آيات من القرآن الكريم

لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ

موسى موجودا لكان له محل، ومحله إما الأرض وإما السماء، ولم نره في الأرض، فإذا هو في السماء، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلم، فيجب أن نبنى الصرح لنصل إليه.
ثم بين السبب الذي دعاه إلى ما صنع فقال:
(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العمل السيّء، فانهمك في غيّه، واستمر في طغيانه، ولم يرعو بحال، وصدّ عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، وما كان ذلك إلا لسوء استعداده وتدسيته نفسه والسير بها قدما في شهواتها دون أن يكون لها وازع يصدها عن غيها، ويثوب بها إلى رشدها.

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
ثم ذكر عاقبة مكره وتدليسه وأنه ذاهب سدى وأن الله ناصر أولياءه، ومهلك أعداءه و «مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وإلى هذا أشار بقوله:
(وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي وما احتياله الذي يحتال به ليطّلع على إله موسى إلا في خسار وذهاب مال، لأنها نفقة تذهب باطلا سدى دون أن يصل إلى شىء مما أراده من القضاء على دعوة موسى، فالنصر في العاقبة له «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٨ الى ٤٦]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)

صفحة رقم 72

تفسير المفردات
الرشاد: ضد الغى والضلال، متاع: أي يستمتع به أياما قليلة ثم ينقطع ويزول، دار القرار: أي دار البقاء والدوام، إلى النجاة: أي إلى الإيمان بالله الذي ثمرته وعاقبته النجاة، إلى النار: أي إلى اتخاذ الأنداد والأوثان الذي عاقبته النار، ما ليس لى به علم:
أي ما لا وجود له ولم يقم عليه دليل ولا برهان، لا جرم: أي حقّا، دعوة: أي استجابة دعوة لمن يدعو إليه، مردّنا: أي مرجعنا، وأن المسرفين، أي الذين يغلب شرهم على خيرهم، فستذكرون: أي فسيذكر بعضكم بعضا حين معاينة العذاب، وقاه: حفظه، يعرضون عليها: أي تعرض أرواحهم عليها.
المعنى الجملي
اعلم أن هذا المؤمن لما رأى تمادى قومه في تمردهم وطغيانهم أعاد إليهم النصح مرة أخرى، فدعاهم أولا إلى قبول هذا الدين الذي هو سبيل الخير والرشاد، ثم بين

صفحة رقم 73

لهم حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة، وأنها هى الدار التي لا زوال لها، ثم ذكر أنه يدعوهم إلى الإيمان بالله الذي يوجب النجاة والدخول في الجنات، وهم يدعونه إلى الكفر الذي يوجب الدخول في النار، ثم أردف هذا بيان أن الأصنام لا تستجاب لها دعوة، فلا فائدة في عبادتها، ومردّ الناس جميعا إلى الله العليم بكل الأشياء، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت، وأن المسرفين في المعاصي هم أصحاب النار ثم ختم نصحه بتحذيرهم من بأس الله وتفويض أمره إلى الله الذي يدفع عنه كل سوء يراد به ثم أخبر سبحانه بأنه استجاب دعاءه فوقاه السوء الذي دبروه له وحفظه مما أرادوه من اغتياله، وأحاط بآل فرعون سوء العذاب فغرقوا في البحر، ويوم القيامة يكون لهم أشد العذاب في النار.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي يا قوم إن اتبعتمونى فقبلتم منى ما أقول لكم سلكتم الطريق الذي به ترشدون باتباعكم دين الله الذي ابتعث به موسى.
ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة، فصدوا عن التصديق برسول الله فقال:
(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي يا قوم ما هذا النعيم الذي عجّل لكم في هذه الحياة الدنيا إلا قليل المدى تستمعون به إلى أجل أنتم بالغوه ثم تموتون، وإن الآخرة هى دار الاستقرار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا ظعن عنها إلى غيرها، وفيها إما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم.
ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة وأشار إلى أن جانب الرحمة فيها غالب على جانب العقاب فقال:
(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ

صفحة رقم 74

فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ)
أي من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت، فلا يعذب إلا بقدرها من غير مضاعفة للعقاب، ومن عمل بطاعة الله وائتمر بأمره، وانتهى عما نهى عنه، ذكرا كان أو أنثى وهو مؤمن بربه مصدق بأنبيائه ورسله، فأولئك يدخلون الجنة ويمتعون بنعيمها بلا تقدير ولا موازنة للعمل بل يجازون أضعافا مضاعفة بلا انقضاء ولا نفاد.
ثم كرّر ذلك المؤمن دعاءهم إلى الله وصرح بإيمانه ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم وأنه إنما تصدى لتذكيرهم كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقول الرجل المحب لقومه تحذيرا لهم من الوقوع فيما يخاف عليهم من مواضع الهلكة فقال:
(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟) أي أخبرونى كيف أنتم وما حالكم، أدعوكم إلى النجاة من عذاب الله بإيمانكم بالله وإجابة رسوله وتصديق ما جاء به من عند ربه، وتدعوننى إلى عمل أهل النار بما تريدون منى من الشرك؟.
ثم فسر الدعوتين بقوله:
(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي تدعوننى إلى الكفر بالله والإشراك به في عبادته ما لم يقم دليل على ألوهيته، وأنا أدعوكم إلى من استجمع صفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي حقا إن ما تدعوننى إليه من الأصنام لا يجيب دعوة من يدعوه، فهو لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة.
ونحو الآية: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» وقوله:

صفحة رقم 75

«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ».
(وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ) أي وأن منقلبنا بعد الموت والبعث إلى الله، وحينئذ يجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.
(وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وأن المشركين بالله المتعدّين حدوده هم أهل الجحيم خالدين فيها أبدا قاله قتادة وابن سيرين، وقال ابن مسعود ومجاهد والشعبي:
هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها الذين ركبوا أهواءهم ودسّوا أنفسهم بصنوف المعاصي.
ثم ختم نصحه بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم، ليتفكروا في عاقبة أمرهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال:
(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) أي فستعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه وتتذكرونه فتندمون حيث لا ينفع الندم، وإنى قد بالغت في نصحكم وتذكيركم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد.
ثم ابتدأ كلاما آخر يبين به اطمئنانه إلى ما يجرى به القدر ويخبئه له الغيب كما هو دأب المؤمنين الصادقين فقال:
(وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) أي وأتوكل على ربى وأفوض إليه أمرى وأستعين به ليعصمنى من كل سوء. قيل إنه قال ذلك لما أرادوا قتله والإيقاع به. وقال مقاتل:
هرب هذا المؤمن إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه.
ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال:
(إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي إنه خبير بهم فيهدى من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال لسوء استعداده وتدسيته نفسه، وله الحجة الدامغة، والحكمة البالغة، والقدرة النافذة.

صفحة رقم 76

ثم أخبر سبحانه أنه قد كانت النصرة له والهلاك لعدوه فقال:
(فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أي فحفظه الله مما أرادوا به من المكر السيئ في الدنيا، إذ نجاه مع موسى عليه السلام، وفي الآخرة بإدخاله دار النعيم، وأحاط بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق في اليمّ، وفي الآخرة بدخول جهنم وبئس القرار.
وفي هذا إيماء إلى أنهم قصدوه بالسوء، وقد روى عن ابن عباس أنه لما ظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب ونجا.
ثم فصّل ما أجمله من سوء العذاب بقوله:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة على النار بالغداة والعشى وينفّس عنهم فيما بين ذلك، ويدوم هذا إلى يوم القيامة، وحينئذ يقال لخزنة جهنم:
أدخلوا آل فرعون النار.
قال بعض العلماء. وفي هذه الآية دليل على عذاب القبر، ويؤيده ما
روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، ويقال هذا مقعدك حين يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة، ثم قرأ: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا».
وروى ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر، قال المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا دون العذاب وقرأ: «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ».
وقد أثبت علماء الأرواح حديثا، نعيم الروح وعذابها، وشبهوا ذلك بما يراه النائم حين نومه، فقد نرى نائمين في سرير واحد يقوم أحدهما مذعورا كئيبا وجلا مما شاهد

صفحة رقم 77
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية