
وقال قتادةُ: أرادَ الأبوابَ «١»، وقيل عَنَى لعلَّه يَجِدُ مَعَ قُرْبِه مِنَ السَّمَاءِ سَبَباً يَتَعَلَّقُ به.
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: «وَصُدَّ عنِ السَّبِيلِ» - بضم الصاد وفتح الدالِ-، عطفاً على زُيِّنَ، والباقونَ- بفَتْحِ الصاد «٢» - والتَّبَابُ: الخُسْرَانُ ومنه تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] وبه فَسَرها مجاهدٌ وقتادة «٣»، ثم وعظهمُ الذي آمن، فَدَعا إلى اتباع أَمْرِ اللَّهِ.
وقوله: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ يقَوِّي أنَّ المتكلمَ موسى، وإنْ كان الآخرُ يُحْتَملُ أنْ يقولَ ذلك، أي: اتبعوني في اتباع موسى، ثم زَهَّدَهُمْ في الدنيا، وأنَّهَا شَيْءٌ يُتَمَتَّعُ بِهِ قليلاً، ورَغَّبَ في الآخرةِ إذْ هي دَارُ الاستِقْرَارِ، قال الغَزَّالِيُّ في «الإحْياءِ» : مَنْ أَرَادَ أنْ يدخلَ الجنةَ بغيرِ حسابٍ، فليستَغْرِقْ أوقَاته في التلاوةِ والذكرِ والتفكُّرِ في حسن المآبِ، ومَنْ أرادَ أن تَرْجُحَ كفَّةُ حَسَنَاتِهِ وتَثْقُلَ موازينُ خَيْرَاتِهِ، فليستوعبْ في الطاعةِ أَكْثَرَ أوقاتِهِ، فإنْ خَلَطَ عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً، فأمْرُهُ في خَطَر، لكنَّ الرجاءَ غَيْرُ منْقَطِعٍ، والعفوُ من كَرَمِ اللَّهِ منتَظَرٌ، انتهى.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤١ الى ٥٦]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)
(٢) ينظر: «السبعة» (٥٧٠)، و «الحجة» (٦/ ١١١)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٧٠)، و «العنوان» (١٦٧)، و «حجة القراءات» (٦٣٢)، و «إتحاف» (٢/ ٤٣٧).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١/ ٦١) برقم: (٣٠٣٤٧) عن ابن عبّاس، وبرقم: (٣٠٣٤٨) عن مجاهد، و (٣٠٣٤٩) عن قتادة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٦٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٨٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٥٧)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة، ولابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

وقوله تعالى: وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ... الآية، قد تقَدَّمَ ذِكْرُ الخِلاَفِ، هل هذهِ المقالاتُ لموسى أو لمؤمنِ آل فرعون، والدعاءُ إلى النجاةِ هو الدعاءُ إلى سبَبِها وهو توحيدُ اللَّهِ تعالى وطاعتُه، وباقي الآية بيِّنٌ.
وقوله: أَنَّما تَدْعُونَنِي المعنى: وإنَّ الذي تدعونَني إليه من عبادةِ غيرِ اللَّهِ لَيْسَ له دعوة، أي: قَدْرٌ وَحَقٌ يجب أنْ يدعى أحدٌ إليه ثم توعَّدَهم بأنَّهم سَيَذْكُرُونَ قولَه عند حُلُولِ/ العذابِ بهم، والضميرُ في فَوَقاهُ يحتملُ أنْ يعودَ على موسى، أو على مؤمنِ آل فرعون علَى ما تقدَّم من الخلاف.
وقال القائلون بأنه مؤمن آل فرعون: إن ذلك المؤمن نجا مع موسى ع في البَحْرِ، وَفَرَّ في جملةِ مَنْ فَرَّ معَه مِنَ المتَّبِعينَ.
وقوله تعالى في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا... الآية، قوله:
النَّارُ رَفْعٌ على البَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: سُوءُ وقيلَ رفعٌ بالابتداءِ، وخَبَرُهُ يُعْرَضُونَ قالت فرقةٌ: هذا الغُدُوُّ والعَشِيُّ هو في الدنيا، أي: في كل غُدُوٍّ وَعَشِيٍّ من أيام الدنيا يُعْرَضُ آلُ فِرْعَوْنَ على النَّارِ، قال القرطبيُّ في «التذكرة» «١» : وهذا هو عذابُ القَبْرِ في البَرْزَخِ، انتهى وكذا قال الإمام الفخر «٢»، ورُوِيَ في ذلك أنَّ أرواحَهُمْ في أجوافِ طَيْرٍ سُودٍ تَرُوحُ بِهِمْ وَتَغْدُو إلى النارِ وقالَهُ الأوزاعِيُّ «٣» - عافانا اللَّه من عذابه-، وخرَّج البخاريُّ ومسلم عن
(٢) ينظر: «تفسير الرازي» (٢٧/ ٦٤).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١/ ٦٦) برقم: (٣٠٣٧٠) عن الأوزاعي، وبرقم: (٣٠٣٦٨) عن الهذيل بن شرحبيل (٣٠٣٦٩) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٩٩)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٦٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٨٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٥٩)، وعزاه لابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد عن هذيل بن شرحبيل، ولعبد بن حميد عن الضحاك، ولعبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود.

ابن عمر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَمنْ أَهْلِ النَّارِ، يقالُ لَهُ: هذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «١»، انتهى.
وقوله [تعالى] وَيَوْمَ [تَقُومُ السَّاعَةُ] «٢» أي: وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُقَالُ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ وآل فرعون: أتْبَاعُهُ وأهْلُ دينهِ، والضميرُ في قولهِ: يَتَحاجُّونَ لجميعِ كفارِ الأُمَمِ، وهذا ابتداءُ قصص لا يَخْتَصُّ بآل فرعونَ، والعامِلُ في: «إذ» فَعْلٌ مضمرٌ، تقديره: اذْكُرْ، ثم قال جميعُ مَنْ في النارِ لخَزَنَتِهَا: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ فراجَعَتْهُمُ الخَزَنَةُ على مَعْنَى التَّوبِيخِ والتقريرِ: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ، فأقَرَّ الكُفَّارُ عند ذلك، وقالُوا/ بَلى، أي: قَدْ كَانَ ذلك، فقالَ لهم الخَزَنَةُ عِنْدَ ذلك: ادعوا أنتم إذن، وهذا على معنى الهُزْءِ بهِم.
وقوله تعالى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ قيل: هو من قول الخَزَنَةِ، وقيل:
هو من قول الله تعالى إخبارا منه لمحمّد ع، ثم أخبَر تعالى أنه ينصر رسلَه والمؤمنينَ في الدنيا والآخرةِ، ونصرُ المؤمِنينَ داخلٌ في نَصْرِ الرُّسُلِ، وأَيْضاً، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ للمؤمنينَ الفضلاءِ وُدًّا، وَوَهَبَهُمْ نَصْراً إذا ظُلِمُوا، وَحَضَّتِ الشريعة على نصرهم ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ رَدَّ عَنْ أخِيهِ في عِرْضِهِ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جهنّم» «٣»،
عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه (٦٥- ٦٦/ ٢٨٦٦)، وابن حبان (٧/ ٤٠٠- ٤٠١)، كتاب «الجنائز» باب: ذكر الإخبار بأن أهل القبور تعرض عليهم مقاعدهم التي يسكنونها في كلّ يوم مرتين (٣١٣٠)، ومالك (١/ ٢٣٩) كتاب «الجنائز» باب: جامع الجنائز (٤٧)، وأحمد (٢/ ١١٣، ١١٦)، والترمذي (٣/ ٣٧٥) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء في عذاب القبر (١٠٧٢)، والترمذي (٤/ ١٠٧) كتاب «الجنائز» باب: وضع الجريدة على القبر (٢٠٧٢)، وابن ماجه (٢/ ١٤٢٧) كتاب «الزهد» باب: ذكر القبر والبلى (٤١٧٠)، والطيالسي (١/ ١٥٣) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء في حسن الظن بالله والكشف لكل إنسان عن مصيره (٧٣٦).
قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح.
(٢) في د: ويوم القيامة.
(٣) أخرجه البيهقي (٨/ ١٦٨) كتاب «قتال أهل البغي» باب: ما جاء في الشفاعة والذب عن عرض أخيه المسلم من الأجر، وأحمد (٦/ ٤٥٠)، والترمذي (٤/ ٣٢٧) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في الذب عن عرض المسلم برقم: (١٩٣١)، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (٣/ ٥٠١) كتاب «الأدب وغيره» باب: الترهيب من الغيبة والبهت وبيانهما، والترغيب في ردهما برقم: (٤١٩٤) عن أبي الدرداء