آيات من القرآن الكريم

حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (٤١) : آية ٢٠]
حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠)
حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي فبالغوا في إنكار المخالفة شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ أي بأنهم سمعوا الحجج فأعرضوا عنها، وسمعوا الشبه فاتبعوها، وسمعوا الفواحش فاستحسنوها وَأَبْصارُهُمْ أي بأنهم رأوا الآيات فلم يعتبروها، ورأوا القبائح فاختاروها وَجُلُودُهُمْ أي بأنهم باشروا المعاصي، فوصل أثرها إلى القوة اللامسة منهم، فيشهد كل عضو وجزء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (٤١) : آية ٢١]
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ أي المدركة ألم العذاب الذي لا يدركه السمع والبصر لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا أي بما يوجب إيلامكم قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ أي بهذه الشهادة الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي أنطق كل شيء من الحيوان. فهو من العامّ الذي خصه العقل، كقوله تعالى وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: ٢٨٤]، أي كل شيء من المقدورات. هذا، على أن النطق علي ظاهره وحقيقته. وقيل المراد ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت متلبسة به في الدنيا، بتغير أشكالها ونحوه. مما يلهم الله من رآه أنه صدر عنه ذلك، لارتفاع الغطاء في الآخرة. فالنطق مجاز عن الدلالة.
قال القاشانيّ: معنى شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ أي غيرت صور أعضائهم، وصورت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها، وبدلت جلودهم وأبشارهم فتنطق بلسان الحال، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون. ولنطقها بهذا اللسان قالت أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ إذ لا يخلو شيء ما من النطق. ولكن الغافلين لا يفهمون. انتهى. لكن قال الرازيّ: تفسير هذه الشهادة، بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء، دالة على صدور تلك الأعمال منهم، عدول عن الحقيقة إلى المجاز. والأصل عدمه.
ثم قال: وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البينة ليست شرطا للحياة، ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة. فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء. والله أعلم.

صفحة رقم 331

تنبيه:
قال الرازيّ: نقل عن ابن عباس أنه قال: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج، وإنه من باب الكنايات كما قال وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة: ٢٣٥] وأراد النكاح. وقال: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ [النساء: ٤٣] و [المائدة: ٦]، والمراد قضاء الحاجة. فتكون الآية وعيدا شديدا في الزنى. انتهى.
وقد أشار الإمام ابن الأثير في (المثل السائر) إلى ترجيح هذا المعنى. حيث ذكر هذه الآية في الترجيح الذي يقع بين معنيين، يدل عليهما لفظ واحد، يكون حقيقة في أحدهما، مجازا في الآخر، وعبارته: الجلود هاهنا تفسّر حقيقة ومجازا.
أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقا، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة، وهذا هو المانع البلاغيّ الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه. وقد يسأل هاهنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز، عن غير الجانب البلاغيّ. ويقال: ما بيان هذا الترجيح؟ فيقال: طريقة لفظ الجلود عامّ، ، فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقا أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة. ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق، لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة، شهادة باطلة. إذ هي شهادة غير شاهد. والشهادة هنا يراد بها الإقرار. فتقول اليد: أنا فعلت كذا وكذا. وتقول الرّجل: أنا مشيت إلى كذا وكذا. وكذلك الجوارح الباقية تنطق مقرّة بأعمالها. فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح. وإذا أريد به الجوارح، فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض. فإن أريد به الكل، دخل تحته السمع والبصر. ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة. وإن أريد به البعض، فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح، لأمرين: أحدهما- أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج. فكان حمل الجلد عليه أولى، ليستكمل ذكر الجميع. الآخر- إنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج. فكني عنه بالجلد، لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته.
فإن قيل: إن تخصيص السمع والبصر بالذكر، من باب التفصيل، كقوله تعالى:
فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: ٦٨]. والنخل والرمان من الفاكهة. قلت في الجواب: هذا القول عليك لا لك. لأن النخل والرمان إنما ذكرا لتفضيل لهما في الشكل أو في الطعم، والفضيلة هاهنا في ذكر الشهادة، إنما هي تعظيم لأمر المعصية.

صفحة رقم 332
محاسن التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي
تحقيق
محمد باسل عيون السود
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية