
وأعلنوا كفرهم بالرسل. وكان من أمر عاد أن اغتروا بما هم عليه من قوة واستكبروا في الأرض وتساءلوا متبجحين عمّن هو أشد منهم قوة دون أن يفكروا بأن الله الذي خلقهم هو بطبيعة الحال أشد منهم قوة. فأرسل الله عليهم ريحا شديدة قاصمة في أيام متوالية كانت عليهم شؤما ونحسا إذ ذاقوا فيها الخزي والبلاء في الدنيا جزاء جحودهم، وسيكون عذابهم في الآخرة أشد وأقوى ولن يكون لهم عاصم ولا نصير من الله. وكان من أمر ثمود أن أعرضوا هم الآخرون عن طريق الهدى التي دلهم الله عليها وفضلوا الضلال على الهدى والعمى على النور والباطل على الحق فسلط الله عليهم عذابا صاعقا مهينا بما كسبوا، وقد نجى الله من عاد وثمود أولئك الذين آمنوا به واتقوه بصالح الأعمال.
والآيات كسابقاتها استمرار في التقريع والإنذار وبسبيل حكاية مواقف مكابرة المشركين الكفار، ويلحظ فيها تماثل بين ما كان يقوله عاد وثمود لرسلهم وبين ما قاله العرب للنبي ﷺ من أقوال وما تحدوه من تحد ومن جملة استنزال الملائكة وما أظهروه من كبر واعتداد بالمال والنفس والقوة وما كان من استحبابهم الحياة الدنيا على الآخرة على ما حكته عنهم آيات عديدة في هذه السورة والسور السابقة.
وهذا التماثل يزيد في قوة الإنذار والتقريع والتنديد من جهة وينطوي فيه حكمة القصص القرآنية بالأسلوب الذي وردت به من جهة أخرى كما هو المتبادر. وفي بعض الآيات القرآنية ما يفيد أن المشركين كانوا يعرفون بلاد ثمود وعاد حيث كانوا يرحلون إليها أو يمرون بها في رحلاتهم التجارية الصيفية والشتوية وأنهم رأوا آثار تدمير الله فيها كما ترى في آية سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨). فاستحكمت فيهم حجة الآيات وقوة إنذارها وتقريعها من هذه الناحية أيضا.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ الى ٢٣]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)

(١) يوزعون: يجمعون إلى بعضهم ويحبس أولهم إلى آخرهم حتى يوقفوا أمام الله جميعا.
(٢) أرداكم: أوقعكم وأسقطكم.
وجاءت هذه الآيات معقبة على الآيات السابقة لبيان ما سوف يكون من أمر الكفار في الآخرة وقد أنذروا وذكروا ووعظوا بما حلّ فيمن قبلهم من أمثالهم فأعرضوا ولم يرعووا.
ففي يوم القيامة يحشر أعداء الله الكفار ويساقون إلى النار. وحينما يوقفون- قبل سوقهم إلى النار- أمام الله للحساب ينطق الله آذانهم وعيونهم وجلودهم فتشهد عليهم بما اقترفوه من آثام. ولسوف يعاتبون جوارحهم على شهادتها فترد عليهم بأن الله الذي أنطق كل شيء هو الذي أنطقها بالحق. وقد عقبت الآيات على جواب الجوارح بتوكيد قدرة الله على ذلك وقد خلق الناس أول مرة وإليه يرجعون.
ووجه الخطاب- بعد حكاية المشهد والتعقيب عليه- إلى الكفار وفيه تأنيب وتقريع وتقرير لحقيقة الأمر في جرأتهم على الكفر والإثم فهم لم يكونوا يبالون أن تشهد عليهم جوارحهم ولم يكونوا يرون ضرورة التستر في آثامهم لأنهم كانوا لا يخطر ببالهم في الحقيقة أن الله يراقبهم ويحصي عليهم أعمالهم وكانوا يظنون أن الله لا يعلم كثيرا مما كانوا يعملون، وهذا الظن الخاطئ هو الذي أسقطهم في شرّ أعمالهم وجعلهم خاسرين.
والآيات متصلة بسابقاتها كما هو واضح، وأسلوبها قوي نافذ من شأنه أن

يثير الرعب والخوف والارعواء في النفوس وهو مما استهدفته كما هو المتبادر.
ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق الآية [٢٢] عن عبد الله حديثا جاء فيه: «اجتمع عند البيت قرشيّان وثقفيّ أو ثقفيان وقرشيّ كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه ليسمع إذا أخفينا فأنزل الله عزّ وجل: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ الآية» «١».
ومقتضى الرواية أن تكون الآية نزلت لحدتها مع أن التمعن في الآيات يظهر أنها وحدة تامة منسجمة وأن هذه الآية والتي بعدها تعقيب إفحامي لأعداء الله على ما حكي عنهم من معاتبتهم لجوارحهم وأن جميع الآيات متصلة بسابقاتها كما قلنا آنفا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن أنس بن مالك قال: «ضحك رسول الله ﷺ ذات يوم حتى بدت نواجذه ثم قال: ألا تسألوني ممّ ضحكت؟ قالوا: ممّ ضحكت يا رسول الله؟ قال: عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة يقول يا ربّ أليس وعدتني أن لا تظلمني قال: فإنّ ذلك لك. قال: فإنّي لا أقبل عليّ شاهدا إلّا من نفسي، قال: أو ليس كفى بي شهيدا وبالملائكة الكرام الكاتبين فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل فيقول لهنّ بعدا لكنّ وسحقا عنكنّ كنت أجادل». ولقد أوردنا هذا الحديث بصيغة مقاربة نقلا عن ابن كثير في سياق الآية [٦٥] من سورة يس وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
تعليق على التباين في المشاهد الأخروية
ولقد يرد على الذهن سؤال أو حيرة بسبب التباين والتغاير في الصور الأخروية ومشاهدها ووسائلها. فليس هناك محل لذلك لأنه ليس هناك ما يمنع أن