آيات من القرآن الكريم

ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ ۖ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ
ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ

أَوِ الْمَقْصُودُ إِحْدَاثُ أَصْوَاتٍ تَغْمُرُ صَوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِتَخَلُّلِ أَصْوَاتِهِمْ صَوْتَ الْقَارِئِ حَتَّى لَا يَفْقَهَهُ السَّامِعُونَ عُدِّيَ اللَّغْوُ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ إِيقَاعِ لَغْوِهِمْ فِي خِلَالِ صَوْتِ الْقَارِئِ وُقُوعَ الْمَظْرُوفِ فِي الظَّرْفِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَأُدْخِلَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى اسْمِ الْقُرْآنِ دُونَ اسْمِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ مِثْلَ صَوْتٍ أَوْ كَلَامٍ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا يُخْفِي أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ أَوْ يُشَكِّكُ فِي مَعَانِيهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذَا نَظْمٌ لَهُ مَكَانَةٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَكَانَ أَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُ يَطْرُدُونَ النَّاسَ عَنْهُ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لَهُ وَالْغَوْا فِيهِ، فَكَانُوا يَأْتُونَ بِالْمُكَاءِ وَالصَّفِيرِ وَالصِّيَاحِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ وَالْأَرَاجِيزِ وَمَا يَحْضُرُهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَصْخَبُونَ بِهَا»
. وَقَدْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» «أَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا اسْتَمَعُوا إِلَى قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ رَقِيقَ الْقِرَاءَةِ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا».
وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ رَجَاءَ أَنْ تَغْلِبُوا مُحَمَّدًا بِصَرْفِ مَنْ يُتَوَقَّعُ أَنْ يَتْبَعَهُ إِذَا سَمِعَ قِرَاءَتَهُ. وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ الْقُرْآنَ غَالِبَهُمْ إِذْ كَانَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَهُ يُدَاخِلُ قُلُوبَهُمْ فَيُؤْمِنُونَ، أَيْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَهُوَ غالبكم.
[٢٧، ٢٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨)
دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُفَرَّعٌ عَمَّا قَبْلَهَا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: ٢٦] الْآيَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ
[فصلت: ٥] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا [فصلت: ١٣] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: ١٩] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فصلت: ٢٥] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا [فصلت: ٢٦] إِلَخْ.

صفحة رقم 278

وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا: الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ الْكَلَام عَنْهُم.
ف الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ إِذَاقَةِ الْعَذَابِ، أَيْ لِكُفْرِهِمُ الْمَحْكِيِّ بَعْضُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَاقَةُ الْعَذَابِ: تَعْذِيبُهُمْ، اسْتُعِيرَ لَهُ الْإِذَاقَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ وَالتَّخْيِيلَةِ. وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ فَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا.
وَعَطْفُ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْآخِرَةِ. وأَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وَالتَّقْدِيرُ: عَلَى أَسْوَأِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ تَقْدِيرُهُ: جَزَاءً مُمَاثِلًا أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ.
وَأَسْوَأُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ السَّيِّئُ، فَصِيغَ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي سُوئِهِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ إِضَافَةِ الْبَعْضِ إِلَى الْكُلِّ وَلَيْسَ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ إِلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْجَزَاءُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ عَلَى أَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ. وَأَعْدَاءُ اللَّهِ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ [فصلت: ١٩].
وَالنَّارُ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ.
ودارُ الْخُلْدِ: النَّارُ. فَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَاءَ بِالظَّرْفِيَّةِ بِتَنْزِيلِ النَّارِ مَنْزِلَةَ ظَرْفٍ لِدَارِ الْخُلْدِ وَمَا دَارُ الْخُلْدِ إِلَّا عَيْنُ النَّارِ. وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ التَّجْرِيدِ لِيُفِيدَ مُبَالَغَةَ مَعْنَى الْخُلْدِ فِي النَّارِ. وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَاب: ٢١] وَقَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْعَتَّابِيِّ:

صفحة رقم 279
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية