- ٤- متابعة الرجل المؤمن نصحه لقومه
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٨ الى ٤٦]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
الإعراب:
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ.. الجملة بدل أو عطف بيان. والدعاء كالهداية في التعدية ب «إلى» واللام.
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ.. فيه محذوف، أي ليس له إجابة دعوة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها النَّارُ: إما بدل مرفوع من قوله تعالى: سُوءُ الْعَذابِ وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو النار، وإما مبتدأ، وخبره: يُعْرَضُونَ عَلَيْها.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ آلَ فِرْعَوْنَ: مفعول به لفعل أَدْخِلُوا وقرئ بوصل همزة أَدْخِلُوا وضمها وضم الخاء، فيكون آلَ فِرْعَوْنَ منادى مضاف، أي ادخلوا يا آل فرعون.
البلاغة:
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها استعارة تمثيلية، حيث شبه حالهم بحال متاع يعرض للبيع، وجعل النار كالطالب الراغب في الكفار.
غُدُوًّا وعَشِيًّا بينهما طباق.
يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ بينهما ما يسمى بالمقابلة في علم البديع.
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ فيها توافق أواخر الآيات مع السجع البديع، والبيان الرائع الذي يهز أعماق النفس الإنسانية.
المفردات اللغوية:
اتَّبِعُونِ بإثبات الياء: اتبعوني. أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أدلكم على طريق الصواب والسداد، والرَّشادِ: وهو ضدّ الغي والضلال، وهو السبيل الذي يصل سالكه إلى المقصود الأسمى والنجاة. وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي. مَتاعٌ تمتع يسير، لسرعة زوالها، يستمتع به زمنا قليلا ثم يزول. دارُ الْقَرارِ دار البقاء والدوام والخلود.
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها عدلا من الله، وفيه دليل على أن الجنايات في الأبدان والأموال تغرم بمثلها. بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير ولا تقنين ولا موازنة بالعمل، فهو رزق واسع لا حدود له، فضلا من الله ورحمة. وقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ قيد أو شرط في اعتبار العمل، وأن ثوابه أعلى من ذلك. والتعبير في جانب الثواب على العمل الصالح مع الإيمان بالجملة الاسمية. فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ للدلالة على الثبوت والاستمرار، وتغليب الرحمة، وجعل العمل عمدة.
وَيا قَوْمِ، ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ.. أي إلى الإيمان بالله الذي يؤدي إلى النجاة، وقد كرر نداءهم إيقاظا لهم من الغفلة، واهتماما بهم، ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحه من إدبار وإعراض. وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ إلى الكفر وعبادة الأوثان الموجبة لدخول النار.
وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أشرك بما لا وجود له، ولم يقم على ربوبيته دليل ولا برهان.
وفيه إيماء بأن الألوهية لا بدّ لها من برهان واعتقاد بيقين.
لا جَرَمَ أي حق، وفاعله: أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.. لأعبده لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ ليس له إجابة دعوة لمن يدعو إليه، والمعنى: حقّ عدم استحقاق آلهتكم العبادة، لأنها جمادات، ولأنّها ليس لها دعوة مستجابة. مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ مرجعنا بالموت إلى لقاء الله. وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين الحدّ، الذين يغلب شرهم على خيرهم، الواقعين في الضلالة والطغيان، كالإشراك والكفر وسفك الدماء. هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها.
فَسَتَذْكُرُونَ تتذكرون عند معاينة العذاب. ما أَقُولُ لَكُمْ من النصيحة. وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ليعصمني من كل سوء. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيحرسهم. وكان هذا جواب توعدهم المفهوم من قوله تعالى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا حماه الله وحفظه من شدائد مكرهم الذي مكروا به من القتل. وَحاقَ نزل. بِآلِ فِرْعَوْنَ بفرعون وقومه. سُوءُ الْعَذابِ بالغرق في الدنيا والموت، والنار في الآخرة.
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها مثل يصلونها، أي يحرقون بها، فإن عرضهم على النار: إحراقهم بها، مأخوذ من قولهم: عرض الحاكم الأسارى على السيف: إذا قتلهم به. غُدُوًّا وَعَشِيًّا صباحا ومساء، وذكر هذين الوقتين يفيد التأبيد والدوام ما دامت الدنيا، فإذا قامت القيامة قيل لهم:
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ عذاب جهنم، فإنه أشدّ مما كانوا فيه، أو أشدّ عذاب جهنم.
والمعنى: أن أرواح الكفار وهم في القبور تعرض على النار صباح مساء، أي تحرق بها، مما يدلّ على بقاء النفس، وثبوت عذاب القبر، كما روى ابن مسعود رضي الله عنه: «أن أرواحهم في أجواف طير سود، تعرض على النار، بكرة وعشيا إلى يوم القيامة» وقد يراد بهذين الوقتين التخصيص، فيعذبون بالنار فيهما، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم: فإما أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفّس عنهم.
المناسبة:
هذا بقية كلام مؤمن آل فرعون، فإنه أعاد عليهم النصح مرة أخرى حينما رآهم يتمادون في كفرهم وبغيهم، ونادى قومه ثلاث مرات، في المرة الأولى دعاهم
في الآيات السابقة إلى قبول الدين الذي دعا إليه موسى، على سبيل الإجمال، وفي المرتين الأخريين على سبيل التفصيل.
فدعاهم إلى الإيمان بالله سبحانه طريق الرشاد، ثم حذّرهم من الاغترار بالدنيا، وحثّهم على العمل للآخرة لدوامها، وقارن بين دعوته لهم إلى الإيمان بالله تعالى طريق النجاة، وبين دعوتهم له إلى عبادة الأصنام طريق النار. ثم أخبر سبحانه عن وقايته وعصمته من السوء الذي دبّروه له، وإغراق آل فرعون، وإدخالهم في جهنم يوم القيامة.
التفسير والبيان:
وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ قال مؤمن آل فرعون يعظ قومه: يا قوم، اتبعوني فيما أقول لكم وأدعوكم إليه، أدلكم على طريق الرشاد والخير والسداد، وهو اتباع دين الله الذي جاء به موسى.
وفيه تعريض بأن سبيل فرعون وآله سبيل الغي والضلال والفساد.
ثم حذرهم من الافتتان بنعيم الدنيا والاغترار بزخارفها، فقال:
يا قَوْمِ، إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ أي يا قوم، ما هذه الحياة الدنيوية إلا مجرد متاع يستمتع به قليلا ثم يزول وينتهي بالموت، وإن الآخرة هي دار الاستقرار والبقاء والخلود، فهي دائمة باقية لا زوال عنها، ولا انتقال منها، والناس إما في النعيم وإما في الجحيم، ولا ثالث غيرهما، فالسعيد من سعى إلى النعيم، والشقي من سعى إلى الجحيم، لأن النعيم فيها دائم، والعذاب فيها دائم.
وهذا نعى للدنيا الزائلة الفانية عما قريب، وبشارة بالآخرة الدائمة الباقية.
ثم أبان تعالى طريق تقسيم العباد وكيفية المجازاة في الآخرة، مشيرا إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب، فقال:
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ، أي من ارتكب معصية من المعاصي، فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها، عدلا من الله، ومن عمل العمل الصالح وهو اتباع أمر الله واجتناب نهي الله، وكان مصدقا بالله وبرسله، فهؤلاء هم لا غيرهم أهل الجنة التي يتمتعون بنعيمها ورزقها أضعافا مضاعفة، بغير تقدير ولا تساو مع العمل، فضلا من الله ونعمة ورحمة.
وهذا دليل على أن جزاء السيئة مقصور على المثل، وجزاء الحسنة خارج عن الحساب، غير مقصور على المثل. والآية أيضا أصل كبير في أحكام الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات، فإن مقتضى الآية أن يكون المثل مشروعا، وأن الزائد عن المثل غير مشروع، أي إن الواجب في الجنايات على الأنفس والأموال هو إما المثل في المثليات كالحبوب، وإما القيمة في القيميات كالأمتعة والأثاث واللآلئ والجواهر.
ثم أكّد وكرر الرجل المؤمن دعوته إلى الله، وصرّح بإيمانه بالله وحده لا شريك له، فقال:
وَيا قَوْمِ، ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ أي ما لكم يا قوم؟ أخبروني عنكم، ما بالي أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة، بالإيمان بالله تعالى، وعبادة الله وحده لا شريك له، وتصديق رسوله المبعوث إليكم من عند ربكم، وتدعونني إلى عمل أهل النار، بما تريدون مني من الشرك وعبادة الأصنام؟
ثم فسّر الدعوتين قائلا:
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ أي تدعونني لأمر خطير جدا هو الكفر بالله، والإشراك به في عبادته جهلا ولم يقم أي دليل على ألوهيته، ولا علم لي من وجه صحيح بكونه شريكا لله، وأنا أدعوكم إلى الإيمان بمن اتصف بصفات الألوهية الحقة، من العزة والقدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المغفرة والتعذيب، فآمنوا به يغفر لكم ويعزّكم، فهو القوي الغالب في انتقامه ممن كفر، الغفار في عزته وكبريائه لذنب من آمن به وتاب إليه.
ثم أكّد تفنيد دعوتهم وفساد منهجهم، فقال:
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ أي قد حقّ وثبت وصحّ عقلا وواقعا أن الذي تدعونني إليه من عبادة الأصنام والأنداد ليس له أي دعوة مستجابة، فلا يجيب داعيه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، لأنه جماد لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضرّ، كما في آية أخرى:
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف ٤٦/ ٥- ٦]، وقال تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [غافر ٤٠/ ١٤].
وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي والواقع الحتمي أن مرجعنا ومصيرنا إلى الله بالموت ثم بالبعث في الدار الآخرة، فيجازي كل إنسان بعمله، وأن المسرفين في المعاصي، المستكثرين منها، المتعدّين حدود الله، المنغمسين في الشرك والوثنية والكفر، هم أهل النار الذين يصيرون إليها، الخالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عزّ وجلّ.
ثم ختم كلامه بخاتمة لطيفة مؤثّرة فيها تذكير بالمستقبل وبعد نظر، فقال:
فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي سوف تعلمون صدق قولي لكم من أمر ونهي ونصح وإيضاح وتذكير في وقت لا ينفع فيه الندم، حين ينزل بكم العذاب الشديد في الآخرة، وأتوكل على الله وأستعين به ليعصمني من كلّ سوء في مقاطعتي لكم ومباعدتكم، فإن الله بصير بعباده، خبير بهم، فيهدي من يستحق الهداية، ويضلّ من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، والقدرة النافذة. قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل، فلم يقدروا عليه.
ثم أخبر الله تعالى عن مصير هذا الرجل المؤمن الجريء الناصح الفصيح، فقال:
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ أي حفظه الله وحماه في الدنيا من سوء وشرّ ما أرادوا به من قتل، ونجّاه من بأس فرعون، كما نجّى موسى عليه السلام، كما نجّاه في الآخرة من النار، وأنعم عليه بالجنة، ونزل بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق جميعا في البحر، وسيعذبون في الآخرة بالنار.
ثم أوضح الله تعالى ذلك العذاب السيء، فقال:
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ أي إن أرواح فرعون وقومه بعد موتهم في عالم البرزخ، وقبل مجيء القيامة تعرض على النار وتحرق فيها صباحا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ويقال للملائكة:
أدخلوا آل فرعون في جهنم، حيث يكون العذاب فيها أشد ألما وأعظم نكالا
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله ص: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة
فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك، حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة».
وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله ص قال: «إن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار تعرض على النار، بالغداة والعشي، فيقال:
هذه داركم».
وفي حديث آخر عنه تقدّم: «إن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين، فذلك عرضها».
وهذه الآية والأحاديث أصل أساسي في إثبات عذاب البرزخ في القبر، وأن عذاب القبر حقّ واقع لا شكّ فيه.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله ص عن عذاب القبر، فقال: «نعم عذاب القبر حقّ»
ولكن ليس في الآية دلالة على أن الأجساد في القبور تتألم مع الروح، وتتعذب معها، وإنما دلّت السنّة على ذلك،
كالحديث المتقدّم: «نعم عذاب القبر حقّ»
وكذلك اقتصرت دلالة الآية على عذاب الكفار في البرزخ، ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب، ولكن يفهم ذلك من الأحاديث النّبوية المتقدّمة، لكن العذاب متفاوت بدليل
ما رواه ابن أبي حاتم والبزار في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النّبي ص قال: «ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى، قلنا:
يا رسول الله، ما إثابة الله الكافر؟ فقال: إن كان قد وصل رحما أو تصدّق بصدقة أو عمل حسنة، أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا: فما إثابته في الآخرة؟ قال ص: عذابا دون العذاب» وقرأ:
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كان مؤمن آل فرعون في نصحه لقومه من أشدّ الناس إخلاصا لهم وحبّا وحرصا على إنقاذهم من ورطة الكفر، والدخول في ساحة الإيمان بالله عزّ وجلّ وحده لا شريك له.
٢- لقد كرّر النّصح وأكّده، ونوّع الخطاب والترغيب والترهيب، مبتدئا بالدعوة إلى الإيمان بالله، وسلوك طريق الهدى وهو الجنة، ونادى قومه بلطف هنا للمرة الثانية.
٣- ثم حذّر من الاغترار بزخارف الدنيا ولذائذها وشهواتها، وزهّدهم فيها بعد أن آثروها على الأخرى، ولا يسع العاقل البصير إلا عدم التعلق الشديد بالدنيا الفانية، وإيثار الآخرة دار الاستقرار والخلود.
٤- وأبان لقومه كيفية المجازاة في الآخرة، فمن اقترف معصية- وأكبرها الشرك- فلا يجزى إلا مثلها من العذاب عدلا من الله، ومن عمل بما أمر الله به واجتنب ما نهى عنه، وهو مصدق بقلبه بالله وبالأنبياء، فهو من أهل الجنة، فضلا ورحمة من الله، ورزق الجنة دائم واسع لا تقدير فيه.
٥- ثم نادى قومه للمرة الثالثة مؤكّدا دعوتهم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة، وترك الكفر الذي يوجب النار، علما بأنه لا دليل ولا برهان يقبل على صحة الدعوة إلى الشرك، وإنما الدليل القاطع والبرهان الساطع متوافر في صحة الدعوة إلى الإيمان بالله المتصف بصفات الألوهية الحقّة من الخلق والقدرة والإرادة والعلم والعزّة والمغفرة والتعذيب.
٦- حقا إن ما يعبد من دون الله من البشر أو الأصنام ليس له استجابة دعوة تنفع، وليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة. وكان فرعون أولا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، ثم دعاهم إلى عبادة البقر، فكانت تعبد ما كانت شابة، فإذا هرمت أمر بذبحها، ثم دعا بأخرى لتعبد، ثم لما طال عليه الزمان قال: أنا ربّكم الأعلى.
٧- إن المسرفين وهم المشركون، والسفهاء، وسفاكو الدماء بغير حقها، والجبارون والمتكبرون، والذين تعدّوا حدود الله، هم أصحاب النار.
٨- ثم لجأ مؤمن آل فرعون إلى نوع من التهديد والوعيد، مبينا أن قومه سيتذكرون يوم القيامة وحين حلول العذاب بهم، ما قاله لهم، وأما هو فقد توكّل على الله وأسلم أمره إليه، لأنهم أرادوا قتله، ولكن من يتوكل على الله فهو حسبه.
٩- لقد حفظ الله هذا المؤمن من إلحاق أنواع العذاب به، فطلبوه فما وجدوه، لأنه فوّض أمره إلى الله تعالى.
١٠- وأما آل فرعون فإنه نزل بهم العذاب الشامل في الدنيا وهو الغرق، وسيعذبون في الآخرة، ويعرضون أيضا في البرزخ في القبور على النار صباح مساء.
وهذا كما تقدّم يدلّ على إثبات عذاب القبر، لقوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ما دامت الدنيا. قال جمهور المفسرين: هذه الآية تدلّ على عذاب القبر في الدنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.
ورأى الرازي أن الآية لا تدلّ على عذاب القبر، وإنما ذكر الغدوة والعشية