٥٩ - قال الله تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (٨٨)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أحد، رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرقتين: فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) وقال: إنها طيبة، تنفي الذنوب، كما تنفي النار خبث الفضة).
٢ - أخرج الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف: أن قوماً من العرب أتوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة فأسلموا، وأصابهم وباء المدينة: حُمَّاها فأركسوا، فخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من أصحابه - يعني أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة،
فاجتوينا المدينة. فقالوا: أما لكم في رسول الله أُسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد أورد جمهور المفسرين هذين السببين وأوردوا مع ذلك غيرهما من الأسباب التي سيقت لنزول الآية الكريمة ومن هذه الأسباب ما قال مجاهد - رحمه الله -: (نزلت في قوم خرجوا من أهل مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون فارتدوا واستأذنوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرجوع إلى مكة ليأتوا ببضائع، فاختلف فيهم المؤمنون، ففرقة تقول إنهم منافقون وفرقة تقول هم مؤمنون فبين الله - عَزَّ وَجَلَّ - نفاقهم) اهـ.
وقال الضحاك: (هم ناس تخلفوا عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا: تخلفوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يهاجروا فسماهم الله منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا) اهـ.
هذا خلاصة ما ذُكر في الآية الكريمة من أسباب، ولا بد فيها من تأملٍ ونظر والبداية بحديث زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن الحديث نصٌّ في أن القصة كانت في غزوة أحد وأنها كانت بسبب رجوع رأس المنافقين بثلث الجيش، وإذا نظرتَ إلى مطابقة هذه القصة للآية التي معنا والتي قيل إنها نزلت بسببها
وجدتَ أنه لا تعارض بينهما، لكن الآية التي معنا متصلة بما بعدها اتصالاً وثيقاً، فاللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يقول فيها: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩).
وقد نص جماعة من العلماء على أن الضمير في قوله: (وَدُّوا) يعود على المنافقين، فقد قال الطبري: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا) أي: تمنى هؤلاء المنافقون الذين أنتم أيها المؤمنون فيهم فئتان أن تكفروا) اهـ.
وقال القرطبي: (أي تمنوا أن تكونوا كَهُم في الكفر والنفاق شَرَعٌ سواء) اهـ.
وقال ابن عاشور: (الأظهر أن ضمير (وَدُّوا) عائد إلى المنافقين فى قوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) اهـ.
وإذا كان الأمر كذلك فان الله اشترط لولايتهم أن يهاجروا في سبيل الله في قوله: (فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وأمر بأخذهم وقتلهم حيث وجدوا إن هم تولوا عن الهجرة في قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وهنا ينشأ إشكالات:
الأول: اشتراط الهجرة فإن سبب نزول الآية ليس فيه ذكر الهجرة مطلقاً وإنما فيه التخلف عن الجهاد، ولهذا أوّل ابن العربي الهجرة في سبيل الله هنا بهجر الأهل والولد والمال، والجهاد في سبيل اللَّه.
الثاني: سبب النزول يتحدث عن منافقي المدينة، والآية تتناول الهجرة في سبيل اللَّه وعلى هذا فإلى أيِّ مكان يهاجر منافقو المدينة إذا كانوا هم مقيمين في بلاد الهجرة، ولهذا قال الطبري: (فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيماً من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرض هجرة لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه) اهـ.
الثالث: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر بأخذهم وقتلهم حيث وجدوا إذا تولوا عن الهجرة في سبيله والآية تتحدث عن منافقين كما سلف، ومعلوم لكل من شمَّ رائحة العلم فضلاً عمن ذاقه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يقتل المنافقين أو يأذن في قتلهم مع بشاعة ما صنعوا خشية أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
فبأيّ وجه من الوجوه وافقَ سببُ النزول سياقَ الآيات وطابق؟
وأما حديث عبد الرحمن بن عوف في القوم الذي اجتووا المدينة فخرجوا منها فاختلف الصحابة فيهم فنزلت الآية فالحديث ضعيف كما تقدم فلا يحتج به على السببية.
ثم إن هؤلاء قد هاجروا إلى المدينة، فلا يبقى معنى لقوله: (حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. ).
وعلى هذا فالأمر دائر بين ما ذكره مجاهد والضحاك لموافقته السياق القرآني للآيات وفي الآية الحقائق التالية:
١ - أن هؤلاء منافقون يظهرون الإسلام والإيمان ويبطنون الكفر لقوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) وقوله: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا).
٢ - أن هؤلاء مطالبون بالهجرة في سبيل الله لإثبات إيمانهم، فليسوا من منافقي المدينة في شيء لأنهم غير مطالبين بالهجرة، وسواءٌ كانت هجرتهم من مكة أو غيرها فالآية لم تُعيِّن شيئاً.
٣ - أن هؤلاء المنافقين إن لم يهاجروا في سبيل اللَّه إلى مدينة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاز أخذهم وقتلهم حيث وجدوا.
وما ذكره مجاهد والضحاك يوافق الحقائق السابقة وإن كنت إلى قول مجاهد أَمْيَل لأن اللَّه قال: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) والتعريف بالمنافقين للعهد الذهني أي المعهودون في أذهانكم، وهذا يوافق قول مجاهد: (حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون فارتدوا) فالصحابة يعرفونهم، بخلاف من ذكر الضحاك أنهم مقيمون في مكة.
فإن قال قائل: عجباً من قولك، كيف تأتي إلى حديث يرويه الشيخان نص على أن سبب نزول الآية كذا، ثم تقول ليس هو سببَ نزولها؟
فالجواب: أن القرآن يحْكُم ولا يُحكَم عليه، ولست أطعن في حديث الشيخين ولكني أُضعّف دلالته على النزول، لأن اللَّه قال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) وقال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا قِيلًا) وإذا كان الله قد بيّن صفة من نزلت فيه بيانًا يخالف ما ذكره زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فحتمًا ولا بد أن يكون قولُ ربنا هو المقدم على قول كل أحد.
وهذا القول عليه أكثر المفسرين كالطبري وابن عطية والقرطبي والسعدي وابن عاشور.
أما غيرهم فقد ساق الأسباب وسكت عن الترجيح.
أما ابن العربى فمال إلى حديث زيد بن ثابت، فقال بعد سياق الأسباب: (والصحيح ما رواه زيد) اهـ.
وقال ابن حجر: (هذا هو الصحيح في سبب نزولها) اهـ يعني حديث زيد.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما ذكره مجاهد - رحمه الله - لصحة إسناده إليه وموافقته لسياق الآيات القرآني، وأقوال المفسرين واللَّه أعلم.
* * * * *