
فشهدنا بما كنتم تعملون، ولا غرابة في ذلك فالله الذي أنطق كل شيء، وخلقكم أول مرة، وإليه وحده ترجعون، هو الذي أقدرنا على النطق والشهادة فليس نطقنا بعجيب بقدرة الله.
ثم يقال لهم توبيخا وتقريعا، وتقريرا لجواب الجلود: وما كنتم تستترون وتستخفون عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك، ولكن ظننتم ظنّا خاطئا أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملونه خفية فلا يظهره يوم القيامة ولا ينطق جوارحكم به، ولذلك استترتم من الخلق، ولم تستتروا من الخالق وهو يعلم الغيب والشهادة.
وذلك- والإشارة إلى ظنهم المذكور في قوله: (ظننتم) - ظنكم الذي ظننتم بربكم هو الذي أرداكم وأهلككم، فأصبحتم بسببه من الخاسرين.
فإن يصبروا على ما هم فيه أولا يصبروا فالنار مثوى لهم، ومحل إقامة أبدية لأمثالهم وإن يستعتبوا ويعتذروا عما فرط منهم ويطلبوا رضا الله فما هم من المعتبين المقبول عذرهم لأنهم فارقوا الدنيا التي هي دار العمل،
والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس بعد الموت من مستعتب».
وهذا بيان السبب الذي دفعهم إلى العمل الفاسد وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ بمعنى: أننا هيأنا لهم قرناء السوء من شياطين الإنس والجن فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم من أعمالهم، وألقوا في قلوبهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب، وقيل: المراد ما بين أيديهم من أعمال الدنيا، وما خلفهم من أعمال الآخرة فاستمعوا لهم، وعملوا بمشورتهم التي صادفت هوى في نفوسهم. وحق عليهم القول، وتقرر العذاب حالة كونهم في جملة أمم قد مضت قبلهم من الجن والإنس إذ دأبهم كدأب هؤلاء وعملهم كعملهم إنهم كانوا خاسرين.
الكفار وأعمالهم وجزاؤهم [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)

المفردات:
وَالْغَوْا فِيهِ: وأتوا باللغو عند قراءته، والمراد باللغو هنا: ما لا معنى له أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ المراد: أعمالهم السيئة الْأَسْفَلِينَ: الأذلين المهانين.
بعد أن هددهم الله بالعذاب في الدنيا والآخرة، وتوعدهم بما هو أشد عليهم من وقع السهام بين هنا بعض أعمالهم القبيحة التي تستوجب هذا العذاب وأكثر منه.
المعنى:
وقال الذين كفروا من مشركي مكة لأتباعهم- أو قال بعضهم لبعض-:
لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يتلوه محمد، ولا تنصتوا له أبدا. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ وهو بمكة رفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن، وائتوا عند قراءته باللغو ليشوشوا على قارئه، وكانوا يأتون عند قراءته بالمكاء والصفير، وإنشاد الشعر والأراجيز يقولون لبعضهم: افعلوا هذا لعلكم تغلبونه وتميتون ذكره.
فو الله لنذيقن هؤلاء الذين كفروا عذابا شديدا يقض مضاجعهم، ويفرق جمعهم ويحط من كبريائهم في الدنيا، وو اللَّه لنجزينهم في الآخرة على سيئات أعمالهم التي هي نفسها أسوأ أفعالهم جزاء وفاقا.