.
وبعد ذكر الدلائل الفلكية، ذكر تعالى الدلائل الأرضية، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي ومن دلائل قدرته تعالى على البعث وإعادة الموتى أحياء أنك ترى الأرض هامدة لا نبات فيها، بل هي ميتة، فإذا أنزل الله عليها المطر تحركت بالنبات، وانتفخت وعلت، وأخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار.
إن الذي أحيا هذه الأرض الجدبة بالنبات والزرع، قادر على أن يحيي الأموات، فإنه الرب القدير الذي لا يعجزه شيء كائنا ما كان.
وقوله تعالى: أَنَّكَ تَرَى الخطاب لكل عاقل.
وهذا دليل حسي متكرر في القرآن يقرب للأذهان صورة الإحياء بعد الإماتة، والمعول عليه هو قدرة الله الخالق ابتداء وانتهاء وكل وقت.

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- من الآيات الواضحة والعلامات الظاهرة على وحدانية الله وقدرته خلق الليل والنهار والشمس والقمر.
٢- هذه المخلوقات ذات المنافع الكثيرة لا تستحق العبادة مع الله، وإنما المستحق للعبادة هو موجدها، لأنه تعالى هو الخالق، ولو شاء لأعدم الشمس والقمر، أو طمس نورهما، فهما مخلوقان يدلان على وجود الإله، والسجدة التي هي نهاية التعظيم لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات.
٣- إن الله غني عن عباده، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، وإذا أحجم الناس عن عبادته، وأعرض الكفار عن السجود لله، فهناك خلق آخر وهم الملائكة مواظبون على التسبيح، لا ينفكون عنه لحظة واحدة، ولا يملّون عبادته، ولا يشتغلون بأمر آخر سوى العبادة.
٤- لا خلاف في أن آية لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ.. آية سجدة، وإنما الخلاف كما تقدم في موضع السجود، فقال لجمهور: موضعه: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لأنه متصل بالأمر: اسْجُدُوا. وقال أبو حنيفة:
موضعه: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال.
٥- تضمنت هذه الآية صلاة كسوف القمر والشمس، لأن العرب كانت تقول: إن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت عظيم، فصلى النبي ص صلاة الكسوف، وهي ثابتة في صحاح البخاري ومسلم وغيرهما.
٦- ومن الآيات الدالة على قدرة الله وإحياء الموتى والبعث: إحياء الأرض