
الشمس نرى الشمس دائرة حول نفسها وحول شموس أخرى أكبر منها، فهذا هو السبب في ذكرهما معا.
وقصارى ذلك- إنه قال لهما معا وأجابتاه معا، لأن الأرض لما كانت ضمن المجموعة الشمسية كانت دائرة كبقية أجزائها.
(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي وخلق في كل منها ما استعدت له، واقتضت الحكمة أن يكون فيها من بحار وبرد وثلج إلى نحو أولئك مما لا يعلمه إلا الله، قاله السدى وقتادة.
(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح، وهى وإن تفاوتت ارتفاعا وانخفاضا فكلها ترى متلألئة.
(وَحِفْظاً) أي وحفظناها من الاضطراب في سيرها ومن اصطدام بعضها ببعض، وجعلناها تسير على نهج واحد ما دام هذا النظام باقيا حتى يأتى اليوم الموعود، فهناك تختل نظمها كما قال سبحانه: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ».
(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي إن ذلك الذي تقدم هو تقدير العزيز الذي قد عزّ كلّ شىء فغلبه وقهره، العليم بحركات مخلوقاته وسكناتها، سرها ونجواها، ظاهرها وباطنها.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٣ الى ١٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)

تفسير المفردات
صاعقة: أي عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة. قال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأىّ شىء كان، وهى في الأصل الصيحة التي يحصل بها الهلاك، أو قطعة نار تنزل من السماء معها رعد شديد، من بين أيديهم ومن خلفهم: أي من كل ناحية، صرصرا:
أي باردة تهلك بشدة بردها. أنشد قطرب قول الحطيئة في المديح:
المطعمون إذا هبّت بصرصرة | والحاملون إذا استودوا على الناس |
المعنى الجملي
بعد أن أنكر عليهم عبادة الأنداد والأوثان، وطلب إليهم ألا يعبدوا إلا الله الذي خلق السموات والأرض، وزين السماء الدنيا بالمصابيح، وأوجد في الأرض جبالا رواسى أن تميد بهم، ثم أعرضوا عن كل ذلك، لم يبق حينئذ طريق للعلاج.
ومن ثم أمر رسوله أن ينذرهم بحلول شديد النقم بهم إن هم أصروا على عنادهم، كما نزل بعاد وثمود من قبلهم. صفحة رقم 114

الإيضاح
(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك المكذبين لما جئتهم به من الحق: إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله فإنى أنذركم بحلول نقمته بكم كما حلت بالأمم الماضية التي كذبت رسلها كعاد وثمود ومن على شاكلتهما ممن فعل فعلهما حين جاءتهم الرسل في القرى المجاورة لبلادكم، وأمروا أهلها بعبادة الله وحده، فكذبوهم واستكبروا عن إجابة دعوتهم، واعتذروا بشتى المعاذير كما ذكر ذلك سبحانه بقوله:
(قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا إنا لا نصدق برسالتكم فما أرسل الله بشرا، ولو أرسل رسلا لأنزل ملائكة، وإذا فلا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا.
وقد تقدم في غير موضع دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها. وقوله:
«بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ» ليس إقرارا منهم بكونهم رسلا، بل ذكروه استهزاء بهم كما قال فرعون: «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ».
أخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال «قال أبو جهل والملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره. فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علىّ إن كان كذلك، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه، قال: لم تشتم آلهتنا وتضللنا؟ إن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تكن بك الباءة (الميل إلى قربان النساء) زوجناك عشر نسوة تختارهن، أىّ بنات من

شئت من قريش، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغنى به، ورسول الله ساكت، فلما فرغ قال صلّى الله عليه وسلم: بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرّحمن الرّحيم.
كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا- حتى بلغ- فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم، فرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابنى بشىء ما هو بشعر ولا سحر ولا كهانة، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته الرحم، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب».
وقد ذكرنا هذا القصص قبل برواية أخرى، وهذه الرواية أتم من سابقتها فأعدناها تكميلا للفائدة.
ولما بين سبحانه كفر قوم عاد وثمود إجمالا وبين معاذيرهما- أردف ذلك ذكر ما لكل منهما من الجناية وما حل به من العذاب فقال:
(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟) أي فأما عاد فبغوا وعصوا ربهم ولم يقبلوا كلام الرسول الذي جاء لهم وقالوا من أشد منا قوة؟
حتى يستطيع قهرنا وإذلالنا، وقد كانوا قوما طوال القامة شديدى الأسر، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هو بالعذاب، وقد روى في قوّتهم روايات ليس بنا حاجة إلى تصديقها كقولهم: إن الرجل منهم كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده ويجعلها حيث يشاء.
فرد الله عليهم موبخا بقوله:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟) أي أما يفكرون فيمن يبارزون بالعداوة؟ إنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها،

وإن بطشه لشديد، وإنه لقادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء، فيقول:
(كُنْ فَيَكُونُ).
(وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي وكانوا يعرفون أن آياتنا التي أنزلناها على رسلنا حق لا مرية فيها، ولكنهم جحدوها وعصوا رسله.
وقد يكون المراد: إنهم جحدوا الأدلة التكوينية التي نصبناها لهم، وجعلناها حجة عليهم.
ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه فقال:
(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي فأرسلنا عليهم ريحا باردة تهلك بشدة بردها، وإذا هبت سمع لها صوت قوىّ لتكون عقوبة لهم من جنس ما اغتروا به.
ثم بين سبحانه وقت نزول العذاب عليهم فقال:
(فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي في أيام مشئومات نكدات متتابعات كما قال في آية أخرى:
«سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً».
ثم بين الغاية التي من أجلها نزل العذاب فقال:
(لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أنزلنا عليهم هذا العذاب كى نذيقهم الذل والهوان في الحياة الدنيا بسبب ذلك الاستكبار.
ثم أرشد إلى أن هذا العذاب هين يسير إذا قيس بعذاب الآخرة فقال:
(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي ولعذاب الآخرة أشد إهانة وخزيا من عذاب الدنيا، وهم لا يجدون إذ ذاك نصيرا ولا معينا يدفعه عنهم.
وبعد أن ذكر قصص عاد أتبعه بقصص ثمود فقال:
(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي وأما ثمود فبينا لهم الحق على لسان نبيهم صالح، ودللناهم على سبل النجاة بنصب الأدلة التكوينية، وإنزال الآيات التشريعية، فكذبوه واستحبوا العمى على الهدى، والكفر على الإيمان.