
ولما ذكر سابقا أنه خالق الليل والنهار لتسكنوا فيه، والنهار لتبصروا أمر معاشكم وخالق الأرض للاستقرار عليها، والسماء كالبناء عليكم، وصوركم في أحسن صورة ورزقكم من فضله بأبهى نعمه. ذكر هنا من دلائل التوحيد والكمال أنه خلقكم من تراب، أى: خلق أباكم آدم منه أو خلقنا من تراب إذ المنى من الدم، والدم من الغذاء وهو من التراب، ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ثم يرعاكم لتبلغوا قوتكم ومنتهى شبابكم، ثم يبقيكم لتكونوا شيوخا كبارا ضعافا بعد القوة والفتوة، ومنكم من يتوفى من قبل هذا، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، فعل ذلك بكم لتبلغوا أجلا مسمى ووقتا محدودا ينتهى بانقضاء الآجال.
ولعلكم بعد هذه الآيات الكونية الناطقة بوحدانية الله تعالى، وأنه الخالق القادر السميع البصير وأنه الإله ولا إله غيره، ولعلكم بعد هذا تعقلون دلائل التوحيد فتوحدوه.
هو الذي يحيى، وهو الذي يميت، وهو الذي إذا أراد شيئا حصل بمقتضى إرادته بسرعة كأنه قال له: كن فيكون، وهذا تمثيل لتأثير قدرة الله في المقدورات التي يريدها وتصوير لسرعة حصولها من غير أن يكون أمر ولا مأمور.
المجادلون وجزاؤهم وصبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على إيذائهم [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٩ الى ٧٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)

المفردات:
يُصْرَفُونَ: يبعدون الْأَغْلالُ: جمع غل وهو القيد الذي يوضع في العنق يُسْحَبُونَ السحب: الجر بعنف يُسْجَرُونَ: سجر التنور ملأها بالوقود، والمراد أنهم يحرقون ظاهرا وباطنا ضَلُّوا عَنَّا يقال: ضل الماء في اللبن، أى:
خفى، والمراد أنهم صاروا بحيث لا نجدهم تَمْرَحُونَ المرح: فرح بعدوان كالبطر والأشر.
اعلم أنه- تعالى- عاد إلى ذم المجادلين في آيات الله مبينا عظيم جرمهم في التكذيب، وجزاءهم على ذلك، فليس فيه تكرار، إذ ما سبق كان لبيان منشأ الجدال وسببه، وهذا تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الفاسدة مع بيان نهاية جدالهم..

المعنى:
انظر إلى هؤلاء المجادلين في آيات الله الواضحة، الموجبة للإيمان والإقرار بالوحدانية والبعث، الزاجرة عن الجدال والتكذيب، انظر إليهم كيف يصرفون عنها؟! هؤلاء المجادلون هم الذين كذبوا بالكتاب المنزل من عند الله، وبكل ما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون عاقبة فعلهم ونهاية تكذيبهم عند مشاهدتهم العقوبة المعدة لهم ولأمثالهم، فسوف يعلمون يوم القيامة وقت «١» أن تكون الأغلال والسلاسل في أعناقهم، والمعنى أنه يكون في أعناقهم الأغلال والسلاسل ثم يسحبون بها في الحميم، أى: في الماء المغلى بنار جهنم، ثم هم في النار فهي محيطة بهم من كل جانب تحرقهم ظاهرا وباطنا نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [سورة الهمزة الآيتان ٦، ٧].
ثم قالوا: بل لم نكن ندعوا شيئا، أى: كنا نظن أننا ندعوا من ينفع أو يشفع من دون الله؟! قالوا: ضلوا عنا، وغابوا عن عيوننا فلا نراهم، ولا نستشفع بهم وما أروع التعبير بقوله: ضلوا عنا! ثم قالوا: بل لم نكن ندعوا شيئا، أى: كنا نظن أننا ندعوا من ينفع أو يشفع فتبين لنا أنهم لم يكونوا شيئا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا، ويصح أن نفهم: أنهم كذبوا وأنكروا أنهم عبدوا غير الله وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «٢». مثل ذلك الإضلال يضل الله الكافرين عن طريق الجنة، ويضلهم عن الصراط المستقيم.
ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بسبب أنكم كنتم تفرحون بالمعاصي وارتكاب الآثام وإيذاء الرسل الكرام، وتمرحون مرح بطر وأشر.
ادخلوا أبواب جهنم فإن لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، ادخلوها خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين. إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ «٣».
(٢) - سورة الأنعام آية ٢٣.
(٣) - سورة غافر آية ٥٦.