
جاءت هذه الآيات معقبة على الآية السابقة التي حكت موقف الكفار من القرآن متوعدة إياهم بأشد العذاب والخلود في النار جزاء كفرهم وجحودهم.
وفي الآية الأخيرة حكاية لطلبهم حينما يرون تحقيق وعيد الله فيهم بأن يمكنهم الله من الذين أضلوهم من الجن والإنس حتى يجعلوهم تحت أقدامهم في النار انتقاما منهم لأنهم كانوا سبب المصير الرهيب الذي صاروا إليه.
والمتبادر أن الآية الأخيرة بالإضافة إلى ما انطوى فيها من حقيقة العذاب الأخروي الإيمانية هي بسبيل وصف شعور الندم والحسرة الذي سينتاب الكفار وأنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب فيهم وحملهم على الارعواء بل وإثارة نقمة جمهورهم على زعمائهم الذين يمنعونهم من الإسلام لأن الكلام المحكي في الآية هو بلسان الجمهور أكثر منه بلسان الزعماء.
ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ وتابعيهم أن المقصود من الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إبليس من الجن وقابيل قاتل أخيه هابيل ولدي آدم من الإنس لأنهما أصل الضلال والجريمة. ويتبادر لنا أن العبارة القرآنية أشمل من ذلك وأنها تتناول كل فعل موسوس وقرين شرّ وسوء من إنس وجنّ. والزعماء يأتون في الطليعة بالإضافة إلى كونها صورة عن حكاية الحسرة والندم اللذين يشعر بهما ويعبر عنهما الكفار تحقيقا للهدف الذي نوهنا به آنفا.
والله أعلم.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)

(١) توعدون: تطلبون أو تتمنون.
(٢) نزلا: ما يكون من حقّ الضيف النزيل على الناس من ضيافة وقرى وإكرام.
تعليق على آية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا وما بعدها
جاءت هذه الآيات لمقابلة ما جاء عن موقف الكافرين ومصيرهم الأخروي جريا على الأسلوب القرآني: وقد احتوت بشرى عظيمة للمؤمنين السابقين إلى الاستجابة للدعوة وتنويها بهم من جهة وانطوى فيها وصف محبب لما كان لهؤلاء من إخلاص وتمسك واستقامة والتفاف حول النبي ﷺ من جهة أخرى في مجال المقايسة بينهم وبين الجاحدين كالذين قالوا ربنا الله وآمنوا به ثم استقاموا على طريق هداه ولم ينحرفوا حيث تتنزل عليهم الملائكة حينما ينتهي أجلهم فيهدئون من روعهم وينفون عنهم شعور الخوف والحزن ويبشرونهم بالجنة التي وعدوا بها قائلين لهم نحن أولياؤكم ونصراؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة التي لكم فيها كل ما تشتهي أنفسكم وتتمناه تكريما لكم من الله الغفور الرحيم الذي يعامل عباده الصالحين بالغفران الشامل والرحمة الواسعة. وقد جاءت الآية الأخيرة بمثابة تعليق بأسلوب التساؤل الذي يتضمن التقرير الإيجابي بأنه ليس من أحد أفضل وأحسن ممن دعا إلى الله وأسلم النفس إليه وعمل الأعمال الصالحة.
ومما يحسن لفت النظر إليه مقايسة أخرى تتضمنها الآيات بالإضافة إلى الآيات السابقة فالمؤمنون المستقيمون على الإيمان والعمل الصالح تتوفاهم الملائكة وتبشرهم وهم أولياؤهم في حين أن أولياء الكفار هم قرناء السوء من الجن والإنس يضلونهم ويورطونهم. والمقايسة مألوفة في النظم القرآني وقد مرّت

أمثلة عديدة منها وتستهدف التنديد والتقريع للكفار والتنويه والتطمين للمؤمنين.
وما في أذهان العرب من صور عن الملائكة في عصر النبي ﷺ وبيئته يجعلها أقوى تأثيرا كما هو المتبادر، فالملائكة الذين كان المشركون يشركونهم مع الله ويتخذونهم شفعاءهم لديه إنما هم أولياء المؤمنين المستقيمين وحسب.
والآيات وإن كانت كما قلنا تتضمن التنويه بالمؤمنين الأولين فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها مستمدا لإلهام مستمر قوي التلقين في كل ظرف ومكان سواء في الاستقامة على دين الحق والإخلاص له أم في التنويه بفضل من يدعو إلى الله ويسلم النفس إليه ويعمل الصالحات ويستشعر بأنه يكون بذلك قائما بأفضل الواجبات ومتمسكا بأفضل الأخلاق والصفات. وخلق الاستقامة على الحق والصدق والواجب والمعروف وعدم الروغان والحيدان عن ذلك من أعظم الأخلاق وأفضلها. ولذلك تكرر الأمر بها في القرآن بمتنوع الأساليب وقد مرت أمثلة من ذلك في السور السابقة.
ولقد روى بعض المفسرين «١» عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما أن الآية الأخيرة عنت المؤذنين أو نزلت فيهم، وأوردوا في سياق ذلك «٢» بعض الأحاديث النبوية في فضل المؤذنين وأجرهم عند الله. وهذا غريب في هذا المقام لأن فحوى الآية أوسع وأشمل من ذلك بل هي من أوسع وأشمل ما يكون في بابها من حيث التنويه بالمؤمن الصالح في عمله المسلم نفسه لله الداعي غيره إلى مثل ذلك. ولأن الأذان إنما بدأ أو شرع في العهد المدني ولا خلاف على مكية هذه الآية.
ومن العجيب أن الطبري وهو من الذين رووا ذلك روى عن الحسن وقتادة من علماء التابعين أنها بصدد كل من صدق قوله عمله ومولجه مخرجه وسرّه علانيته وشاهده مغيبه وهو خيرة الله وولي الله وأحب الخلق إلى الله كما روي عن السدي أنها عنت النبي صلى الله عليه وسلم. وليس من ريب في أن النبي ﷺ أول وأعظم من تنطبق
(٢) المصدر نفسه.