
عملهم الحسن «يُرْزَقُونَ» من النعم الجسيمة والخيرات العظيمة «فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ٤٠» رزقا واسعا بلا تبعة ولا تقتير ولا إسراف ولا تقدير بمقابلة العمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه ورحمة، وفيها إشارة إلى عظيم فضل الله وشرف ثوابه ومزيد عطائه
«وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ٤١» في هذه الآية طلب منهم أن يوازنوا بين ما يدعونه إليه من اتخاذ الأوثان الموصلة إلى النار أندادا لله- تعالى عن ذلك- وبين دعوته لهم إلى دين الله الموصل إلى الجنة ليتفكروا في هاتين الدعوتين ويميزوا بينهما ويعرفوا ثمرة كل منهما، ولهذا قال لهم «تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» أنه إله وإني لا أعلم إلها غير الإله الواحد الحق «وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ٤٢» لمن أناب إليه، ذكر لهم صنفين عظيمين من صفات الله تعالى الذي يدعوهم لعبادته بأنه منيع غالب قوي الجانب لا يقابل ولا يغالب، فمن التجأ إليه أوى إلى ركن شديد لا يقدر أحد أن يتسلط عليه، وأنه كثير المغفرة لمن يرجع إليه فلا يهولن من يأوي إليه كثرة ذنوبه وعظيم خطأه فإنه يسترها له مهما كانت، وهو واسع المغفرة، وهذا مما قذفه الله في قلب هذا المؤمن الكامل من نور الإيمان والمعرفة، فجعله ينطق بالحكمة توا، إذ أبدل جهله علما وكفره إيمانا وجبنه شجاعة، ومن هنا قيل: ما اتخذ الله من ولي جاهلا ولو اتخذه لعلمه «لا جَرَمَ» حقا «أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» من البقاء على دينكم وعبادة الصنم الذي «لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ» مقبولة «فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ» لأنه لا ينطق حتى يدعو الناس لعبادته ومن لا يقدر على النطق لا يجيبه أحد، وإن من حق المعبود أن يدعو العباد لعبادته، فإذا لم تكن له دعوة مجابة في الدنيا فمن باب أولى أن لا تكون له في الآخرة، ولهذا عطفها عليها، لأنها فضلا عن أنها لا تجيب عابديها فيها فإنها تتبرأ منهم وتنكر عبادتهم حينما يؤهلها الله للنطق لهذه الغاية «وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ» جميعا نحن وأنتم «وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ» المتجاوزون حدود الله في استرقاق عباده السفاكين لدماء الأبرياء الغاصبين أموالهم بغير حق، فكأنه رحمه الله أراد أن يختم كلامه بما افتتحه وهو (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) فقال وإن المسرفين في القتل وغيره

من سائر المحرمات «هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ٤٣» لا غيرهم لأن كل متجاوز حدود الله بالقتل والكفر والشرك والفواحش ومات مصرا عليها فهو من أهل النار، كما جاءت به الآيات والآثار. ولا يقال هنا إن الله لا يحدد عليه، فله أن يعفو عن أمثال هؤلاء ويدخلهم الجنة، وله أن يدخل من أهل الجنة النار لأنه جل ذكره لا يسأل عما يفعل، ثم ضربهم بآخر سهم من كنانته فقال «فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ» الآن يا قوم غدا إذا لم تؤمنوا بربي وتسمعوا رشدي عند معاينتكم العذاب في الآخرة، وتندمون ولات حين مندم ولا ذكرى أقول لكم قولي هذا «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ» وحده، فإذا أردتم أن توقعوا بي شرا بعد نصحي إليكم فهو لا بد منقذي منكم، ولهذا فلست بسائل عن وعيدكم وتهديدكم، فافعلوا ما شئتم، وذلك لما أطال عليهم وجاهرهم بإيمانه هددوه بالقتل أيضا إن لم يقلع عما يقوله لهم فأجابهم بأنه قد أدى ما هو واجب عليه وأنه لا يبالي بهم لأنه معتمد على الله، ولهذا ختم مجادلته بقوله «إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ٤٤» يعلم المحق من المبطل وما يؤول إليه أمري وأمركم فهموا به ليأخذوه فهرب من بين أيديهم وأعماهم الله عنه فطلبوه فلم يجدوه وذلك قوله تعالى «فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا» فحال دون وصولهم إليه وحفظه من مكرهم وأذاهم «وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ ٤٥» وذلك بعد أن هرب موسى بني إسرائيل ولحق بهم فرعون وجيشه حتى وصلوا إلى البحر وتراءوا وكان ما كان كما بيناه في الآية ٥٣ من سورة الشعراء في ج ١ فراجعه، فكان عذابهم الدنيوي بالغرق، ولعذاب الآخرة أشد كما سيتلى عليك بعد هذا، ومن قال إن هذا المؤمن هو موسى قول لا قيمة له فهو أوهى من بيت العنكبوت، وكأن هذا القائل استكثر على هذا المؤمن أن يقع منه مثل هذا ولم يدر أن نظرة من بحر جوده تقلب المريض صحيحا، والأبكم فصيحا، والمجرم بريئا، والكافر وليا، والفاجر بارا، والرجس طاهرا، قال تعالى معرضا بعذاب آل فرعون الأخروي بعد أن ذكر عذابهم الدنيوي في الآية ١٣٠ من سورة الأعراف المارة في ج ١ بقوله عز قوله «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا»
وهذا العرض يكون لهم في البرزخ بعد الموت، هو غير

عذاب الآخرة بدليل قوله تعالى «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ» يقال لخزنة جهنم «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ٤٦» أعظمه وأكبر أنواعه وأفظع ألوانه وأقبح أشكاله، ومنه إراءتهم أمكنتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين ثم زجهم في النار حتى وصلوا إلى قعرها.
مطلب عذاب القبر ومحاججة أهل النار وبقاء النفس والدجال:
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشية إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك لله إليه يوم القيامة. وفي هذا دليل ظاهر على بقاء النفس وعذاب القبر في البرزخ لا غبار عليه، لأن المراد من العرض في الآية والمقعد في الحديث هو برزخ القبر لا غير، ولأن البعث يكون منه، ولا يراد منه وجوده في الدنيا، لأنه لم يكن حاصلا فيها، ولا يقال إنه خاص بآل فرعون لأنه إذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم، إذ لا قائل في الغرق، تدبر. وقد أخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبيد بن حميد عن هذيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار، فذلك عرضها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحو ذلك، وهذه الطير صور يخلقها الله تعالى من صور أعمالهم كما يخلق لتمثيل أرواح الشهداء طيرا خضرا ترتع في الجنة لتنعم في البرزخ قبل نعمة الآخرة.
ويؤيد هذا، الحديث الوارد، القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار. وأحاديث أخرى في هذا المعنى، وهذا البحث صلة في الآية ٢٤ من سورة نوح الآتية إن شاء الله، والله على كل شيء قدير. ومما يشهد لهذا ما أخرجه ابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن أبي هريرة أنه كان له صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول أول النهار ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، ويقول أول الليل ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله تعالى القائل عز قوله «وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً» في