قال: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، فظاهر الآية يقتضي أنه لا يجوز الاقتصار على قوله وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ.
السَّادِسُ: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجْهَرُ بِالرَّدِّ يَعْنِي الْجَهْرَ الْكَثِيرَ. السَّابِعُ: إِنْ سَلَّمَتِ الْمَرْأَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ عَلَيْهِ وَكَانَ يَخَافُ فِي رَدِّ الْجَوَابِ عَلَيْهَا تُهْمَةً أَوْ فِتْنَةً لَمْ يَجِبِ الرَّدُّ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ.
الثَّامِنُ: حَيْثُ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يُسَلِّمُ، فَلَوْ سَلَّمَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الرَّدُّ، لِأَنَّهُ أَتَى بِفِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَكَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ التَّحِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ صَارَ كِنَايَةً عَنِ الْإِكْرَامِ، فَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ التَّحِيَّةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: مَنْ وَهَبَ لِغَيْرِ ذِي رَحِمِ مُحَرَّمٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، فَإِذَا أُثِيبَ مِنْهَا فَلَا رُجُوعَ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَهُ الرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها يَدْخُلُ فِيهِ التَّسْلِيمُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْهِبَةُ، وَمُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الرَّدِّ إِذَا لَمْ يَصِرْ مُقَابِلًا بِالْأَحْسَنِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْوُجُوبُ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْجَوَازِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا الْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، بِدَلِيلٍ أَنَّهُ لَوْ أُثِيبَ بِمَا هو أقل منه سقطت منكة الرَّدِّ بِالْإِجْمَاعِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَحْسَنِ، ثُمَّ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلِهِ بِمَا
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ»
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ هِبَةَ الْأَجْنَبِيِّ يَحْرُمُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَهِبَةَ الْوَلَدِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْحَسِيبِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ عَلَى الْعَمَلِ، كَالْأَكِيلِ وَالشَّرِيبِ وَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى الْمُؤَاكِلِ وَالْمُشَارِبِ وَالْمُجَالِسِ. الثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْكَافِي فِي قَوْلِهِمْ: حَسْبِي كَذَا أَيْ كَافِيَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَسْبِيَ اللَّهُ [التَّوْبَةِ: ١٢٩، الزمر: ٣٨].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْوَعِيدُ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، / ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمُسْلِمَ مَا كَانَ يَتَفَحَّصُ عَنْ حَالِهِ، بَلْ رُبَّمَا قَتَلَهُ طَمَعًا فِي سَلَبِهِ، فاللَّه تَعَالَى زَجَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَتَعَرَّضُوا لَهُ بِالْقَتْلِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً أَيْ هُوَ مُحَاسِبُكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَكَافِي فِي إِيصَالِ جَزَاءِ أَعْمَالِكُمْ إِلَيْكُمْ فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِحِفْظِ الدِّمَاءِ والمنع من إهدارها ثم قال تعالى:
[سورة النساء (٤) : آية ٨٧]
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إن لَا يَصِيرَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ مَقْتُولًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً
ثُمَّ بَالَغَ فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ مُتَلَازِمَانِ، فَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقَوْلُهُ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدْلِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨] وَكَقَوْلِهِ فِي طه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: ١٥] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدْلِ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَجْمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي عَرَصَةِ الْقِيَامَةِ فَيَنْتَصِفَ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ. الثَّانِي: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكُمْ وَحَيَّاكُمْ فَاقْبَلُوا سَلَامَهُ وَأَكْرِمُوهُ وَعَامِلُوهُ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْبَوَاطِنَ إِنَّمَا يَعْرِفُهَا اللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّمَا تَنْكَشِفُ بَوَاطِنُ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِمَّا خَبَرٌ للمبتدأ، وإما اعتراض والخبر لَيَجْمَعَنَّكُمْ واللام لا من الْقَسَمِ، وَالتَّقْدِيرُ: واللَّه لَيَجْمَعَنَّكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي الْمَوْتِ أَوِ الْقُبُورِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الثَّانِي: التَّقْدِيرُ:
لَيَضُمَّنَّكُمْ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَجْمَعُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ بِأَنْ يَجْمَعَكُمْ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ قِيَامَةً لِأَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ لِلْحِسَابِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: ٦] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْقِيَامُ الْقِيَامَةُ، كَالطِّلَابِ وَالطِّلَابَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ أَنَّ الْقِيَامَةَ سَتُوجَدُ لَا مَحَالَةَ، وَجَعَلَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ مُجَرَّدَ إِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، وَهَذَا حَقٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسَائِلَ الْأُصُولِيَّةَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ مِثْلُ عِلْمِنَا بِافْتِقَارِ الْعَالَمِ إِلَى صَانِعٍ عَالِمٍ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٍ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَإِنَّا مَا لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُنَا الْعِلْمُ بِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ هَذَا شَأْنُهَا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُهَا بِالْقُرْآنِ وَإِخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِلَّا وَقَعَ الدَّوْرُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ جُمْلَةُ الْمَسَائِلَ الَّتِي لَا يَتَوَقَّفُ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ عَلَى الْعِلْمِ بِصِحَّتِهَا فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِكَلَامِ اللَّه وَإِخْبَارِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيَامَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ، فَلَا جَرَمَ أَمْكَنَ إِثْبَاتُهُ بِالْقُرْآنِ وَبِكَلَامِ اللَّه، فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ بِإِخْبَارِ اللَّه عَنْهُ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُ يَجِبُ كَوْنُهُ تَعَالَى صَادِقًا وَأَنَّ الْكَذِبَ وَالْخُلْفَ فِي قَوْلِهِ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكَوْنِ الْكَذِبِ قَبِيحًا، وَعَالَمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكْذِبَ. إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ عَالِمٌ بِقُبْحِ الْكَذِبِ، وَعَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ لِأَنَّ الْكَذِبَ قَبِيحٌ لِكَوْنِهِ كَذِبًا، واللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى شَيْءٍ أَصْلًا، وَثَبَتَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِهَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا أن كل من كان كذلك استحال