
أوصاف المنافقين ومراوغتهم ومحاولتهم تكفير المسلمين وكيفية معاملتهم
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٨ الى ٩١]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)
الإعراب:
فِئَتَيْنِ منصوب على الحال من الكاف والميم في لَكُمْ أي ما لكم في المنافقين مختلفين؟

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ استثناء من الهاء والميم في وَاقْتُلُوهُمْ وهو استثناء موجب.
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ جملة فعلية: إما في موضع جر، صفة لمجرور وهو إِلى قَوْمٍ وإما في موضع نصب لأنها صفة لقوم مقدر تقديره: أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم. والفعل الماضي إذا وقع صفة لمحذوف جاز أن يقع حالا بالإجماع.
لَسَلَّطَهُمْ اللام جواب لَوْ واللام في «لقاتلوكم» : تأكيد لجواب لَوْ في لَسَلَّطَهُمْ لأنها حوذيت بها، وإلا فالمعنى: فسلطهم عليكم فيقاتلوكم، فزيدت للمحاذاة والازدواج: وهي اللام التي تأتي في إثر جواب «لو» ثم تقترن بها لام أخرى، يقصد بها التأكيد.
البلاغة:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ وقوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا: استفهام بمعنى الإنكار.
أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ: فيه طباق.
تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا: جناس مغاير.
المفردات اللغوية:
فِئَتَيْنِ فرقتين أو جماعتين أَرْكَسَهُمْ ردهم إلى الكفر والقتال. والمراد هنا تحولهم إلى الغدر والقتال، بعد أن أظهروا الولاء للمسلمين. أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي تعدوهم من جملة المهتدين. سَبِيلًا طريقا إلى الهدى.
وَدُّوا تمنوا وَلِيًّا نصيرا ومعينا يَصِلُونَ يتصلون بهم أو يلجأون إليهم مِيثاقٌ عهد،
كما عاهد النبي صلّى الله عليه وسلّم هلال بن عويمر الأسلمي
حَصِرَتْ ضاقت عن قتالكم وقتال قومهم السَّلَمَ الصلح أو السلام والاستسلام، أي انقادوا سَبِيلًا طريقا بالأخذ والقتل.
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ بإظهار الإيمان عندكم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ بالكفر إذا رجعوا إليهم، وهم أسد وغطفان الْفِتْنَةِ الشرك أُرْكِسُوا فِيها وقعوا أشد وقوع فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بترك قتالكم فَخُذُوهُمْ بالأسر ثَقِفْتُمُوهُمْ وجدتموهم سُلْطاناً مُبِيناً برهانا بينا أو حجة واضحة على قتلهم وسبيهم لغدرهم.

سبب النزول:
نزول الآية (٨٨) :
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ:
روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ.
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا، فنزلت الآية.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ بن عبادة قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، فقال: من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني؟ فقال سعد بن معاذ: إن كان من الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك، فقام سعد بن عبادة، فقال: يا ابن معاذ: طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولقد عرفت ما هو منك فقام أسيد بن حضير فقال: إنك يا بن عبادة منافق وتحب المنافقين فقام محمد بن مسلمة فقال: اسكتوا يا أيها الناس، فإن فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يأمرنا فننفذ أمره، فأنزل الله:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الآية.
وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فأسلموا، وأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا خرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من الصحابة، فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فأنزل الله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الآية
، لكن

في إسناده تدليس وانقطاع، أي لا يصح الاعتماد على هذه الرواية.
سبب نزول الآية (٩٠) :
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ:
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن البصري أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم، قال: لما ظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، إنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا، ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد خالد، فقال: اذهب معه، فافعل ما يريد، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، وأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ
فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر بن عبد مناف. وأخرج أيضا عن مجاهد أنها نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وكان بينه وبين المسلمين عهد، وقصده ناس من قومه، فكره أن يقاتل المسلمين، وكره أن يقاتل قومه.
المناسبة:
هذه الآيات استمرار في بيان أحوال المنافقين ومواقفهم المخزية، وهي إنكار على المؤمنين في اختلافهم في شأن المنافقين على رأيين، وتقسيمهم فئتين، مع أن كفرهم واضح، فيجب القطع بكفرهم وقتالهم. وقد كانت الآيات السابقة:
٦٠- ٦٣، و٦٤- ٦٨، و٧٢- ٧٣، والآيات اللاحقة ١٤٢- ١٤٣ كلها في مناقشة أعمال المنافقين والتنديد بها وإنكارها.

التفسير والبيان:
يخاطب الله المؤمنين مستنكرا عليهم انقسامهم في شأن كفر المنافقين، مع قيام الأدلة عليه، فما لكم اختلفتم في شأنهم فئتين: فئة تزكيهم وتشهد لهم بالخير، وفئة تطعن بهم وتشهد لهم بالكفر؟ والحال أنهم كافرون، صرفهم الله عن الحق وأوقعهم في الضلال، بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول، واتباعهم الباطل، ومعاداتهم المسلمين وبغضهم والتآمر عليهم، وعدم هجرتهم من مكة إلى المدينة، فكأنهم نكسوا على رءوسهم، وصاروا يمشون على وجوههم، لفساد فطرتهم، كما قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ [الملك ٦٧/ ٢٢]. ومعنى قوله: أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي ردّهم في حكم المشركين كما كانوا بسبب ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين واحتيالهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ.. أي هل تريدون إعادتهم إلى هداية الإسلام مع أنهم ضالون بأنفسهم؟ ومن يكون ضالا عن طريق الحق، فلن تجد له طريقا للعودة إليه، أي لا طريق لهم إلا الهدى ولا مخلص لهم إليه لأن سبيل الحق واضح وهو التزام منهج الفطرة، وهداية العقل الرشيد، والتفكير المجرد غير المتحيز في الخير والشر، والنافع والضار، والحق والباطل.
ثم ذكر الله تعالى موقفا غريبا لهم وهو أنهم يتمنون الضلالة لكم، لتستووا أنتم وإياهم فيها، ليقضى على الإسلام كله، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم، وتماديهم في الكفر، حيث لا يكتفون بضلالهم وكفرهم وغوايتهم، بل يتأملون إضلال غيرهم.
لذا حذر الله المؤمنين من مكائدهم وسعاياتهم هذه، فلا تتخذوا منهم أنصارا يساعدونكم على المشركين الوثنيين، حتى يدل الدليل الواضح على إيمانهم

ويهاجروا إلى المدينة ويتعاونوا بصدق معكم في قضاياكم، فهذا دليل الصدق في الإيمان.
فإن أعرضوا عن الإيمان الظاهر بالهجرة في سبيل الله، ولزموا أماكنهم خارج المدينة، فخذوهم واقتلوهم أنى وجدتموهم في أي مكان وزمان، في الحل أو في الحرم، ولا توالوهم أو تولوهم شيئا من مهام أموركم، ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.
ثم استثنى الله من هؤلاء أحد صنفين:
الأول:
الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين ويلجأون إلى أهل عهدكم بمهادنة أو عقد ذمة، فينضمون إليهم في عهدهم، فاجعلوا حكمهم كحكم المعاهدين. وهذا موافق
لما جاء في صلح الحديبية في صحيح البخاري: «من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم، دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم، دخل فيه».
قال أبو بكر الرازي: إذا عقد الإمام عهدا بينه وبين قوم من الكفار، فلا محالة يدخل فيه من كان في حيزهم ممن ينسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء، بعد أن يكون في حيزهم ومن أهل نصرتهم وأما من كان من قوم آخرين فإنه لا يدخل في العهد ما لم يشرط، ومن شرط من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد المعاهدين، فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك، كما دخلت بنو كنانة في عهد قريش «١».
الثاني:
المحايدين: الذين جاءوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم وأبغضوا أن

يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم ولا عليكم، وهم بتعبير العصر: المحايدون، فهم لا يقاتلون المسلمين بمقتضى العهد، ولا يقاتلون قومهم، حفاظا على أصل الرابطة العرقية أو الجنسية معهم، فهم قومهم، وهم بذلك معذورون.
وكلا الفريقين يعاملون بقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة ٢/ ١٩٠].
وكان من رحمة الله ولطفه بكم أن سالموكم وكفّ بأس هذين الفريقين عنكم، ولو شاء الله لسلطهم عليكم بأن يلهمهم القتال فيقاتلوكم.
فإن اعتزلكم هؤلاء وأمثالهم فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم المسالمة، فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك. وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين، فحضروا القتال، وهم كارهون، كالعباس ونحوه، ولهذا
نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره.
قال الزمخشري: فقرر أن كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض عنهم وترك الإيقاع بهم.
ثم بيّن الله تعالى حكم جماعة أخرى موافقة في الظاهر للفئة السابقة، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم (النساء والصبيان) ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون، ليكونوا في أمان من المسلمين، وهم في الباطن مع الكفار «١»، كما قال تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة ٢/ ١٤] وقال هاهنا: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها أي كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين، أركسوا فيها، أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وانهمكوا فيها، وكانوا شرا فيها من كل عدو، كما قال

الزمخشري «١»، وقال السدي: الفتنة هاهنا الشرك، أي كلما دعوا إلى الشرك تحولوا إليه أقبح تحول، فهم قد مردوا على النفاق. حكى ابن جرير: أنها نزلت في قوم هم بنو أسد وغطفان، وقيل: غيرهم.
وحكمهم أنه إن لم يعتزلوكم، ويسالموكم، ويقفوا على الحياد، ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين، فخذوهم أسراء، واقتلوهم حيث لقيتموهم، وأولئكم جعلنا لكم عليهم حجة واضحة، أو برهانا بيّنا واضحا على قتالهم، لظهور عداوتهم.
وهذا كله تأكيد لحرص الإسلام على السلم والأمن والعهد والصلح، قال الرازي: قال الأكثرون: وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا، وطلبوا الصلح منا، وكفوا أيديهم عن قتالنا، لم يجز لنا قتالهم وقتلهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أحكام كثيرة هي:
١- وضوح موقف الإسلام من المنافقين: وهو الحكم عليهم بالكفر وجواز قتلهم، فلا يصح الانقسام في الحكم عليهم فرقتين مختلفتين، ما دامت أدلة كفرهم واضحة للعيان. والمنافقون الذين نزلت الآية في شأنهم: هم عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا كما تقدم في «آل عمران» وقال ابن عباس: هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة. قال الضحاك: وقالوا: إن ظهر محمد فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا.
فصار المسلمون فيهم فئتين: قوم يتولّونهم، وقوم يتبرءون منهم فقال الله عز وجل: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ؟

٢- تمنيهم أن يكونوا مع المسلمين في الكفر والنفاق على سواء: فأمر الله تعالى بالبراءة منهم، فقال: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا وقال أيضا: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال ٨/ ٧٢].
والهجرة أنواع:
منها- الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت هذه واجبة أول الإسلام، حتى
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: «لا هجرة بعد فتح مكة».
ومنها- هجرة المنافقين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغزوات.
وهجرة من أسلم في دار الحرب، فإنها واجبة.
وهجرة المسلم ما حرّم الله عليه كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمرو: «والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه» أو: «من هجر ما حرم الله عليه».
وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن.
وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم، فلا يكلّمون ولا يخالطون حتى يتوبوا
كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع كعب بن مالك وصاحبيه.
٣- أسر المنافقين وقتلهم: قال الله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ أي إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم في مختلف الأماكن من حلّ وحرم.
٤- تحريم قتال وقتل المنضمين إلى المعاهدين الذين تعاهدوا مع المسلمين، وكذا المحايدين الذين وقفوا على الحياد، فلم يقاتلوا المسلمين ولم يقاتلوا قومهم.
٥- دلت الآية إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ على مشروعية الموادعة (الهدنة) بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين.

٦- لله أن يفعل ما يشاء، ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء.
وتسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين: هو بأن يقدرهم على ذلك ويقوّيهم، إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارا، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد ٤٧/ ٣١] وإما تمحيصا للذنوب، كما قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران ٣/ ١٤١].
٧- مسالمة الانتهازيين الذين يظهرون الإيمان، ولكنهم مستعدون للعودة إلى الشرك وهم المذكورون في قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ... الآية.
قال قتادة: نزلت في قوم من تهامة طلبوا الأمان من النبي صلّى الله عليه وسلّم ليأمنوا عنده وعند قومهم.
وقال مجاهد: هي في قوم من أهل مكة.
وقال السدّي: نزلت في نعيم بن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين.
وقال الحسن البصري: هذا في قوم من المنافقين.
وقيل: نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة، فأسلموا، ثم رجعوا إلى ديارهم، فأظهروا الكفر.
وانتهازيتهم واضحة في قوله تعالى: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ومعنى أُرْكِسُوا: انتكسوا عن عهدهم الذي عاهدوا، وقيل: إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه.