آيات من القرآن الكريم

رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
ﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ

مردويه عن أنس بن مالك قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي».
وأخرج البيهقي في الشعب عن الخليل بن مرة أن رسول الله ﷺ قال: «الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع تجيء كل حم منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول: اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني»
وجاء في خصوص بعض آيات هذه السورة ما يدل على فضله.
أخرج الترمذي والبزار ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله من قرأ حم إلى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح».

صفحة رقم 294

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم بتفخيم الألف وتسكين الميم، وقرأ ابن عامر برواية ذكوان، وحمزة والكسائي وأبو بكر بالإمالة الصريحة، ونافع برواية ورش. وأبو عمرو بالإمالة بين بين، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بفتح الميم على التحريم لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة كما في أين وكيف، وجوز أن يكون ذلك نصبا بإضمار اقرأ ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه بمعنى السورة أو للعلمية وشبه العجمة لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب وإنما وجد ذلك في لغة العجم كقابيل وهابيل، ونقل هذا عن سيبويه. وفي الكشف أن الأولى أن يعلل بالتعريف والتركيب.
وقرأ أبو السمال بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين كما في جير: والزهري برفعها والظاهر أنه إعراب فهو إما مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف، والكلام في المراد به كالكلام في نظائره، ويجمع على حواميم وحاميمات أما الثاني فقد أنشد فيه ابن عساكر في تاريخه:
هذا رسول الله في الخيرات... جاء بياسين وحاميمات
وأما الأول فقد تقدم عدة أخبار فيه ولا أظن أن أحدا ينكر صحة جميعها أو يزعم أن لفظ حواميم فيها من تحريف الرواة الأعاجم وأيضا أنشد أبو عبيدة:
حلفت بالسبع الألى تطولت... وبمئين بعدها قد أمئيت
وبثمان ثنيت وكررت... وبالطواسين اللواتي تليت
وبالحواميم اللواتي سبعت... وبالمفصل التي قد فصلت
وذهب الجواليقي والحريري وابن الجوزي إلى أنه لا يقال حواميم، وفي الصحاح عن الفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب، وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه أبي منصور اللغوي أن من الخطأ أن تقول:
قرأت الحواميم والصواب أن تقول قرأت آل حم، وفي حديث ابن مسعود إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات:
وجدنا لكم في آل حم آية... تأولها منا تقي ومعرب
والطواسين والطواسيم بالميم بدل النون كذلك عندهم، وما سمعت يكفي في ردهم. نعم ما قالوه مسموع مقبول كالذي قلناه لكن ينبغي أن يعلم أن آل في قولهم آل حم كما قال الخفاجي ليس بمعنى الآل المشهور وهو الأهل بل هو لفظ يذكر قبل ما لا يصح تثنيته وجمعه من الأسماء المركبة ونحوها كتأبط شرا فإذا أرادوا تثنيته أو جمعه وهو جملة لا يتأتى فيها ذلك إذ لم يعهد مثله في كلام العرب زادوا قبله لفظة آل أو ذوا فيقال: جاءني آل تأبط شرا أو ذوا تأبط شراف أي الرجلان أو الرجال المسمون بهذا الاسم، فآل حم بمعنى الحواميم وآل بمعنى ذو، والمراد به ما يطلق عليه ويستعمل فيه هذا اللفظ وهو مجاز عن الصحبة المعنوية، وفي كلام الرضي وغيره إشارة إلى هذا إلا أنهم لم يصرحوا بتفسيره فعليك بحفظه، وحكي في الكشف أن الأولى أن يجمع بذوات حم أي دون حواميم أو حاميمات ومعناه السور المصحوبات بهذا اللفظ أعني حم.
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الكلام فيه أعرابا كالكلام في مطلع سورة الزمر بيد أنه يجوز هنا أن يكون تَنْزِيلُ خبرا عن حم ولعل تخصيص الوصفين لما في القرآن الجليل من الإعجاز وأنواع العلوم التي يضيق عن الإحاطة بها نطاق الإفهام أو هو على نحو تخصيص الوصفين فيما سبق فإن شاء البليغ علمه بالأشياء أن يكون حكيما إلا أنه قيل الْعَلِيمِ دون الحكيم تفننا، وقوله تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ

صفحة رقم 295

صفات للاسم الجليل كالعزيز العليم، وذكر غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ وذِي الطَّوْلِ للترغيب وذكر شَدِيدِ الْعِقابِ للترهيب والمجموع للحث على المقصود من تَنْزِيلُ الْكِتابِ وهو المذكور بعد من التوحيد والإيمان بالبعث المستلزم للإيمان بما سواهما والإقبال على الله تعالى، والأولان منها وإن كانا اسمي فاعل إلا أنهما لم يرد بهما التجدد ولا التقييد بزمان بل أريد بهما الثبوت والاستمرار فإضافتهما للمعرفة بعدهما محضة اكسبتهما تعريفا فصح أن يوصف بهما أعرف المعارف، والأمر في ذِي الطَّوْلِ ظاهر جدا. نعم الأمر في شَدِيدِ الْعِقابِ مشكل فإن شديدا صفة مشبهة وقد نص سيبويه على أن كل ما أضافته غير محضة إذا أضيف إلى معرفة جاز أن ينوي بإضافته التمحض فيتعرف وينعت به المعرفة إلا ما كان من باب الصفة المشبهة فإنه لا يتعرف ومن هنا ذهب الزجاج إلى أن شَدِيدِ الْعِقابِ بدل، ويرد عليه أن في توسيط البدل بين الصفات تنافرا بينا لأن الوصف يؤذن بأن الموصوف مقصود والبدل بخلافه فيكون بمنزلة استئناف القصد بعد ما جعل غير مقصود، والجواب أنه إنما يشكل ظاهرا على مذهب سيبويه وسائر البصريين القائلين بأن الصفة المشبهة لا تتعرف أصلا بالإضافة إلى المعرفة، وأما على مذهب الكوفيين القائلين بأنها كغيرها من الصفات قد تتعرف بالإضافة ويجوز وصف المعرفة بها نحو مررت بزيد حسن الوجه فلا، ويقال فيما ذكر على المذهب الأول: إن «شديدا» مؤول بمشدد اسم فاعل من أشده جعله شديدا كأذين بمعنى مؤذن فيعطي حكمه، أو يقال: إنه معرف بأل والأصل الشديد عقابه لكن حذفت لأمن اللبس بغير الصفة لوقوعه بين الصفات واحتمال كونه بدلا وحده لا يلتفت على ما سمعت إليه ورعاية لمشاكلة ما معه من الأوصاف المجردة منها والمقدر في حكم الموجود، وقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل المشاكلة حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه أرادوا ما يعرف ذكره من أنثييه فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع، وجوز كون جميع التوابع المذكورات أبدالا وتعمد تنكير شَدِيدِ الْعِقابِ وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. وفي الكشف جعل كلها إبدالا فيه تنافر عظيم لا سيما في إبدال الْعَزِيزِ من اللَّهِ الاسم الجامع لسائر الصفات العلم النص وأين هذا من براعة الاستهلال؟ وذهب مكي إلى جواز كون غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ دون ما قبلهما بدلين وأنهما حينئذ نكرتان، وقد علمت ما فيه مما تقدم، وقال أبو حيان: إن بدل البداء عند من أثبته قد يتكرر وأما بدل كل من كل وبدل بعض من كل وبدل اشتمال فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل من البدل جائز دون تعدد البدل واتحاد المبدل منه، وظاهر كلام الخفاجي أن النحاة صرحوا بجواز تعدده حيث قال: لا يرد على القول بالإبدال قلة البدل في المشتقات، ولا أن النكرة لا تبدل من المعرفة ما لم توصف، ولا أن تعدد البدل لم يذكره النحاة كما قيل لأن النحاة صرحوا بخلافه في الجميع، وللدماميني فيه كلام طويل الذيل في أول شرح الخزرجية لا يسعه هذا المقام فإن أردته فانظر فيه انتهى.
وعندي أن الإبدال هنا ليس بشيء كلا أو بعضا، والتَّوْبِ يحتمل أن يكون مصدرا كالأوب بمعنى الرجوع ويحتمل أن يكون اسم جمع لتوبة كتمر وتمرة، والطَّوْلِ الفضل بالثواب والإنعام أو بذلك وبترك العقاب المستحق كما قيل وهو أولى من تخصيصه بترك العقاب وإن وقع بعد شَدِيدِ الْعِقابِ وكون الثواب موعودا فصار كالواجب فلا يكون فضلا ليس بشيء فإن الوعد به ليس بواجب، وفسره ابن عباس بالسعة والغنى، وقتادة بالنعم، وابن زيد بالقدرة، وتوسيط الواو بين غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ لإفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل سبحانه توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات وأن يجعلها محاءة للذنب كأنه لم يذنب كأنه قيل: جامع المغفرة والقبول

صفحة رقم 296

قاله الزمخشري، ووجهه كما في الكشف أنها صفات متعاقبة بدون الواو دالة على معنى الجمع المطلق من مجرد الإجراء فإذا خصت بالواو إحدى القرائن دل على أن المراد المعتبر فيها وفيما تقدمها خاصة صونا لكلام البليغ عن الإلغاء، ففي الواو هنا الدلالة على أنه سبحانه جامع بين الغفران وقبول التوب للتائب خاصة، ولا ينافي ذلك أنه عزّ وجلّ قد يغفر لمن لم يتب، وما قيل: إن التوسيط يدل على أن المعنى كما أخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن غافر الذنب لمن لم يتب وقابل التوب لمن تاب فغير مسلم، والتغاير الذي يذكرونه بين موقع الفعلين وهما غفران الذنب وقبول التوبة عنه المقتضي لكون الغفران بالنسبة إلى قوم والقبول بالنسبة إلى آخرين إذ جعلوا موقع الأول الذنب الباقي في الصحائف من غير مؤاخذة وموقع الثاني الذنب الزائل الممحو عنها حاصل مع الإجراء فلا مدخل للواو، ثم ما ذكر من الوجه السابق حار على أصلي أهل السنة والمعتزلة فلا وجه لرده بما ليس بقادح وإيثار ما هو مرجوح، وتقديم الغافر على القابل من باب تقديم التخلية على التحلية فافهم. وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة. وفي البحر الظاهر من الآية أن توبة العاصي بغير الكفر كتوبة العاصي به مقطوع بقبولها، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفاته تعالى الدالة على الرحمة دليل على زيادة الرحمة وسبقها فسبحانه من إله ما أرحمه وأكرمه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فحسب لا إلى غيره تعالى لا استقلالا ولا اشتراكا فيجازي كلا من المطيع والعاصي، وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مستأنفة أو حالية، وقيل: صفة لله تعالى أو لشديد العقاب، وفي الآيات مما يقتضي الاتعاظ ما فيها. أخرج عبد بن حميد عن يزيد بن الأصم أن رجلا كان ذا بأس وكان من أهل الشام وأن عمر رضي الله تعالى عنه فقده فسأل عنه فقيل له: تتابع في الشراب فدعا عمر كاتبه فقال له: اكتب من عمر ابن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم- إلى قوله تعالى- إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني ربي أن يغفر لي وحذرني عقابه فلم يبرح يرددها على نفسه حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع فلما بلغ عمر توبته قال: هكذا فافعلوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا الله تعالى أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه.
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا نزلت على ما قال أبو العالية في الحارث بن قيس السلمي أحد المستهزئين، والمراد بالجدال الجدال بالباطل من الطعن في الآيات والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله عزّ وجلّ لقوله تعالى بعد، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فإنه مذكور تشبيها لحال كفار مكة بكفار الأحزاب من قبل وإلا فالجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ عنها أعظم جهاد في سبيل الله تعالى وفي قوله صلى الله عليه وسلم
وقد أخرجه عبد بن حميد عن أبي هريرة مرفوعا: «إن جدالا في القرآن كفر»
إيماء إلى ذلك حيث ذكر فيه جدالا منكرا للتنويع فأشعر أن نوعا منه كفر وضلال ونوعا آخر ليس كذلك.
والتحقيق كما في الكشف أن المجادلة في الشيء تقتضي أن يكون ذلك الشيء إما مشكوكا عند المجادلين أو أحدهما أو منكرا كذلك، وأيا ما كان فهو مذموم اللهم إلا إذا كان من موحد لخارج عن الملة أو من محقق لزائغ إلى البدعة فهو محمود بالنسبة إلى أحد الطرفين، وأما ما قيل: إن البحث فيها لإيضاح الملتبس ونحوه جدال عنها لا فيها فإن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذب عن الشيء وبفي لخلافه كما ذكره الإمام وبالباء أيضا كما في قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] ففيه بحث، وفي قوله تعالى: فِي آياتِ اللَّهِ دون- فيه- بالضمير العائد إلى الكتاب دلالة على أن كل آية منه يكفي كفر المجادلة فكيف بمن ينكره كله ويقول فيه ما يقول،

صفحة رقم 297

وفيه أن كل آية منه آية أنه من الله تعالى الموصوف بتلك الصفات فيدل على شدة شكيمة المجادل في الكفر وأنه جادل في الواضح الذي لا خفاء به، ومما ذكر يظهر اتصال هذه الآية بما قبلها وارتباط قوله تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ بها أي إذا علمت أن هؤلاء شديد والشكائم في الكفر قد خسروا الدنيا والآخرة حيث جادلوا في آيات الله العزيز العليم وأصروا على ذلك فلا تلتفت لاستدراجهم بتوسعة الرزق عليهم وإمهالهم فإن عاقبتهم الهلاك كما فعل بمن قبلهم من أمثالهم مما أشير إليه بقوله سبحانه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلخ، والتقلب الخروج من أرض إلى أخرى. والمراد بالبلاد بلاد الشام واليمن فإن الآية في كفار قريش وهم كانوا يتقلبون بالتجارة في هاتيك البلاد ولهم رحلة الشتاء لليمن ورحلة الصيف للشام، ولا بأس في إرادة ما يعم ذلك وغيره. وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير «فلا يغرك» بالإدغام مفتوح الراء وهي لغة تميم والفلك لغة الحجازيين، وبدأ بقوم نوح لأنه عليه الصلاة والسلام على ما في البحر أول رسول في الأرض أو لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم وعتوا عتوا شديدا وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي والذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل عليهم السلام من قوم نوح كعاد وثمود وقوم فرعون وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من تلك الأمم بِرَسُولِهِمْ وقرأ عبد الله «برسولها» رعاية اللفظ الأمة لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا من إيقاع ما يريدون به من حبس وتعذيب وقتل وغيره، فالأخذ كناية عن التمكن المذكور، وبعضهم فسره بالأسر وهو قريب مما ذكر، وقال قتادة: أي ليقتلوه وَجادَلُوا بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له قيل هو قولهم: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [إبراهيم: ١٠] والأولى أن يقال هو كل ما يذكرونه لنفي الرسالة وتحسين ما هم عليه، وتفسيره بالشيطان ليس بشيء لِيُدْحِضُوا ليزيلوا بِهِ أي بالباطل، وقيل: أي بجدالهم بالباطل الْحَقَّ الأمر الثابت الذي لا محيد عنه فَأَخَذْتُهُمْ بالإهلاك المستأصل لهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فإنكم تمرون على ديارهم وترون أثره، وهذا تقرير فيه تعجيب للسامعين مما وقع بهم، وجوز أن يكون من عدم اعتبار هؤلاء، واكتفى بالكسرة عن ياء الإضافة في عقاب لأنه فاصلة، واختلف في المسبب عنه الأخذ المذكور فقيل: مجموع التكذيب والهم بالأخذ والجدال بالباطل، واختار الزمخشري كونه الهم بالأخذ، قال في الكشف: وذلك لأن قوله تعالى: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا هو التكذيب بعينه والأخذ يشاكل الأخذ وإنما التكذيب موجب استحقاق العذاب الأخروي المشار إليه بعد، ولا ينكر أن كليهما يقتضي كليهما لكن لما كان ملاءمة الأخذ للأخذ أتم والتكذيب للعذاب الأخروي أظهر أنه متعلق بالأخذ تنبيها على كمال الملاءمة، ثم المجادلة العنادية ليس الغرض منها إلا الإيذاء فهي تؤكد الهم من هذا الوجه بل التكذيب أيضا يؤكده، والغرض من تمهيد قوله تعالى: ما يُجادِلُ وذكر الأحزاب الإلمام بهذا المعنى، ثم التصريح بقوله سبحانه-: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ يدل على ما اختاره دلالة بينة فلا حاجة إلى أن يعتذر بأنه إنما اعتبر هذا لا ما سيق له الكلام من المجادلة الباطلة للتسلي انتهى، والإنصاف إن فيما صنعه جار الله رعاية جانب المعنى ومناسبة لفظية إلا أن الظاهر هو التفريع على المجموع كما لا يخفى وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي كما وجب حكمه تعالى بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين على الأنبياء وجب حكمه سبحانه بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين عليك أيضا وهم كفار قريش أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي لأنهم أصحاب النار أي لأن
العلة متحدة وهي أنهم كفار معاندون مهتمون بقتل النبي مثلهم، فوضع أَصْحابُ النَّارِ موضع ما ذكر لأنه آخر أوصافهم وشرها والدال على الباقي، وأَنَّهُمْ إلخ في حيز النصب بحذف لام التعليل كما أشرنا إليه، وجوز أن يكون في محل رفع على أنه بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ بدل كل من كل أن أريد بالكلمة قوله تعالى أو حكمه سبحانه بأنهم من أصحاب النار، وبدل اشتمال أن أريد بها الأعم، ويراد بالذين كفروا أولئك المتحزبون، والمعنى كما وجب إهلاكهم بالعذاب المستأصل في الدنيا وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة أيضا لكفرهم، والوجه الأول أظهر بالمساق.

صفحة رقم 298

والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم، وفسرت كَلِمَةُ رَبِّكَ عليه بقوله سبحانه: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: ٤٧] ونحوه. وفي مصحف عبد الله «وكذلك سبقت» وهو على ما قيل تفسير معنى لا قراءة. وقرأ ابن هرمز وشيبة وابن القعقاع ونافع وابن عامر «كلمات» على الجمع.
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهو جسم عظيم له قوائم الكرسي وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة.
وفي بعض الآثار خلق الله تعالى العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وذكر بعضهم في سعته أنه لو مسح مقعره بجميع مياه الدنيا مسحا خفيفا لقصرت عن استيعابه ويزعم أهل الهيئة ومن وافقهم أنه كري وأنه المحدد وفلك الأفلاك وأنه كسائر الأفلاك لا يوصف بثقل ولا خفة وليس لهم في ذلك خبر يعول عليه بل الأخبار ظاهرة في خلافه.
والظاهر أن الحمل على حقيقته وحملته ملائكة عظام.
أخرج أبو يعلى وابن مردويه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض السابعة السفلى والعرش على منكبيه وهو يقول: سبحانك أين كنت وأين تكون.
وأخرج أبو داود وجماعة بسند صحيح عن جابر بلفظ «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة إذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام»

وهم على ما في بعض الآثار ثمانية.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن هارون بن رباب قال: حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم يقول أربعة منهم سبحانك وبحمدك على حلمك بعد عفوك وأربعة منهم سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك
وأخرج أبو الشيخ وابن أبي حاتم من طريق أبي قبيل أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: حملة العرش ثمانية ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينيه مسيرة خمسمائة عام
، وفي بعض الآثار أنهم اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية.
أخرج أبو الشيخ عن وهب قال: حملة العرش أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدوا بأربعة آخرين، ملك منهم في صورة إنسان يشفع لبني آدم في أرزاقهم، وملك منهم في صورة نسر يشفع للطير في أرزاقهم، وملك منهم في صورة ثور يشفع للبهائم في أرزاقهم، وملك منهم في صورة أسد يشفع للسباع في أرزاقهم فلما حملوا العرش وقعوا على ركبهم من عظمة الله تعالى فلقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستووا قياما على أرجلهم.
وجاء رواية عن وهب أيضا أنهم يحملون العرش على أكتافهم وهو الذي يشعر به ظاهر خبر أبي هريرة السابق.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن حبان بن عطية قال: حملة العرش ثمانية أقدامهم مثبتة في الأرض السابعة ورؤوسهم قد جاوزت السماء السابعة وقرونهم مثل طولهم عليها العرش.
وفي بعض الآثار أنهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وفي بعضها لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور، وهم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أمامة يتكلمون بالفارسية أي إذا تكلموا بغير التسبيح وإلا فالظاهر أنهم يسبحون بالعربية، على أن الخبر الله تعالى أعلم بصحته. وفي بعض الآثار عن وهب أنهم ليس لهم كلام إلا أن يقولوا قدوس الله القوي ملأت عظمته السماوات والأرض، وما سيأتي إن شاء الله تعالى بعيد هذا في الآية يأبى ظاهره الحصر وَمَنْ حَوْلَهُ أي والذين من حول العرش وهم ملائكة في غاية الكثرة لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى.
وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان

صفحة رقم 299

على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وذكر في كثرتهم أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش، ولا نسبة بين مجموع المذكور وما يعلمه الله تعالى من جنوده سبحانه وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: ٣١] ويقال لحملة العرش والحافين به الكروبيون جمع كروبي بفتح الكاف وضم الراء المهملة المخففة وتشديدها خطأ ثم واو بعدها ياء موحدة ثم ياء مشددة من كرب بمعنى قرب، وقد توقف بعضهم في سماعه من العرب وأثبته أبو علي الفارسي واستشهد له بقوله:
كروبية منهم ركوع وسجد وفيه دلالة على المبالغة في القرب لصيغة فعول والياء التي تزاد للمبالغة، وقيل: من الكرب بمعنى الشدة والحزن وكأن وصفهم بذلك لأنهم أشد الملائكة خوفا.
وزعم بعضهم أن الكروبيين حملة العرش وأنهم أول الملائكة وجودا ومثله لا يعرف إلا بسماع. وعن البيهقي أنهم ملائكة العذاب وكأن ذلك إطلاق آخر من الكرب بمعنى الشدة والحزن، وقال ابن سينا في رسالة الملائكة:
الكروبيون هم العامرون لعرصات التيه الأعلى الواقفون في الموقف الأكرم زمرا الناظرون إلى المنظر الأبهى نظرا وهم الملائكة المقربون والأرواح المبرءون، وأما الملائكة العاملون فهم حملة العرش والكرسي وعمار السماوات انتهى.
وذهب بعضهم إلى أن حمل العرش مجاز عن تدبيره وحفظه من أن يعرض له ما يخل به أو بشيء من أحواله التي لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ، وجعلوا القرينة عقلية لأن العرش كريّ في حيزه الطبيعي فلا يحتاج إلى حمل ونسب ذلك إلى الحكماء وأكثر المتكلمين، وكذا ذهبوا إلى أن الخفيف والطواف بالعرش كناية أو مجاز عن القرب من ذي العرش سبحانه ومكانتهم عنده تعالى وتوسطهم في نفاذ أمره عزّ وجلّ، والحق الحقيقة في الموضعين وما ذكر من القرينة العقلية في حيز المنع.
وقرأ ابن عباس وفرقة «العرش» بضم العين فقيل: هو جمع عرش كسقف وسقف أو لغة في العرش، والموصول الأول مبتدأ والثاني عطف عليه والخبر قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ والجملة استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببيان أن الملائكة الذين هم في المحل الأعلى مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ونصرتهم واستدعاء ما يسعدهم في الدارين أي ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل كالجسمية وكون العرش حاملا له عزّ وجلّ ملتبسين بحمده جل شأنه على نعمائه التي لا تتناهى.
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ إيمانا حقيقيا كاملا، والتصريح بذلك مع الغنى عن ذكره رأسا لإظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين حسبما ينطق به قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها وادعى الدواعي إلى النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس وتباعدت الأماكن، وفيه على ما قيل: إشعار بأن حملة العرش وسكان الفرش سواء في الإيمان بالغيب إذ لو كان هناك مشاهدة للزومها من الحمل بناء على العادة الغالبة أو على أن العرش جسم شفاف لا يمنع الأبصار البتة لم يقل يؤمنون لأن الإيمان هو التصديق القلبي أعني العلم أو ما يقوم مقامه مع اعتراف وإنما يكون يكون في الخبر ومضمونه من معتقد علمي أو ظني ناشىء من البرهان أو قول الصادق كأنه اعترف بصدق المخبر أو البرهان وأما العيان فيغني عن البيان، ففي ذلك رمز إلى الرد على المجسمة، ونظيره في ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تفضلوني على ابن متى»
كذا قيل، وينبغي أن يعلم أن كون

صفحة رقم 300

حملة العرش لا يرونه عزّ وجلّ بالحاسة لا يلزم منه عدم رؤية المؤمنين إياه تعالى في الدار الآخرة رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً على إرادة القول أي يقولون ربنا إلخ، والجملة لا محل لها محل لها من الإعراب على أنها تفسير- ليستغفرون- أو في محل رفع على أنها عطف بيان على تلك الجملة بناء على جوازه في الجمل أو في محل نصب على الحالية من الضمير في يَسْتَغْفِرُونَ.
وفسر استغفارهم على هذا الوجه بشفاعتهم للمؤمنين وحملهم على التوبة بما يفيضون على سرائرهم، وجوز أن يكون الاستغفار في قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ المفسر بترك معاجلة العقاب وإدرار الرزق والارتفاق بما خلق من المنافع الجمة ونحو ذلك وهو وإن لم يخص المؤمنين لكنهم أصل فيه فتخصيصهم هنا بالذكر للإشارة إلى ذلك، والأظهر كون الجملة تفسيرا، ونصب رُحْماً وعِلْماً على التمييز وهو محول عن الفاعل والأصل وسعت رحمتك وعلمك كل شيء وحول إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في وصفه عزّ وجلّ بالرحمة والعلم حيث جعلت ذاته سبحانه كأنها عين الرحمة والعلم مع التلويح إلى عمومها لأن نسبة جميع الأشياء إليه تعالى مستوية فتقتضي استواءها في شمولهما، ووصفه تعالى بكمال الرحمة والعلم كالتمهيد لقوله سبحانه: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ إلخ، وتسبب المغفرة عن الرحمة ظاهر، وأما تسببها عن العلم فلأن المعنى فاغفر للذين علمت منهم التوبة أي من الذنوب مطلقا بناء على أنه المتبادر من الإطلاق واتباع سبيلك وهو سبيل الحق التي نهجها الله تعالى لعباده ودعا إليها الإسلام أي علمك الشامل المحيط بما خفي وما علن يقتضي ذلك، وفيه تنبيه على طهارتهم من كدورات الرياء والهوى فإن ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى وحده.
ويتضمن التمهيد المذكور الإشارة إلا أن الرحمة الواسعة والعلم الشامل يقتضيان أن ينال هؤلاء الفوز العظيم والقسط الأعلى من الرضوان وفيه إيماء إلى معنى:
إن تغفر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك لا ألما
فإن العبد وإن بالغ حق المبالغة في أداء حقوقه تعالى فهو مقصر، وإليه الإشارة
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته»
وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات هاهنا، وفي تصدير الدعاء بربنا من الاستعطاف ما لا يخفى ولذا كثر تصدير الدعاء به، وقوله تعالى: وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي واحفظهم عنه تصريح بعد تلويح للتأكيد فإن الدعاء بالمغفرة يستلزم ذلك، وفيه دلالة على شدة العذاب.
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ أي وعدتهم إياها فالمفعول الآخر مقدر والمراد وعدتهم دخولها، وتكرير النداء لزيادة الاستعطاف، وقرأ زيد بن علي والأعمش «جنّة عدن» بالإفراد وكذا في مصحف عبد الله وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على الضمير المنصوب في أَدْخِلْهُمْ أي وأدخل معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتضاعف ابتهاجهم، وجوز الفراء والزجاج العطف على الضمير في وَعَدْتَهُمْ أي وعدتهم ووعدت من صلح إلخ فقيل: المراد بذلك الوعد العام. وتعقب بأنه لا يبقى على هذا للعطف وجه فالمراد الوعد الخاص بهم بقوله تعالى: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: ٢١]، والظاهر العطف على الأول والدعاء بالإدخال فيه صريح، وفي الثاني ضمني والظاهر أن المراد بالصلاح الصلاح المصحح لدخول الجنة وإن كان دون صلاح المتبوعين، وقرأ ابن عبلة «صلح» بضم اللام يقال: صلح فهو صليح وصلح فهو صالح، وقرأ عيسى «ذريتهم» بالإفراد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة من الأمور التي من جملتها إدخال من طلب ادخالهم الجنات فالجملة تعليل لما قبلها.

صفحة رقم 301

وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أي العقوبات على ما روي عن قتادة، وإطلاق السيئة على العقوبة لأنها سيئة في نفسها، وجوز أن يراد بها المعنى المشهور وهو المعاصي والكلام على تقدير مضاف أي وقهم جزاء السيئات أو تجوز بالسبب عن المسبب، وأيا ما كان فلا يتكرر هذا مع وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ بل هو تعميم بعد تخصيص لشموله العقوبة الدنيوية والأخروية مطلقا أو الدعاء الأول للمتبوعين وهذا للتابعين، وجوز أن يراد بالسيئات المعنى المشهور بدون تقدير مضاف ولا تجوز أي المعاصي أي وقهم المعاصي في الدنيا ووقايتهم منها حفظهم عن ارتكابها وهو دعاء بالحفظ عن سبب العذاب بعد الدعاء بالحفظ عن المسبب وهو العذاب، وتعقب بأن الأنسب على هذا تقديم هذا الدعاء على ذاك وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ أي يوم المؤاخذة فَقَدْ رَحِمْتَهُ ويقال على الوجه الأخير ومن تق السيئات يوم العمل أي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة وأيد هذا الوجه بأن المتبادر من يومئذ الدنيا لأن (إذ) تدل على المضي، وفيه منع ظاهر وَذلِكَ إشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته أو إلى الوقاية المفهومة من فعلها أو إلى مجموعهما، وأمر التذكير على الاحتمالين الأولين وكذا أمر الإفراد على الاحتمال الأخبر ظاهر هُوَ الْفَوْزُ أي الظفر الْعَظِيمُ الذي لا مطمع وراءه لطامع، هذا وإلى كون المراد بالذين تابوا الذين تابوا من الذنوب مطلقا ذهب الزمخشري، وقال في السيئات على تقدير حذف المضاف هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها، وذكر أن الوقاية منها التكفير أو قبول التوبة وأن هؤلاء المستغفر لهم تائبون صالحون مثل الملائكة في الطهارة وأن الاستغفار لهم بمنزلة الشفاعة وفائدته زيادة الكرامة والثواب فلا يضر كونهم موعودين المغفرة والله تعالى لا يخلف الميعاد، وتعقب بأنه لا فائدة في ذكر الرحمة والمبالغة فيها إذا كان المغفور له مثل الملائكة عليهم السلام في الطهارة وأي حاجة إلى الاستغفار فضلا عن المبالغة، وأن ما قاله في السيئات لا يجوز فإن إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة واجب في مذهبه وما كان فعله واجبا كان طلبه بالدعاء عبثا قبيحا عند المعتزلة، وكذا إسقاط عقوبة الصغيرة فلا يحسن طلبه بالدعاء ولا يجوز أن يكون ذلك لزيادة منفعة لأن ذلك لا يسمى مغفرة، حكي هذا الطيبي عن الإمام ثم قال: فحينئذ يجب القول بأن المراد بالتوبة التوبة عن الشرك كما قال الواحدي فاغفر للذين تابوا عن الشرك واتبعوا سبيلك أي دينك الإسلام، فإن قلت: لو لم يكن التوبة من المعاصي مرادا لكان يكفي أن يقولوا: فاغفر للذين آمنوا ليطابق السابق، قلت: والله تعالى أعلم هو قريب من وضع المظهر موضع المضمر من غير اللفظ السابق وبيانه أن قوله تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا الآية جاء مفصولا عن قوله تعالى:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فالآية بيان لكيفية الاستغفار لا لحال المستغفر لهم، ووصفهم المميز يعرف بالذوق، وأما فائدة العدول عن المضمر وأنه لم يقل: فاغفر لهم بل قيل: للذين تابوا فهي أن الملائكة كما عللوا الغفران في حق مفيض الخيرات جل شأنه بالعلم الشامل والرحمة الواسعة عللوا قابل الفيض أيضا بالتوبة عن الشرك واتباع سبيل الإسلام، فإن قلت: هذه التوبة إنما تصح في حق من سبق شركه على إسلامه دون من ولد مسلما ودام عليه، قلت: الآية نازلة في زمن الصحابة وجلهم انتقلوا من الشرك إلى الإسلام ولو قيل: فاغفر لمن لم يشرك لخرجوا فغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم على سنن جميع الأحكام انتهى، ولعمري إن للبحث فيه مجالا أي مجال.
وفي الكشف إنما اختار الزمخشري ما اختاره على ما قال الواحدي من أن التوبة عن الشرك لأن التوبة عند الإطلاق تنصرف إلى التوبة من الذنوب مطلقا على أن فيه تكرارا إذ ذاك لأن التائب عن الشرك هو المسلم، وقد فسر متبع السبيل في هذا القول به وإذا شرط حملة العرش ومن حوله عليهم السلام صلاح التابع وهو الذرية مع ما ورد من قوله تعالى: بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: ٢١] فما بال المتبوع، وأنت تعلم أن الصلاح من أخص أوصاف المؤمن وكفاك دعاء إبراهيم ويوسف عليهما السلام في الإلحاق بالصالحين شاهدا، وأما أنهم غير محتاجين إلى الدعاء فجوابه أنه لا يجب أن يكون للحاجة، ألا ترى إلى قولنا: اللهم صل على سيدنا محمد وما ورد فيه من الفضائل

صفحة رقم 302

والمعلوم حصوله منه تعالى يحسن طلبه فإن الدعاء في نفسه عبادة ويوجب للداعي والمدعو له من الشرف ما لا يتقاعد عن حصول أصل الثواب، ثم إن الوقاية عن السيئات إن كانت بمعنى التكفير وقع الكلام في أن السيئات المكفرة ما هي ولا خفاء أن النصوص دالة على تكفير التوبة للسيئات كلها وأن الصغائر مكفرات ما اجتنبت الكبائر فلا بد من تخصيصها به كما ذكر وإن كان معناها أن يعفي عنها ولا يؤاخذ بها كما هو قول الواحدي ومختار الإمام ومن ائتم به فينبغي أن ينظر أن الوقاية في أي المعنيين أظهر وأن قوله تعالى: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وما يفيده من المبالغة على نحو من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك.
وتعقيبه بقوله سبحانه: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ في شأن المقصرين أظهر أو شأن المكفرين، ومن هذا التقرير قد لاح أن هذا الوجه ظاهر هذا السياق وأنه يوافق أصل الفريقين وليس فيه أنه سبحانه يعفو عن الكبائر بلا توبة أو لا يعفو فلا ينافي جوازه من أدلة أخرى إلى آخر ما قال وهو كلام حسن وإن كان في بعضه كحديث التكرار وكون الصلاح في الآية ما هو من أخص أوصاف المؤمن نوع مناقشة، وقد يرجح كون المراد بالتوبة التوبة من الذنوب مطلقا دون التوبة عن الشرك فقط بأن المتبادر من وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وق كل واحد منهم ذلك، ومن المعلوم أنه لا بد من نفوذ الوعيد في طائفة من المؤمنين العاصين وتعذيبهم في النار فيكون الدعاء بحفظ كل من المؤمنين من العذاب محرما.
وقد نصوا على حرمة أن يقال: اللهم اغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم لذلك، ولا يلزم ذلك على كون الدعاء للتائبين الصالحين، وحمل الإضافة على العهد بأن يراد بعذاب الجحيم ما كان على سبيل الخلود لا يخفى حاله والاعتراض بلزوم الدعاء بمعلوم الحصول على كون المراد بالتوبة ذلك بخلاف ما إذا أريد بها التوبة عن الشرك فإنه لا يلزم ذلك إذ المعنى عليه فاغفر للذين تابوا عن الشرك ذنوبهم التي لم يتوبوا عنها وغفران تلك الذنوب غير معلوم الحصول قد علم جوابه مما في الكشف، على أن في كون الغفران للتائب معلوم الحصول خلافا أشرنا إليه أول السورة. نعم هذا اللزوم ظاهر في قولهم: وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ونظير ذلك ما ورد في الدعاء أثر الأذان وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، وقد أجيب عن ذلك بغير ما أشير إليه وهو أن سبق الوعد لا يستدعي حصول الموعود بلا توسط دعاء.
وبالجملة لا بأس بحمل التوبة على التوبة من الذنوب مطلقا ولا يلزم من القول به القول بشيء من أصول المعتزلة فتأمل وأنصف، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا شروع في بيان أحوال الكفار بعد دخول النار يُنادَوْنَ وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم الأمّارة بالسوء التي وقعوا فيما وقعوا باتباع هواها حتى أكلوا أناملهم من المقت كما أخرج ذلك عبد بن حميد عن الحسن.
وفي بعض الآثار أنهم يمقتون أنفسهم حين يقول لهم الشيطان: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: ٢٢] وقيل: يمقتونها حين يعلمون أنهم من أصحاب النار، والمنادى الخزنة أو المؤمنون يقولون لهم إعظاما لحسرتهم:
لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ وهذا معمول للنداء لتضمنه معنى القول كأنه قيل ينادون مقولا لهم لمقت إلخ أو معمول لقول مقدر بفاء التفسير أي ينادون فيقال لهم: لمقت إلخ، وجعله معمولا للنداء على حذف الجار وإيصال الفعل بالجملة ليس بشيء، و (مقت) مصدر مضاف إلى الاسم الجليل إضافة المصدر لفاعله، وكذا إضافة المقت الثاني إلى ضمير الخطاب.
وفي الكلام تنازع أو حذف معمول الأول من غير تنازع أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم أكبر من مقتكم

صفحة رقم 303

أنفسكم، واللام للابتداء أو للقسم، والمقت أشد البغض والخلف يؤولونه مسندا إليه تعالى بأشد الإنكار.
إِذْ تُدْعَوْنَ أي إذ يدعوكم الأنبياء ونوابهم إِلَى الْإِيمانِ فتأبون قبوله فَتَكْفُرُونَ وهذا تعليل للحكم أو للمحكوم به- فإذ- متعلقة- بأكبر- وكان التعبير بالمضارع للإشارة إلى الاستمرار التجددي كأنه قيل: لمقت الله تعالى أنفسكم أكبر من مقتكم إياها لأنكم دعيتم مرة بعد مرة إلى الإيمان فتكرر منكم الكفر، وزمان المقتين واحد على ما هو المتبادر وهو زمان مقتهم أنفسهم الذي حكيناه آنفا».
ويجوز أن يكون تعليلا لمقتهم أنفسهم وإذ متعلقة- بمقت- الثاني فهم مقتوا أنفسهم لأنهم دعوا مرارا إلى الإيمان فكفروا، والتعبير بالمضارع كما في الوجه السابق، وزمان المقتين كذلك، والعلة في الحقيقة إصرارهم على الكفر مع تكرر دعائهم إلى الإيمان، وجوز أن يكون تعليلا لمقت الله وإِذْ متعلقة به، ويعلم مما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما عليه وما له، وظاهر صنيع جماعة من الأجلة اختيار كون إِذْ ظرفية لا تعليلية فقيل: هي ظرف- لمقت- الأول، والمعنى لمقت الله تعالى أنفسكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أشد من مقتكم إياها اليوم وأنتم في النار أو وأنتم متحققون أنكم من أصحابها فزمان المقتين مختلف، وكون زمان الأول الدنيا وزمان الثاني الآخرة مروي عن الحسن، وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد، واعترض عليه غير واحد بلزوم الفصل بين المصدر وما في صلته بأجنبي هو الخبر، وفي أمالي ابن الحاجب لا بأس بذلك لأن الظروف متسع فيها، وقيل: هي ظرف لمصدر آخر يدل عليه الأول أو لفعل يدل عليه ذلك كما في البحر.
وفي الكشف فيه أن المقدر لا بد له من جزاءات إن استقل ويتسع الخرق وإن جعل بدلا فحذفه وأعمال المصدر المحذوف لا يتقاعد عن الفصل بالخبر وليس أجنبيا من كل وجه، وتقدير الفعل أي مقتكم الله إذ تدعون أبعد وأبعد، وقيل: هي ظرف لمقت الثاني. واعترض بأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت الدعوة بل في القيامة.
وأجيب بأن الكلام على هذا الوجه من قبيل قول الأمير كرم الله تعالى وجهه: إنما أكلت يوم أكل الثور الأحمر وقول عمرو بن عدس التميمي لمطلقته دختنوس بنت لقيط وقد سألته لبنا وكانت مقفرة من الزاد: الصيف ضيعت اللبن وذلك بأن يكون مجازا بتنزيل وقوع السبب وهو كفرهم وقت الدعوة منزلة وقوع المسبب وهو مقتهم لأنفسهم حين معاينتهم ما حل بهم بسببه، وقيل: إن المراد عليه إذ تبين أنكم دعيتم إلى الإيمان المنحى والحق الحقيق بالقبول فأبيتم أو أن المراد بأنفسهم جنسهم من المؤمنين فإنهم كانوا يمقتون المؤمنين في الدنيا إذ يدعون إلى الإيمان وهو أبعد التأويلات وقال مكي: إِذْ معمولة لا ذكروا مضمرا والمراد التحير والتنديم واستحسنه بعضهم وأراه خلاف المتبادر. وادعى صاحب الكشف أن فيه تنافرا بينا وعلله بما لم يظهر لي وجهه فتأمل.
وتفسير مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ بمقت كل واحد نفسه هو الظاهر، وجوز أن يراد به مقت بعضهم بعضا فقيل: إن الأتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر والرؤساء يمقتون الاتباع لما أنهم اتبعوهم فحملوا أوزارا مثل أوزارهم فلا تغفل قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ صفتان لمصدري الفعلين، والتقدير أمتنا إماتتين اثنتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين.
وجوز كون المصدرين موتتين وحياتين وهما إما مصدران للفعلين المذكورين أيضا بحذف الزوائد أو مصدران لفعلين آخرين يدل عليهما المذكوران فإن الإماتة والإحياء ينبئان عن الموت والحياة حتما فكأنه أمتنا فمتنا موتتين اثنتين وأحييتنا فحيينا حياتين اثنتين على طرز قوله:

صفحة رقم 304

أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت إلخ، واختلف في المراد بذلك فقيل: أرادوا بالإماتة الأولى خلقهم أمواتا وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياؤهم بنفخ الروح فيهم وهم في الأرحام وبالثانية إحياؤهم بإعادة أرواحهم إلى أبدانهم للبعث. وأخرج هذا ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة، وروي أيضا عن الضحاك وأبي مالك وجعلوا ذلك نظير آية [البقرة: ٢٨] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ والإماتة إن كانت حقيقة في جعل الشيء عادم الحياة سبق بحياة أم لا فالأمر ظاهر وإن كانت حقيقة في تصيير الحياة معدومة بعد أن كانت موجودة كما هو ظاهر كلامهم حيث قالوا: إن صيغة الأفعال وصيغة التفعيل موضوعتان للتصيير أي النقل من حال إلى حال ففي إطلاقها على ما عد اماتة أولى خفاء لاقتضاء ذلك سبق الحياة ولا سبق فيما ذكر، ووجه بأن ذلك من باب المجاز كما قرروه في ضيق فم الركية ووسع أسفلها قالوا: إن الصانع إذا اختار أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع الجائز عن الآخر فجعل صرفه عنه كنقله منه يعني أنه تجوز بالأفعال أو التفعيل الدال على التصيير وهو النقل من حال إلى حال أخرى عن لازمه وهو الصرف عما في حيز الإمكان، ويتبعه جعل الممكن الذي تجوز إرادته بمنزلة الواقع، وكذا جعل الأمر في ضيق فم الركية مثلا بإنشائه على الحال الثانية بمنزلة أمره بنقله عن غيرها، ولذا جعله بعض الأجلة بمنزلة الاستعارة بالكناية فيكون مجازا مرسلا مستتبعا للاستعارة بالكناية، فالمراد بالإماتة هناك الصرف لا النقل، وذكر بعضهم أنه لا بد من القول بعموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية أو استعمال المشترك في معنييه بناء على زعم أن الصيغة مشتركة بين الصرف والنقل، ومن أجاز ما ذكر لم يحتج للقول بذلك. وفي الكشف آثر جار الله أن إحدى الإماتتين ما ذكر في قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ وإطلاقها عليه من باب المجاز وهو مجاز مستعمل في القرآن، وقد ذكر وجه التجوز، وتحقيق ذلك يبتني على حرف واحد وهو أن الإحياء معناه جعل الشيء حيا فالمادة الترابية أو النطفية إذا أفيضت عليها الحياة صدق أنها صارت ذات حياة على الحقيقة إذ لا يحتاج إلى سبق موت على الحقيقة بل إلى سبق عدم الحياة فهناك إحياء حقيقة، وأما الإماتة فإن جعل بين الموت والحياة التقابل المشهوري استدعى المسبوقية بالحياة فلا تصح الإماتة قبلها حقيقة، وإن جعل التقابل الحقيقي صحت، لكن الظاهر في الاستعمال بحسب عرفي العرب والعجم أنه مشهوري انتهى، وأراد بالمشهوري والحقيقي ما ذكروه في التقابل بالعدم والملكة فإنهم قالوا: المتقابلان بالعدم والملكة وهما أمران يكون أحدهما وجوديا والآخر عدم ذلك الوجودي في موضوع قابل له إن اعتبر قبوله بحسب شخصه في وقت اتصافه بالأمر العدمي فهو العدم والملكة المشهوران كالكوسجية فإنها عدم اللحية عما من شأنه في ذلك الوقت أن يكون ملتحيا فإن الصبي لا يقال له كوسج، وإن اعتبر قبوله أعم من ذلك بأن لا يقيد بذلك الوقت كعدم اللحية عن الطفل أو يعتبر قبوله بحسب نوعه كالعمى للأكمه أو جنسه القريب كالعمى للعقرب أو البعيد كعدم الحركة الإرادية عن الجبل فإن جنسه البعيد أعني الجسم الذي هو فوق الجماد قابل للحركة الإرادية فهو العدم والملكة الحقيقيان لكن في بناء اقتضاء المسبوقية بالحياة وعدمه على ذلك خفاء، وإن ضم إليه التعبير بصيغة الماضي كما لا يخفى على المتدبر.
ثم وجه تسبب الإماتة مرتين والإحياء كذلك لقوله تعالى: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا أنهم قد أنكروا البعث فكفروا وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم علموا بأن الله تعالى قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم.
وقال السدي: أرادوا بالإماتة الأولى إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياؤهم في القبر للسؤال

صفحة رقم 305

وبالإماتة الثانية إماتتهم بعد هذه الإحياءة إلى قيام الساعة وبالإحياءة الثانية إحياؤهم للبعث، واعترض عليه بأنه يلزم هذا القائل ثلاث إحياءات فكان ينبغي أن يكون المنزل أحييتنا ثلاثا فإن ادعى عدم الاعتداد بالإحياءة المعروفة وهي التي كانت في الدنيا لسرعة انصرامها وانقطاع آثارها وأحكامها لزمه أن لا يعتد بالإماتة بعدها.
وقال بعض المحققين في الانتصار له: إن مراد الكفار من هذا القول اعترافهم بما كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون الأنبياء حين كانوا يدعونهم إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لأن قولهم هذا كالجواب عن النداء في قوله تعالى: يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ كأنهم أجابوا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعونا وكنا نعتقد أن لا حياة بعد الموت فالآن نعترف بالموتين والحياتين لما قاسينا من شدائدهما وأحوالهما فالذنب المعترف به تكذيب البعث، ولهذا جعل مرتبا على القول وإنما ذكروا الإماتتين ليذكروا الإحياءين إذ كلتا الحياتين كانتا منكرتين عندهم دون الحياة المعروفة ومقام هذه الآية غير مقام قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فإن هذه كما سمعت لبيان الإقرار والاعتراف منهم في الآخرة بما أنكروه في الدنيا وتلك لبيان الامتنان الذي يستدعي شكر المنعم أو لبيان الدلائل لتصرفهم عن الكفر.
ويرجح هذا القول إن أمر إطلاق الإماتة على كلتا الإماتتين ظاهر. وتعقبه في الكشف بأنه لا قرينة في اللفظ تدل على خروج الإحياء الأول مع أن الإطلاق عليه أظهر والمقابلة تنادي على دخوله. ويكفي في الاعتراف إثبات احياء واحد منهما غير الأول، وقيل: إنما قالوا: أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ لأنهما نوعان إحياء البعث وإحياء قبله، ثم إحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند القيام ولم يذكر تقسيمه لأنهم كانوا منكرين لقسميه.
وتعذب أن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ، والمراد التعدد الشخصي لا النوعي نعم هذا يصلح تأييدا لما اختاره جار الله، وروي عن جمع من السلف من أن الإحياءات وإن كانت ثلاثا إنما سكت عن الثانية لأنها داخلة في إحياءة البعث قاله صاحب الكشف ثم قال: وعلى هذا فالإماتة على مختار جار الله إماتة قبل الحياة وإماتة بعدها وطويت إماتة القبر كما طويت إحياءته ولك أن تقول إن الإماتة نوع واحد بخلاف الإحياء فروعي التعدد فيها شخصا بخلافه، وذكر الإماتة الثانية لأنها منكرة عندهم كالحياتين، ويجب الاعتراف بها لا للدلالة على أن التعدد في الإحياء شخصي والحق أن ذلك وجه لكن قوله تعالى: اثْنَتَيْنِ ظاهر في المرة فلذا آثر من آثر الوجه الأول وإن كانت الإماتة فيه غير ظاهرة ذهابا إلى أن ذلك مجاز مستعمل في القرآن فتأمل.
وقال الإمام: إن أكثر العلماء احتجوا بهذه الآية في إثبات عذاب القبر وذلك أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين فإحدى الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي عقيبها موتا ثانيا، وذلك يدل على حصول حياة في القبر، وأطال الكلام في تحقيق ذلك والانتصار له، والمنصف يرى أن عذاب القبر ثابت بالأحاديث الصحيحة دون هذه الآية لقيام الوجه المروي عمن سمعت أولا فيها، وقد قيل: إنه الوجه لكني أظن أن اختيار الزمخشري له لدسيسة اعتزالية، وقال ابن زيد في الآية أريد إحياؤهم نسما عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم ثم إماتتهم بعد ثم إحياؤهم في الدنيا ثم إماتتهم ثم إحياؤهم وهذا صريح في أن الإحياءات ثلاث، وقد أطلق فيه الإحياء الثالث والأغلب على الظن أنه عنى به إحياء البعث، وقيل: التثنية في كلامهم مثلها في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: ٤] مراد بها التكرير والتكثير فكأنهم قالوا: أمتنا مرة بعد مرة وأحييتنا مرة بعد مرة فعلمنا عظيم قدرتك وأنه لا يتعاصاها الإعادة كما لا يتعاصاها غيرها فاعترفنا بذنوبنا التي اقترفناها من إنكار ذلك، وحينئذ فلا عليك أن تعتبر الموت في صلب آدم ثم الإحياء لأخذ العهد ثم الإماتة ثم الإحياء بنفخ الروح في الأرحام ثم الإماتة عند انقضاء الأجل في الدنيا ثم الإحياء في القبر للسؤال أو لغيره ثم الإماتة فيه ثم الإحياء للبعث ولا يخفى أنه على ما فيه

صفحة رقم 306

إنما يتم لو كان المقول أمتنا إماتتين أو كرتين وأحييتنا احياءتين أو كرتين مثلا دون ما في المنزل، فإن اثْنَتَيْنِ فيه وصف لإماتتين ولإحياءتين وهو دافع لاحتمال إرادة التكثير كما قيل في إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل: ٥١] وبناء الأمر على أن العدد لا مفهوم له لا يخلو عن بحث، ومن غرائب ما قيل في ذلك ما روي عن محمد بن كعب أن الكافر في الدنيا حي الجسد ميت القلب فاعتبرت الحالتان فهناك إماتة وإحياء للقلب والجسد في الدنيا ثم إماتتهم عند انقضاء الآجال ثم إحياؤهم للبعث، ومثل هذا يحكى ليطلع على حاله فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ أي إلى نوع خروج من النار أي فهل إلى خروج سريع أو بطيء أو من مكان منها إلى آخر أو إلى الدنيا أو غيرها مِنْ سَبِيلٍ طريق من الطرق فنسلكه مثل هذا التركيب يستعمل عند اليأس، وليس المقصود به الاستفهام وإنما قالوه من فرط قنوطهم تعللا أو تحيرا ولذلك أجيبوا بذكر ما أوقعهم في الهلاك وهو قوله تعالى: ذلِكُمْ إلخ من غير جواب عن الخروج نفيا أو إثباتا وإن كان الاستفهام على ظاهره، والمراد طلب الخروج نظير فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السجدة: ١٢] ونحوه لقيل:
اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون: ١٠٨] أو نحو ذلك كذا قيل، وجوز أن يكونوا طلبوا الرجعة ليعملوا بموجب ذلك الاعتراف لكن مع استبعاد لها واستشعار يأس منها والجواب إقناط لهم ببيان أنهم كانوا مستمرين على الشرك فجوزوا باستمرار العقاب والخلود في النار كما يقتضيه حكمه تعالى وذلك جواب بنفي السبيل إلى الخروج على أبلغ وجه، ولا أرى في هذا الوجه بأسا ويوشك أن يكون المتبادر، والمعنى ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب بِأَنَّهُ أي بسبب أن الشأن إِذا دُعِيَ اللَّهُ أي عبد سبحانه في الدنيا وَحْدَهُ أي متحدا منفردا فهو نصب على الحال مؤول بمشتق منكر أو يوحد وحده على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر على حد أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] والجملة بتمامها حال أيضا حذفت وأقيم المصدر مقامها، وفيه كلام آخر مفصل في الوفدة وقد تقدم بعضه.
كَفَرْتُمْ بتوحيده تعالى أي جحدتم وأنكرتم ذلك وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بالإشراك أي تذعنوا وتقروا به، وفي إيراد إِذا وصيغة الماضي في الشرطية الأولى وإِنْ وصيغة المضارع في الثانية ما لا يخفى من الدلالة على سوء حالهم وحيث كان كذلك فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الذي لا يحكم إلا بالحق ولا يقضي إلا بما تقتضيه الحكمة الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ المتصف بغاية العلوم نهاية الكبرياء فليس كمثله شيء في ذاته وصفاته وأفعاله، ولذا اشتدت سطوته بمن أشرك به واقتضت حكمته خلوده في النار فلا سبيل لخروجكم منها أبدا إذ كنتم مشركين. واستدلال الحرورية بهذه الآية على زعمهم الفاسد في غاية السقوط، ويكفي في الرد عليهم قوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [النساء: ٣٥] الآية وقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة: ٩٥] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على شؤونه العظيمة الموجبة لتفرده بالألوهية لتستدلوا بها على ذلك وتعملوا بموجبها فإذا دعى سبحانه وحده تؤمنوا وإن يشرك به تكفروا، وهذه الآيات ما يشاهد من آثار قدرته عزّ وجلّ:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وَيُنَزِّلُ بالتشديد وقرىء بالتخفيف من الإنزال لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أي سبب رزق وهو المطر، وإفراده بالذكر مع كونه من جملة تلك الآيات لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته وجلائل نعمته الموجبة للشكر، وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل واستمرارهما، وتقديم الجار والمجرور على المفعول لما مر غير مرة وَما يَتَذَكَّرُ بتلك الآيات التي هي كالمر كوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للانهماك في التقليد واتباع الهوى إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يرجع عن الإنكار بالإقبال عليها والتفكر فيها، فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه فمن لا ينيب بمعزل عن التذكر فَادْعُوا اللَّهَ اعبدوه عزّ وجلّ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إخلاصكم وشق عليهم.

صفحة رقم 307

وظاهر كلام الكشاف أن (ادعوا) إلخ مسبب عن الإنابة وأن فيه التفاتا حيث قال: ثم قال للمنيبين والأصل فليدع ذلك المنيب، على معنى إن صحت الإنابة على نحو فقد جئنا خراسانا، وقد وافق على كونه خطابا لمن ذكر غير واحد. وفي الكشف التحقيق أن قوله تعالى: وَما يَتَذَكَّرُ إلخ اعتراض وقوله سبحانه: فَادْعُوا اللَّهَ مسبب عن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ على أنه خطاب يعم المؤمن والكافر لسبق ذكرهما لا للكفار وحدهم على نحو مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذ ليس مما نودوا به يوم القيامة، والمعنى فادعوه فوضع الظاهر موضع المضمر ليتمكن فضل تمكن وليشعر بأن كونه تعالى هو المعبود بحق هو الذي يقتضي أن يعبد وحده. وفائدة الاعتراض أن هذه الآيات ودلالتها على اختصاصه سبحانه وحده بالعبادة بالنسبة إلى من ينيب لا المعاند.
وقوله في الكشاف: ثم قال للمنيبين إشارة أن فائدة تقديم الاعتراض أن الانتفاع بالآيات على هذا التقدير فكأنه مسبب عن الإنابة معنى لما كان تسبب السابق للاحق الإنابة، فهذا هو الوجه ولا يأباه تفسير وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ بقوله: وإن غاظ ذلك أعداءكم فإنه للتنبيه على أن امتثال ذلك الأمر إنما يكون بعد إنابتهم وكأن قد حصل ذلك وحصل التضاد بينهم وبين الكافرين، وهو تحقيق حقيق بالقبول لكن في توجيه كلام الكشاف تكلف ظاهر رَفِيعُ الدَّرَجاتِ صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها من رفع الشيء بالضم إذا علا، وجوز أن يكون صيغة مبالغة من باب أسماء الفاعلين وأضيف إلى المفعول وفيه بعد، والدَّرَجاتِ مصاعد الملائكة عليهم السلام إلى أن يبلغوا العرش أي رفيع درجات ملائكته ومعارجهم إلى عرشه.
وفسرها ابن جبير بالسماوات ولا بأس بذلك فإن الملائكة يعرجون من سماء إلى سماء حتى يبلغوا العرش إلا أنه جعل «رفيعا» اسم فاعل مضافا إلى المفعول فقال: أي رفع سماء فوق سماء والعرش فوقهن، وقد سمعت آنفا أن فيه بعدا، ووصفه عزّ وجلّ بذلك للدلالة على سبيل الإدماج على عزته سبحانه وملكوته جل شأنه.
ويجوز أن يكون كناية عن رفعة شأنة وسلطانه عز شأنه وسلطانه كما أن قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ كناية عن ملكه جل جلاله، ولا نظر في ذلك إلى أن له سبحانه عرشا أو لا، فالكناية وإن لم تناف إرادة الحقيقة لكن لا تقتضي وجوب إرادتها فقد وقد وعن ابن زيد أنه قال: أي عظيم الصفات وكأنه بيان لحاصل المعنى الكنائي، وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه تعالى يوم القيامة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن سلام، وهذا أنسب بقوله تعالى:
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ والمعنى الأول أنسب بقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ لتضمنه ذكر الملائكة عليهم السلام وهم المنزلون بالروح كما قال سبحانه: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النحل: ٢] وأيا ما كان- فرفيع الدرجات- وذُو الْعَرْشِ وجملة يُلْقِي أخبار ثلاثة قيل:- لهو- السابق في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ إلخ واستبعده أبو حيان بطول الفصل، وقيل: لهو محذوفا، والجملة كالتعليل لتخصيص العبادة وإخلاص الدين له تعالى، وهي متضمنة بيان إنزال الرزق الروحاني بعد بيان إنزال الرزق الجسماني في يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً فإن المراد بالروح على ما روي عن قتادة الوحي وعلى ما روي عن ابن عباس القرآن وذلك جار من القلوب مجرى الروح من الأجساد، وفسره الضحاك بجبريل عليه السلام وهو عليه السلام حياة القلوب باعتبار ما ينزل به من العلم.
وجوز ابن عطية أن يراد به كل ما ينعم الله تعالى به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة وهو كما ترى، وقوله تعالى: مِنْ أَمْرِهِ قيل: بيان للروح، وفسر بما يتناول الأمر والنهي، وأوثر على لفظ الوحي للإشارة إلى أن اختصاص حياة القلوب بالوحي من جهتي التخلي والتحلي الحاصلين بالامتثال والانتهاء. وعن ابن عباس تفسير الأمر بالقضاء فجعلت مِنْ ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا من الرُّوحَ أي ناشئا من أمره أو

صفحة رقم 308

صفة له على رأي من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي الكائن من أمره، وفسره بعضهم بالملك وجعل مِنْ ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا أو صفة على ما ذكر آنفا، وكون الملك مبدأ للوحي لتلقيه عنه، ومن فسر الروح بجبريل عليه الصلاة والسلام قال: مِنْ سببية متعلقة- بيلقي- والمعنى ينزل الروح من أجل تبليغ أمره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهو الذي اصطفاه سبحانه لرسالته وتبليغ أحكامه إليهم، والاستمرار التجددي المفهوم من يُلْقِي ظاهر فإن الإلقاء لم يزل من لدن آدم عليه السلام إلى انتهاء زمان نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو في حكم المتصل إلى قيام الساعة بإقامة من يقوم بالدعوة على ما
روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»
أي بإحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، وأمر ذلك التجدد على ما جوزه ابن عطية لا يحتاج إلى ما ذكر. وقرىء «رفيع» بالنصب على المدح لِيُنْذِرَ علة للإلقاء، وضميره المستتر لله تعالى أو لمن وهو الملقى إليه أو للروح أو للأمر، وعوده على الملقى إليه وهو الرسول أقرب لفظا ومعنى لقرب المرجع وقوة الإسناد فإنه الذي ينذر الناس حقيقة بلا واسطة، واستظهر أبو حيان رجوعه إليه تعالى لأنه سبحانه المحدث عنه، وقوله تعالى: يَوْمَ التَّلاقِ مفعول- لينذر- أو ظرف والمنذر به محذوف أي لينذر العذاب أو نحوه يوم التلاق، وقوله سبحانه: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ بدل من يَوْمَ التَّلاقِ وهُمْ مبتدأ وبارِزُونَ خبر والجملة في محل جر بإضافة يَوْمَ إليها، قيل: وهذا تخريج على مذهب أبي الحسن من جواز إضافة الظرف المستقبل كإذا إلى الجملة الاسمية نحو أجيئك إذا زيد ذاهب، وسيبويه لا يجوز ذلك ويوجب تقدير فعل بعد الظرف يكون الاسم مرتفعا به، وجوز أن يكون يَوْمَ ظرفا لقوله تعالى: لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ والظاهر البدلية، وهذه الجملة استئناف لبيان بروزهم وتقرير له وإزاحة لما كان يتوهمه بعض المتوهمين في الدنيا من الاستتار توهما باطلا، وجوز أن تكون خبرا ثانيا- لهم..
وقيل: هي حال من ضمير بارِزُونَ ويَوْمَ التَّلاقِ يوم القيامة سمي بذلك قال ابن عباس: لالتقاء الخلائق فيه، وقال مقاتل: لالتقاء الخالق والمخلوق فيه. وحكاه الطبرسي عن ابن عباس، وقال السدي: لالتقاء أهل السماء وأهل الأرض وقال ميمون بن مهران: لالتقاء الظالم والمظلوم، وحكى الثعلبي أن ذلك لالتقاء كل امرئ وعمله، واختار بعض الآجلة ما قال مقاتل وقال: هو أولى الوجوه لما فيه من حمل المطلق على ما ورد في كثير من المواضع نحو فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ. إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا.
وقال صاحب الكشف: القول الأول وهو ما نقل عن ابن عباس أولا أشبه لجريان الكلام فيه على الحقيقة ونفي ما يتوهم من المساواة بين الخالق والمخلوق واستقلال كل من البدلين بفائدة في التهويل لما في الأول من تصوير تلاقي الخلائق على اختلاف أنواعها، وفي الثاني من البروز لمالك أمرها بروزا لا يبقى لأحد فيه شبهة. وأما نحو قوله تعالى: لِقاءَ رَبِّهِ [الكهف: ١١٠] فمسوق بمعنى آخر، وبارِزُونَ من برز وأصله حصل في براز أي فضاء، والمراد ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء لأن الأرض يومئذ قاع صفصف وليس عليهم ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما
جاء في الصحيحين عن ابن عباس «سمعت رسول الله ﷺ يقول: إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلا»
وقيل: المراد خارجون من قبورهم أو ظاهرة أعمالهم وسرائرهم، وقيل: ظاهرة نفوسهم لا تحجب بغواشي الأبدان مع تعلقها بها، ولا يقبل هذا بدون ثبت من المعصوم، والمراد بقوله تعالى: مِنْهُمْ على ما قيل: من أحوالهم وأعمالهم.
وقيل: من أعيانهم، واختير التعميم أي لا يخفى عليه عز شأنه شيء ما من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة.

صفحة رقم 309
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف