الرَّسُولَ»
محمدا أيها الناس «فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى» عن طاعتك «فَما أَرْسَلْناكَ» يا صفوة الخلق «عَلَيْهِمْ» أي منكري رسالتك «حَفِيظاً» (٨٠) تمنعهم من أن يقولوا ما يشاؤن ولا رقيبا على أعمالهم فتحاسبهم عليها ولا مسيطرا فتعاقبهم من أجلها، لأن هذا كله لله وحده
«وَيَقُولُونَ» هؤلاء المنافقون أأمرنا يا محمد فشأننا «طاعَةٌ» لك لأننا آمنا بك وصدقناك، ففضحهم الله بقوله اعلاما لرسوله «فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ» إلى شأنهم «بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ» أي تلك الطائفة التي قالت طاعة أو غير الذي عهدته إليهم والتبيّت كل أمر يفعل بالليل أي يرتب فيه، فيقال هذا أمر دبر بليل، أو بيت أو قضى به فيه، أي أنهم قد دبّروا ليلا غير الأمر الذي أعطوكه نهارا. وقيل إن بيت هنا بمعنى غيّر وبدّل الأمر الذي عهدته إليهم، وإنما خص طائفة من المنافقين إعلاما بأن منهم من يرجع عن نفاقه ويتوب إلى الله «وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ» ويخبرك به يا سيد الرسل لنذكرهم به كي ينتهوا عن مثله «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» الآن، ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم، ولا تغتر بإسلامهم أبدا، ولا تعتمد على أحد منهم «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (٨١) عليهم يخبرك بأسرارهم. قال تعالى تعجيبا لنا من أمرهم بعد أن عجب رسوله المرة الخامسة «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» فيقهمون معانيه ويتفكرون في مغازيه، فيفقهون المراد منه، ويعون ما يرمي إليهم، وفي هذا ردّ على الروافض القائلين إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير من الرسول والإمام المعصوم لأنه لو كان كذلك لما وبخ الله هؤلاء على عدم فهمهم ما يشير إليه، ولأحالهم على رسوله وأولي العلم ونظير هذه الآية الآية ٢٥ من سورة محمد الآتية. واعلم أن هذا التدبر الوارد في صدر هذه الآية بكون من ثلاثة أوجه: الأول في فصاحته التي عجز عنها الخلائق أجمع بأن يأنوا بمثلها، الثاني إخباره عن الغيوب الصادرة من المنافقين وغيرهم إذ أطلع الله نبيه عليها وفضحهم فيما يخفون فضلا عن اخباره عن الأولين والآخرين مما لا يعلمه إلا الله، الثالث سلامته من الاختلاف والتناقض وهو المراد من قوله جل قوله «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ» من جن أو أنس أو ملك
أو كلهم بالاشتراك «لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (٨٢) وتفاوتا جزيلا وتناقضا عظيما من حيث الشرك والتوحيد والتحليل والتحريم والبيان والفصاحة والبلاغة لعظمه وتكرر آياته ولكنه من عند الله، لذلك لا يرى فيه شيئا من ذلك البتة فضلا عن أنه بالعا الغاية من حيث المبنى والمعنى، ولهذا احتج فيه على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم والإخبار بالغيوب لسلامته من الاختلاف والتناقض، وإن كلام الغير مهما كان فلم يكن على وتيرة واحدة بالفصاحة والبلاغة وتصديق بعضه لبعض، لأن منه ما هو فائق حد الاعجاز باللفظ، ومنه ما هو قاصر عنه، ومن حيث المعاني فبعضه إخبار يوافق المخبر عنه، وبعضه إخبار مخالف للمخبر عنه، وقسم منه دال على معنى صحيح عند علماء المعاني، وقسم منه دال على معنى فاسد غير ملتئم. أما ما قاله بعض الملحدين من وجود الاختلاف في القرآن العظيم محتجا في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية ٢٤ من سورة القيمة في ج ١، وقوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) الآية ١٠٤ من سورة الأنعام ج ٢ وقوله تعالى (ثُعْبانٌ) في الآية ١٠٧ من سورة الأعراف مع قوله (جَانٌّ) في الآية ١١ من سورة النحل ج ١ وفي قوله (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) في الآية ٩٣ من سورة الحجر ج ٢ مع قوله (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» في الآية ٤٠ من سورة الرحمن الآتية. فما هو لفظا ومعنى يراه الجاهل مخالفا وهو في الأصل واحد كما بينا ذلك كلا في محله، فليرجع إليه في تفسير تلك الآيات ليعلم أن الاختلاف من مفترياته والتناقض من عاداته، والتباين من فهمه السقيم، وما قوله إلا بهت محض ناشيء عن خلل في عقله، وعمه في بصيرته، راجع الآية ٧ من آل عمران المارة. هذا ومن هذا القبيل الذي تقوّل به المنقولون الذين أذهب الله مفكّرتهم وطمس على قلوبهم ما قاله الكفرة قديما ومن حذا حذوهم بعد إن هذا القرآن من كلام محمد صلّى الله عليه وسلم! ومن أين لمحمد أن يأتي بمثله وقد تحدى الله الخلق أجمع على الإتيان بسورة من مثله؟ لأن ظاهر كلامه وباطنه لا يضاهي قول البشر من كل وجه، ولا كلام محمد على ما هو عليه من الفصاحة والبلاغة يشبه كلام ربه.
قال تعالى «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ» من خبر السرايا المبعوثة من قبل
حضرة الرسول كفتح وغنيمة وسلامة كتموه، لأنه لم يرق لهم التحدث به لما في قلوبهم من الغلّ والحقد والحسد «أَوِ الْخَوْفِ» من خبر خذلان السرايا وقتلهم أو هزيمتهم «أَذاعُوا بِهِ» أفشوه علنا حالا وأشاعوه بين الناس بقصد المفسدة وتثبط الناس وتفنيد ما يدبره القائد الأعظم لأمور جيشه. وظاهر الآية أنهم يذيعون الخير والشر، وعليه يكون المعنى أنهم يقصدون بإذاعة الخير كالنصر والغنيمة تهيج الناس ضد أصحاب الرسول بما يتقولونه من أنهم فعلوا بأقاربكم وجماعاتكم من القتل والسبي والجلاء ما فعلوا ليفزعوا لهم على أصحاب رسول الله وإن كان شرا من هزيمة أو قتل فإنهم يقصدون بإذاعته إلقاء الرعب والأراجيف في قلوب أقارب الغزاة وتعلقاتهم ليوقعوا اللوم على حضرة الرسول بإرسالهم، فعابهم الله قاتلهم الله على ذلك وكلهم عيب «وَلَوْ رَدُّوهُ» أي الخبر المتعلق بالسرايا على علاته «إِلَى الرَّسُولِ» الذي هو وحده له الحق بكتمانه وإذاعته «وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ» من كبراء الأصحاب البصراء بالأمور الخبراء بعواقبها «لَعَلِمَهُ» أي علم التدبير فيما أخبروا به «الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» يستخرجون بذكائهم وحدة فطنتهم وتجاربهم وخبرتهم بأمور الحرب ومكايدها ما يجب أن يدبروه، لأن الأعداء بالمرصاد لهكذا أخبار فيتدار كون ما أخبروا به، وكان عليهم إذا سئوا أو أخبروا بما يتعلق في هذا الشأن ألّا يجيبوا عنه سلبا ولا إيجابا، بل عليهم بأن يفوضوا أمر الجواب إلى الرسول ووزرائه، ويجعلوا أنفسهم كأن لم يسمعوا بشيء، إذ قد لا يوافق إفشاء خبر الإنتصار أحيانا لما يخاف من نجدة الأعداء والتطويق، كما لا يوافق بيان خبر الخذلان بتاتا لما فيه من كسر القوة المعنوية. ويجب دائما التقيد بالأمرين واستعمال المعاريض في الكلام والثوري وإعطاء الجواب على خلاف السؤال من حيث المعنى، وغير ذلك مما يعرفه المحنكون للأمور الخائضون غمارها، لأن الحرب لها أبواب وعلوم غير العلوم الأخرى، والسّبط هو الماء الذي يخرج من البئر أول حفره واستنباطه استخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل جودة ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل عليه. وفي هذه الآية دليل على جواز القياس لأن من العلم ما يدرك بالنصّ وهو الكتاب والسنة، ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس
صفحة رقم 584وعلى الأول يكون في الآية الحذف من الأول بدلالة الثاني أي وجود المحذوف فيه وهو كلمة (أَذاعُوا بِهِ) وهذا الخوف من محسنات البديع في الكلام، وقد يكون على العكس كما في الآية ٣٠ من آل عمران المارة، وشاهد الأول قوله:
نحن بما عندنا وأنت بما | عندك راض والرأي مختلف |
رماني بأمر كنت منه ووالدي | بريا ومن أجل الهوى رماني |
ومن يك أمسى بالمدينة رحله | فإنّي وقيار بها لغريب |
مطلب أمر حضرة الرسول بالقتال والآية المبشرة إلى واقعة أحد وبدر الصغرى والشفاعة والرجاء ومشروعية السلام ورده:
قال تعالى «فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يا رسولي «لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ» والله ناصرك ومؤيدك ولو كنت وحدك «وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ» على القتال معك جهادا في سبيلي، ولا تقسرهم وتعنفهم عليه فمن شاء فليقاتل معك من تلقاء نفسه، ومن شاء فليتخلّف حتى يكون رائدهم عن طيب قلب وخلوص نية ورغبة في نصرة دين الله وإعلاء كلمته وخذلان أعدائه. وهذه الآية تشير إلى ما ذكرناه في الآية ١٧٣ من آل عمران المارة من أن أبا سفيان عند انصرافه من وقعة أحد واعد النبي صلّى الله عليه وسلم موسم بدر الصغرى كما أوضحناه هناك. وسبب كراهة بعض أصحاب الرسول الخروج معه إلى بدر الصغرى هو ما ألقاه في قلوبهم رسول أبي سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي من الأراجيف التي ذكرناها هناك، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأخرجنّ لهم ولو وحدي. فتبعه الشجاع وتخلف الجبان وعادوا رابحين دون أن يقع قتال لتخلف أبي سفيان وقومه عن الميعاد، وقد أشار الله لهذه الحادثة في هذه الآية الكريمة بقوله جل قوله «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ صفحة رقم 585
بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا»
بأن يدفع بطشهم وشدتهم، وقد فعل حيث ألقى في قلوبهم الرعب، ورجعوا من الطريق «وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً» منهم وأعظم صولة وأكبر جولة «وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا» (٨٤) عذابا وعقوبة من غيره. قال تعالى «مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها» حظ وافر له منها في الدنيا من ثناء الناس عليه وضرب المثل به، وفي الآخرة الثواب العظيم والأمر الجسيم عند الله «وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها» نصيب مضاعف وهو مذمة الناس عليها في الدنيا، وضرب المثل بسوء فعله، وفي الآخرة عقاب الله وعذابه. وهذه الآية لها ارتباط بما قبلها بان يكون صدرها عائد لحضرة الرسول من أجل تحريض قومه على الجهاد، لأن له فيه حظا وافرا لما فيه من سعادة قومه ورضاء الله وعجزها لرسول أبي سفيان لما في كلماته التي فاه بها بين أصحاب الرسول المبينة في الآية المذكورة من آل عمران من الوزر العظيم له عند الله والغضب من حضرة الرسول وأصحابه في الدنيا. وهي عامة المعنى لتصدرها بمن الدالة على العموم «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً» (٨٥) مقتدرا من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه، قال الشاعر:
وذي ضغن كففت الشر عنه | وكنت على إساءته مقيتا |
لعمرك ان البخل بالمال شنعة | وبخلك بين الناس بالجاه أشنع |
فأحسن إذا أوتيت جاها فإنه | سحابة صيف عن قليل تقشع |
وكن شافعا ما كنت في الدهر قادرا | فخير زمان المرء ما فيه يشفع |
لله درّ النائبات فإنها | صدأ اللئام وصيقل الأحرار |
واشدد يديك بحبل الله معتصما | فإنه الركن إن خانتك أركان |
من يتق الله يحمد في عواقبه | ويكفه شرّ من عزّوا ومن هانوا |
من استعان بغير الله في طلب | فإن ناصره عجز وخذلان |
ألا موت يباع فأشتريه | فهذا العيش مما لا خير فيه |
ألا رحم المهيمن نفس حر | تصدق بالممات على أخيه |
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلّوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام. هذا ويستحب أن يقول السلام عليكم سواء كان المسلم عليه واحدا أو جماعة، وأن يزيد المجيب فيقول وعليكم السلام ورحمة الله، ويرفع كل منهما صوته بحيث يسمع صاحبه، ولا يزيد على وبركاته شيئا، لأن كمال صيغة السلام تنتهي بها، وأن لا يؤخر الردّ، بل يجيبه فورا. وسنة السلام وواجبه على الكفاية إذا قام بها واحد سقط عن الآخرين وإلّا عوتبوا جميعا وأثموا. وكذلك تشميت العاطس سنة كفاية إذا سمع قوله الحمد لله وإلا فليس على السّامع تشميته. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يسلّم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير وفي رواية والصغير على الكبير، والمار على القاعد. وهذه آداب السلام، ومنها ما روي عن أبي أمامة الباهلي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أولى الناس لله عز وجل من بدأهم بالسّلام- أخرجه أبو داود- وما رواه أنس أنه مر على صبيان صفحة رقم 588
فسلم عليهم، قال وكان صلّى الله عليه وسلم يفعله- أخرجاه في الصحيحين- ويجوز السلام على النساء إذا لم يخش المسلم فتنة أو تهمة، لما روي عن أسماء بنت يزيد قالت مرّ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا- أخرجه أبو داود- والمرأة الشابة الأجنبية لها أن لا ترد السلام على من سلّم عليها لأنه لا يستحق الردّ لما ذكرنا من خشية الفتنة أو التهمة، هذا إذا كانت وحدها أما إذا كانت في جماعة من النساء فلا بأس بالرد كما لابأس بالسلام لنفي الريبة والشك، أما العجوز ففي الحالتين تردّ السلام، والنساء يسلمن بعضهن على بعض فرادى وجماعات على الترتيب الجاري بين الرجال، ولا يسلّم على قارئ ونائم ومتوضئ وخطيب ومن يسمع الخطبة ومن يصغي لتلاوة القرآن ومن يطالع الفقه أو يدرسه والقاضي إذا كان على كرسيّه والمصلي والمؤذن ومقيم الصلاة احتراما لما يفعلون لأنه يؤدي إلى قطع ما هم فيه، ولذلك إذا لم يردّوا السلام فلا اثم عليهم، ولا يسلم على لاعب النرد والشطرنج وسائر الملاهي الممنوعة شرعا وكل متلبّس بمعصية أو قائم بشيء مكروه كالمغني والراقصة وملاعب الحمام ومن يدقّ بالعود والربابة وشبهها، ولا يسلم على كاشف عورته لأن السلام عليه يقتضي النظر إليه وهو حرام فضلا عن أنه فاسق والفساق على اختلافهم لا يسلم عليهم إذا علم فسقهم إهانة لهم، ولا يسلم على من يأكل ويشرب لئلا يسبب له الغصة، ولا على جالس لحاجته، ومن هو في الحمام ومن هو مشهور بالبدع والظلم، وإن لم يطلع عليهم هو انا بهم، ويسلم على النصارى واليهود ويرد عليهم إذا سلموا عليه، روي عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرّ على مجلس فيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلم عليهم، ولما جاء في الحديث الصحيح لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وأن لنا بعضنا على بعض السلام، ولهم كذلك ويبدأ الأعمى بالسلام مطلقا لأنه معذور، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ترك السلام على الأعمى خيانة، أي في حقه الإسلامي. قال تعالى «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» (٨٧) هذا استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد أصدق من الله، وقد أقسم جل قسمه في هذه الآية لمنكري البعث أنه جامعهم في ذلك اليوم الذي يجحدونه، ألا فليحذروا من
صفحة رقم 589
الإصرار على إنكاره وليبادروا للتوبة والاستغفار قبل حلوله، قال تعالى «فَما لَكُمْ» أيها الناس المؤمنون اختلفتم «فِي الْمُنافِقِينَ» وتفرقت كلمتكم في كفرهم بعد أن أعلنوا نفاقهم حتى صرتم من أجلهم «فِئَتَيْنِ» نزلت هذه الآية في أناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا، ثم ندموا على إسلامهم فخرجوا من المدينة كهيئة المتنزهين، فلما بعدوا عنها كتبوا إلى رسول الله إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان، ولكنا اجترينا المدينة أي كرهناها واشتقنا إلى أرضنا، ثم أنهم خرجوا في تجارة إلى الشام
فبلغ ذلك المسلمين فقال بعضهم نخرج إليهم ونقتلهم، وقال بعضهم كيف نقتلهم وقد أسلموا وكان رسول الله ساكنا يسمع كلامهم ولا ينهي أحدا منهم، فبين الله لهم حالتهم، أي لم صرتم فريقين في القول بكفرهم «وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ» ردّهم إلى حكم الكفار لاختيارهم دار الكفر على دار الإيمان وصحة الكفرة وتكثير سوادهم على صحبة الرسول وأصحابه، ولذلك غصّهم بالكفر وهذا هو معنى الإركاس «بِما كَسَبُوا» بسبب إظهارهم الارتداد بين قومهم سرا وعلنا واتصافهم بالإسلام ظاهرا مع إبطان الكفر، لأن من يبطن الكفر ويظهر الإسلام أشد ضررا على المسلمين من معاني الكفر، لأنه كفر وغش وخداع وإنما أولنا اركس بمعنى ردّ بناء على ما رواه الضحاك عن ابن عباس، واستدل عليه بقول أمية بن الصلت:
فاركسوا في جحيم النار انهموا | كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا |
واركستني عن طريق الهدى | وصيّرتني مثلا للعدى |
مِنْهُمْ أَوْلِياءَ»
فتميلوا إليهم وتدافعوا عنهم «حَتَّى يُهاجِرُوا» من دار الكفرة مرة ثانية هجرة صحيحة «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ولأجله خاصّة لا لغرض أو عوض ويؤمنوا إيمانا حقيقيا «فَإِنْ تَوَلَّوْا» على ما هم عليه واستمروا على اعراضهم فلم يهاجروا ثانيا حال كونهم نادمين على ما وقع منهم مستغفرين من فعلهم ذلك تائبين توبة نصوحا.
مطلب من يقتل ومن لا يقتل ومن يلزمة الكفارة للقتل ومن لا وما هو يلزم القاتل وأنواع القتل:
وإلا فإن بقوا مصرين على بقاء إيثار دار الكفر ولم يهاجروا ويجددوا إيمانهم «فَخُذُوهُمْ» إذا ظفرتم بهم قبل إعلان إيمانهم عن صدق «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» في الحل أو الحرم أو الأشهر الحرم «وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (٨٩) على أعدائكم وإن بذلوا لكم ولايتهم ونصرتهم فلا تصدقوهم فهم أعداء لا يعتمد عليهم. ثم استثنى طائفين من القتل بين الأولى بقوله «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ» وينتهون «إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» بأن عاهدوكم عليهم ولم يحاربوكم بعد هذا العهد وهم بنو أسلم لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة وادع هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه وعلى أن من وصل إليه من قومه أو غيرهم ولجأ إليه فلهم الجوار مثل ما لهلال. وما قيل انهم بنو بكر أو خزيمة فالمعنى واحد، لأن الآية عامة ومن كان داخلا في العهد، وهؤلاء من أولئك، فإذا لحق هؤلاء بهم وصاروا معهم فقد عصموا دماءهم تبعا لمن لجأوا إليهم، وهذه غاية في المحافظة على العهد ونهاية في احترام المعاهدين. والطائفة الثانية هي المذكورة في قوله تعالى «أَوْ» الذين «جاؤُكُمْ» على كفرهم لاجئين لبلدكم «حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» وضاقت مذاهبهم كافين عن «أَنْ يُقاتِلُوكُمْ» مع قومهم «أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ» معكم فهؤلاء لا سبيل لكم على قتالهم لأنهم دخلاء «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ» ولكنه القى في قلوبهم الرعب وضيق صدورهم وبلادهم عليهم حتى لجأوا إليكم وهذا من جملة أفضاله عليكم ونصرته لكم