الوجه وجهك، وحسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى.
وفي الصحاح يقال: حسن الشيء وإن شئت خففت الضمة فقلت: حسن الشيء، ولا يجوز أن تنقل الضمة إلى الحاء لأنه خبر، وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح أو الذم لأنه يشبه في جواز النقل بنعم وبئس، وذلك أن الأصل فيهما نعم وبئس فسكن ثانيهما، ونقلت حركته إلى ما قبله وكذلك كل ما كان في معناهما قال الشاعر:
لم يمنع الناس مني ما أردت وما | أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا |
وقيل: وكفى به سبحانه عليما بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين، ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح. صفحة رقم 76
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ أي عدتكم من السلاح- قاله مقاتل- وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، وقيل: الحذر مصدر كالحذر، وهو الاحتراز عما يخاف فهناك الكناية والتخييل بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية، وليس الأخذ مجازا ليلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في قوله سبحانه: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء: ١٠٢] إذ التجوز في الإيقاع، وقد صرح المحققون بجواز الجمع فيه، والمعنى استعدوا لأعدائكم أو تيقظوا واحترزوا منهم ولا تمكنوهم من أنفسكم فَانْفِرُوا بكسر الفاء، وقرىء بضمها أي اخرجوا إلى قتال عدوكم والجهاد معه عند خروجكم، وأصل معنى النفر الفزع كالنفرة، ثم استعمل فيما ذكر ثُباتٍ جمع- ثبة- وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة، وقيل: فوق الاثنين، وقد تطلق على غير الرجال، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
فأما يوم خشيتنا عليهم | فتصبح خيلنا عصبا ثباتا |
الشروط جبرا له، وفي ثائه حينئذ لغتان: الضم والكسر، والجمع هنا في موضع الحال أي انفروا جماعات متفرقة جماعة بعد جماعة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي مجتمعين جماعة واحدة، ويسمى الجيش إذا اجتمع ولم ينتشر كتيبة، وللقطعة المنتخبة المقتطعة منه سرية، وعن بعضهم أنها التي تخرج ليلا وتعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة، أو من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة وأربعمائة، وما زاد على السرية- منسر- كمجلس ومنبر إلى الثمانمائة فإن زاد يقال له:
جيش إلى أربعة آلاف، فإن زاد يسمى- جحفلا- ويسمى الجيش العظيم- خميسا- وما افترق من السرية- بعثا- وقد تطلق السرية على مطلق الجماعة، والآية وإن نزلت في الحرب لكن فيها إشارة إلى الحث على المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي ليتثاقلن وليتأخرنّ عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ كعتم بمعنى أعتم إذا أبطأ، والخطاب لعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤمنيهم ومنافقيهم والمبطئون هم المنافقون منهم، وجوز أن يكون منقولا لفظا ومعنى من بطؤ نحو ثقل من ثقل، فيراد لَيُبَطِّئَنَّ غيره وليثبطنه عن الجهاد كما ثبط ابن أبيّ ناسا يوم أحد، والأنسب (١) بما بعده، واللام الأولى لام التأكيد التي تدخل على خبر إن أو اسمها إذا تأخر، والثانية جواب قسم، وقيل: زائدة، وجملة القسم وجوابه صلة الموصول وهما كشيء واحد فلا يرد أنه لا رابطة في جملة القسم كما لا يرد أنها إنشائية فلا تقع صلة لأن المقصود الجواب، وهو خبري فيه عائد، ولا يحتاج إلى تقدير أقسم على صيغة الماضي ليعود ضميره إلى المبطئ بل هو خلاف الظاهر.
وجوز في- من- أن تكون موصوفة والكلام في الصفة كالكلام في الصلة، وهذه الجملة قيل: عطف على خُذُوا حِذْرَكُمْ عطف القصة على القصة وقيل: إنها معترضة إلى قوله سبحانه فَلْيُقاتِلْ وهو عطف على خُذُوا، وقرىء «ليبطئن»، بالتخفيف فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من العدو كقتل وهزيمة قالَ أي- المبطئ- فرحا بما فعل وحامدا لرأيه قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بالقعود إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً حاضرا معهم في المعركة فيصيبني مثل الذي أصابهم من البلاء والشدة، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى إذ لم أكن مع شهدائهم شهيدا، أو لم أكن معهم في معرض الشهادة، فالإنعام هو النجاة عن القتل وخوفه عبر عنه بالشهادة تهكما ولا يخفى بعده، والفاء في الشرطية لترتيب مضمونها على ما قبلها فإن ذكر التبطئة مستتبع لذكر ما يترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعية لشيء ينتظر المبطئ وقوعه وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ كفتح وغنيمة مِنَ اللَّهِ
متعلق بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل، وفي نسبة إصابة الفضل إلى جانب الله تعالى دون إصابة المصيبة تعليم لحسن الأدب مع الله تعالى وإن كانت المصيبة فضلا في الحقيقة، وتقديم الشرطية الأولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق، وأثر نفاقهم فيها أظهر لَيَقُولَنَّ ندامة على تثبطه وتهالكا على حطام الدنيا وحسرة على فواته، وفي تأكيد القول دلالة على فرط التحسر المفهوم من الكلام ولم يؤكد القول الأول، وأتى به ماضيا إما لأنه لتحققه غير محتاج إلى التأكيد أو لأن العدول عن المضارع للماضي تأكيد، وقرأ الحسن ليقولن: بضم اللام مراعاة لمعنى مِنَ وذلك شائع سائغ.
وقوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ من كلامه تعالى اعتراض بين القول ومقوله الذي هو يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً لئلا يتوهم من مطلع كلامه أن تمنيه المعية للنصرة والمظاهرة حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحرص على حطام الدنيا كما ينطق به آخره فإن الفوز العظيم الذي عناه هو ذلك، وليس إثبات المودة في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم، وقيل: الجملة التشبيهية حال من ضمير يقولن، أي ليقولن:
مشبها بمن لا مودة بينكم وبينه حيث لم يتمن نصرتكم ومظاهرتكم، وقيل: هي من كلام المبطئ داخلة كجملة التمني في المقول أي ليقولن المبطئ لمن يثبطه من المنافقين وضعفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمد صلّى الله عليه وسلّم مودة حيث لم يستصحبكم معه في الغزو حتى تفوزوا بما فاز به المستصحبون يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ إلخ، وغرضه إلقاء العداوة بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتأكيدها، وإلى ذلك ذهب الجبائي، وذهب أبو علي الفارسي والزجاج وتبعه الماتريدي إلى أنها متصلة بالجملة الأولى أعني قال: قد أنعم إلخ أي قال: ذلك «كأن لم يكن» إلخ ورده الراغب والأصفهاني بأنها إذا كانت متصلة بالجملة الأولى فكيف يفصل بها بين أبعاض الجملة الثانية، ومثل مستقبح، واعتذر بأن مرادهم أنها معترضة بين أجزاء هذه الجملة صريحا متعلق بالأولى وضمنا بهذه، وكَأَنْ مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف، وقيل: إنها لا تعمل إذا خففت.
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب تَكُنْ بالتاء لتأنيث لفظ المودة، والباقون- يكن- بالياء للفصل ولأنها بمعنى الودّ، والمنادى في يا لَيْتَنِي عند الجمهور محذوف أي يا قومي، وأبو علي يقول في نحو هذا: ليس في الكلام منادى محذوف بل تدخل- يا- خاصة على الفعل والحرف لمجرد التنبيه، ونصب- أفوز- على جواب التمني، وعن يزيد النحوي والحسن فَأَفُوزَ بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت، أو العطف على خبر ليت فيكون داخلا في التمني فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ الموصول فاعل الفعل وقدم المفعول الغير الصريح عليه للاهتمام به، ويَشْرُونَ مضارع شرى، ويكون بمعنى باع واشترى من الأضداد، فإن كان بمعنى- يشترون- فالمراد من الموصول المنافقون أمروا بترك النفاق، والمجاهدة مع المؤمنين، والفاء للتعقيب أي ينبغي بعد ما صدر منهم من التثبيط والنفاق تركه وتدارك ما فات من الجهاد بعد، وإن كان بمعنى- يبيعون- فالمراد منه المؤمنون الذين تركوا الدنيا واختاروا الآخرة أمروا بالثبات على القتال وعدم الالتفات إلى تثبيط المبطئين، والفاء جواب شرط مقدر أي إن صدهم المنافقون فليقاتلوا ولا يبالوا.
وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ ولا بدّ، وفي الالتفات مزيد التفات أَجْراً عَظِيماً لا يكاد يعلم كمية وكيفية وفي تعقيب القتال بما ذكر تنبيه على أن المجاهد ينبغي أن يكون همه أحد الأمرين إما إكرام نفسه بالقتل والشهادة، أو إعزاز الدين وإعلاء كلمة الله تعالى بالنصر ولا يحدث نفسه بالهرب بوجه، ولذا لم يقل: فيغلب، أَوْ يَغْلِبْ وتقديم القتل للإيذان بتقدمه في استتباع الأجر، وفي الآية تكذيب للمبطىء بقوله:
قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ إلخ وَما لَكُمْ خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة في التحريض والحث عليه وهو المقصود من الاستفهام، وما مبتدأ ولَكُمْ خبره، وقوله تعالى:
لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار، أو الظرف لتضمنه معنى الفعل أي أيّ شيء لكم غير مقاتلين والمراد لا عذر لكم في ترك المقاتلة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ إما عطف على الاسم الجليل أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن الأسر وصونهم عن العدو- وهو المروي عن ابن شهاب- واستبعد بأن تخليصهم سبيل الله تعالى لا سبيلهم، وفيه أنه وإن كان سبيل الله عز اسمه له نوع اختصاص بهم فلا مانع من إضافته إليهم: واحتمال أن يراد بالمقاتلة في سبيلهم- المقاتلة في فتح طريق مكة إلى المدينة ودفع سد المشركين إياه ليتهيأ خروج المستضعفين- مستضعف جدا، وإما عطف على سبيل بحذف مضاف، وإليه ذهب المبرد أي وفي خلاص المستضعفين، ويجوز نصبه بتقدير أعني، أو أخص فإن سبيل الله تعالى يعم أبواب الخير وتخليص المستضعفين من أيدي المشركين من أعظمها وأخصها، ومعنى المستضعفين الذين طلب المشركون ضعفهم وذلهم أو الضعفاء منهم
والسين للمبالغة مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لمنع المشركين لهم من الخروج، أو ضعفهم عن الهجرة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كنت أنا وأمي من المستضعفين، وقد ذكر أن منهم سلمة بن هشام، والوليد بن الوليد وأبا جندل بن سهيل، وإنما ذكر الولدان تكميلا للاستعطاف والتنبيه على تناهي ظلم المشركين، والإيذان بإجابة الدعاء الآتي واقتراب زمان الخلاص وفي ذلك مبالغة في الحث على القتال.
ومن هنا يعلم أن الآية لا تصلح دليلا على صحة إسلام الصبي بناء على أنه لولا ذلك لما وجب تخليصهم على أن في انحصار وجوب التخليص في المسلم نظرا لأن صبي المسلم يتوقع إسلامه فلا يبعد وجوب تخليصه لينال مرتبة السعداء، وقيل: المراد- بالولدان العبيد والإماء وهو على الأول جمع وليد ووليدة بمعنى صبي وصبية.
وقيل: إنه جمع ولد كورل وورلال، وعلى الثاني كذلك أيضا إلا أن الوليد والوليدة بمعنى العبد والجارية.
وفي الصحاح: الوليد الصبي والعبد، والجمع ولدان، والوليدة الصبية والأمة، والجمع ولائد، فالتعبير- بالولدان- على طريق التغليب ليشمل الذكور والإناث الَّذِينَ في محل جر على أنه صفة للمستضعفين، أو لما في حيز البيان، وجوز أن يكون نصبا بإضمار فعل أي أعني، أو أخص الَّذِينَ.
يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها بالشرك الذي هو ظلم عظيم، وبأذية المؤمنين ومنعهم عن الهجرة والوصف صفة قرية وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجري على غير من هو له فتذكيره وتأنيثه على حسب الاسم الظاهر الذي عمل فيه، ولم ينسب الظلم إليها مجازا كما في قوله تعالى: «وكأين من قرية بطرت معيشتها» (١) وقوله سبحانه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً إلى قوله عز وجل: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل: ١١٢] لأن المراد بها مكة كما قال ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم، فوقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفا لها شرفها الله تعالى وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يلي أمرنا حتى يخلصنا من أيدي الظلمة، وكلا الجارين متعلق- باجعل- لاختلاف معنييهما وتقديمهما على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر بتقديم أحواله، وتقديم اللام على مِنَ للمسارعة إلى إبراز كون المسئول نافعا لهم مرغوبا فيه لديهم، وجوز أن يكون مِنْ لَدُنْكَ متعلقا بمحذوف وقع حالا من وَلِيًّا وكذا الكلام في قوله تعالى: وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً أي حجة ثابتة قاله عكرمة ومجاهد وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: المراد ولّ علينا واليا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا وينصرنا على أعدائنا، ولقد استجاب الله تعالى شأنه دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير وليّ وأعز ناصر، ففتح مكة على يدي نبيه صلّى الله عليه وسلّم فتولاهم أيّ تولّ، ونصرهم أيّ نصرة، ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد، وكان ابن ثماني عشرة سنة فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها، وقيل: المراد اجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة أي كن أنت ولينا وناصرنا. وتكرير الفعل ومتعلقيه للمبالغة في التضرع والابتهال.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها أمر للعارفين أن يظهروا ما كوشفوا به من الأسرار الإلهية لأمثالهم ويكتموا ذلك عن الجاهلين، أو أن يؤدوا حق كل ذي حق إليه فيعطوا الاستعداد حقه وألقوا حقها وآخر الأمانات أداء أمانة الوجود فليؤده العبد إلى سيده سبحانه وليفن فيه عز وجل وَإِذا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ بالإرشاد ولا يكون إلا بعد الفناء والرجوع إلى البقاء فاحكموا بالعدل وهو الإفاضة حسب الاستعداد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ بتطهير كعبة تجليه- وهو القلب- عن أصنام السوي وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بالمجاهدة وإتعاب البدن بأداء رسوم العبادة التي شرعها لكم وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وهم المشايخ المرشدون بامتثال أمرهم فيما يرونه صلاحا لكم وتهذيبا لأخلاقكم.
وربما يقال: إنه سبحانه جعل الطاعة على ثلاث مراتب، وهي في الأصل ترجع إلى واحدة: فمن كان أهلا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة كالقائل أخذتم علمكم ميتا عن ميت، ونحن أخذناه من الحي الذي لا يموت، فليطلع الله تعالى بمراده وليتمثل ما فهمه منه، ومن لم يبلغ هذه الدرجة فليرجع إلى بيان الواسطة العظمى وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم إن فهم بيانه، أو استطاع الأخذ منه كبعض أهل الله تعالى تعالى، وليطعه فيما أمر ونهى، ومن لم يبلغ إلى هذه الدرجة فليرجع إلى بيان أكابر علماء الأمة وليتقيد بمذهب من المذاهب وليقف عنده في الأوامر والنواهي فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ أنتم والمشايخ، وذلك في مبادئ السلوك حيث النفس قوية فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ تعالى «والرسول» فارجعوا إلى الكتاب والسنة فإن فيهما ما يزيل النزاع عبارة أو إشارة، أو إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابهة، وظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا إلى خطاب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن فيه بحار علوم الحقائق، فكل خاطر لا يوافق خطاب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فهو مردود أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من علم التوحيد وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من علم المبدأ والمعاد يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وهو النفس الأمارة الحاكمة بما تؤدي إليه أفكارها الغير المستندة إلى الكتاب والسنة وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويخالفوه إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ وهو الطاغوت أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً وهو الانحراف عن الحق فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ وهي مصيبة التحير وفقد الطريق الموصل بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من تقديم أفكارهم الفاسدة وعدم رجوعهم إليك ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً بأنفسنا لتمرنها على التفكر حتى يكون لها ملكة استنباط الأسرار والدقائق من عباراتك وإشاراتك وَتَوْفِيقاً أي جمعا بين العقل والنقل أو بين الخصمين بما يقرب من عقولهم ولم نرد مخالفتك أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من رين الشكوك فيجازيهم على ذلك يوم القيامة فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تقبل عذرهم وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً مؤثرا ليرتدعوا أو كلمهم على مقادير عقولهم ومتحمل طاقتهم وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ باشتغالهم بحظوظها جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ طلبوا منه ستر صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الأفعال وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ بإمداده إياهم بأنوار صفاته لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً مطهرا لنفوسهم مفيضا عليها الكمال اللائق بها.
وقال ابن عطاء في هذه الآية: أي لو جعلوك الوسيلة لدي لوصلوا إلى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً
قال بعضهم: أظهر الله تعالى في هذه الآية على حبيبه خلعة من خلع الربوبية فجعل الرضا بحكمه ساء أم ستر سببا لإيمان المؤمنين كما جعل الرضا بقضائه سببا لإيقان الموقنين فأسقط عنهم اسم الواسطة لأنه صلّى الله عليه وسلّم متصف بأوصاف الحق متخلق بأخلاقه، ألا ترى كيف قال حسان:
وشق له من اسمه ليجله | فذو العرض محمود وهذا محمد |
فليس من الله تعالى في شيء، ثم جعل جل شأنه من شرط الإيمان زوال المعارضة بالكلية فلا بد للمؤمن من تلقي المهالك بقلب راض ووجه ضاحك وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بسيف المجاهدة لتحيى حياة طيبة أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ وهي الملاذ التي ركنتم إليها وخيمتم فيها وعكفتم عليها، أو لو فرضنا عليهم أن اقمعوا الهوى، أو اخرجوا من مقاماتكم التي حجبتم بها عن التوحيد الصرف كالصبر والتوكيل مثلا ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهم أهل التوفيق والهمم العالية، وأيد الاحتمال الثاني بما حكي عن بعض العارفين أنه سئل إبراهيم بن أدهم عن حاله فقال إبراهيم: أدور في الصحارى وأطوف في البراري حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر فهل يصح حالي في التوكل فقال: إذا أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد» وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لما فيه من الحياة الطيبة وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً بالاستقامة بالدين وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وهو كشف الجمال وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو التوحيد وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بما لا يدخل في حيطة الفكر مِنَ النَّبِيِّينَ أرباب التشريع الذين ارتفعوا قدرا فلا يدرك شأواهم وَالصِّدِّيقِينَ الذين قادهم نورهم إلى الانخلاع عن أنواع الربوب والشكوك فصدقوا بما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من غير دليل ولا توقف وَالشُّهَداءِ أهل الحضور وَالصَّالِحِينَ أهل الاستقامة في الدين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ من أنفسكم فإنها أعدى أعدائكم فَانْفِرُوا ثُباتٍ اسلكوا في سبيل الله تعالى جماعات كل فرقة على طريقة شيخ كامل أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً في طريق التوحيد والإسلام واتبعوا أفعال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتخلقوا بأخلاقه وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي ليثبطن المجاهدين المرتاضين فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ شدة في السير قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ حيث لم أفعل كما فعلوا وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ مواهب غيبية وعلوم لدنية ومراتب سنية وقبول عند الخواص والعوام لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي حسدا لكم يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ دونهم فَوْزاً عَظِيماً وأنال ذلك وحدي وَمَنْ يُقاتِلْ نفسه فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ بسيف الصدق أَوْ يَغْلِبْ عليها بالظفر لتسلم على يده فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وهو الوصول إلينا وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وخلاص المستضعفين مِنَ الرِّجالِ العقول وَالنِّساءِ الأرواح وَالْوِلْدانِ القوى الروحانية الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ وهي قرية البدن الظَّالِمِ أَهْلُها وهي النفس الأمارة وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يلي أمورنا ويرشدنا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ينصرنا على من ظلمنا وهو الفيض الأقدس، نسأل الله تعالى بمنه وكرمه.
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله تعالى الموصل لهم إليه عز وجل وفي إعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فيما يبلغ بهم إلى الشيطان وهو الكفر فلا ناصر لهم سواه فَقاتِلُوا يا أولياء الله تعالى إذا كان الأمر كذلك. أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ. جميع الكفار فإنكم تغلبونهم. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً. في حد ذاته فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ [الصف: ٤] وهو سبحانه وليكم، ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى إيذانا بظهورها، وفائدة كانَ التأكيد ببيان أن كيده مذ كان ضعيف، وقيل: هي بمعنى صار أي صار ضعيفا بالإسلام، وقيل: إنها زائدة وليس بشيء.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ
نزلت كما قال الكلبي: في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص كان يلقون من المشركين أذى شديدا
وهم بمكة قبل الهجرة فيشكون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون: ائذن لنا يا رسول الله في قتال هؤلاء فإنهم قد آذونا والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: كفوا أيديكم وأمسكوا عن القتال فإني لم أومر بذلك، وفي رواية: إني أمرت بالعفو.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. واشتغلوا بما أمرتم به، ولعل أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيها على أن الجهاد مع النفس مقدم وما لم يتمكن المسلم في الانقياد لأمر الله تعالى بالجود بالمال لا يكاد يتأتى منه الجود بالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن المقصود والمعتبر في التعجيب المشار إليه في صدر الكلام إنما هو كمال رغبتهم في القتال وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه، وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره بطريق الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض، وقيل: للإيذان بكون ذلك بأمر الله تعالى فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ وأمروا به بعد أن هاجروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ أي الكفار أن يقتلوهم، وذلك لما ركز في طباع البشر من خوف الهلاك كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كما يخشون الله تعالى أن ينزل عليهم بأسه، والفاء عاطفة وما بعدها عطف على قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ باعتبار معناه الكنائي إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولي المعطوفين، وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل: ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه- بمقتضى البشرية- جماعة منهم، وتوجيه التعجيب إلى الكل مع أن تلك الكراهة إنما كانت من البعض للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدر من أحدهم ما ينافي حالته الأولى، وإِذا للمفاجأة وهي ظرف مكان، وقيل: زمان وليس بشيء، وفيها تأكيد لأمر التعجيب، وفَرِيقٌ مبتدأ، ومِنْهُمْ صفته، ويَخْشَوْنَ خبره، وجوز أن يكون صفة أيضا أو حالا، والخبر إِذا وكَخَشْيَةِ اللَّهِ في موقع المصدر أي خشية كخشية الله، وجوز أن يكون حالا من فاعل يَخْشَوْنَ ويقدر مضاف أي حال كونهم مثل أهل خشية الله تعالى أي مشبهين بأهل خشيته سبحانه، وقيل- وفيه بعد- إنه حال من ضمير مصدر محذوف أي يخشونها الناس كخشية الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً عطف عليه إن جعلته حالا أي أنهم أَشَدَّ خَشْيَةً من أهل خشية الله، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشيتهم، ولا يعطف عليه على تقدير المصدرية- على ما قيل بناء على أن خَشْيَةً منصوب على التمييز وعلى أن التمييز متعلق الفاعلية، وأن المجرور بمن التفضيلية يكون مقابلا للموصوف بأفعل التفضيل فيصير المعنى إن خشيتهم أشدّ من خشية غيرهم، ويؤول إلى أن خشية خشيتهم أشدّ، وهو غير مستقيم اللهم إلا على طريقة جدّ جدّه- على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني- ويكون كقولك: زيد جدّ جدّا بنصب جدّا على التمييز لكنه بعيد، بل يعطف على الاسم الجليل فهو مجرور بالفتحة لمنع صرفه، والمعنى- يخشون الناس خشية كخشية الله، أو خشية كخشية أشدّ خشية منه تعالى- ولكن على سبيل الفرض إذ لا أشدّ خشية عند المؤمنين من الله تعالى، ويؤول هذا إلى تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة واحدة، وذكر ابن الحاجب أنه يجوز أن يكون هذا العطف من عطف الجمل- أي يخشون الناس كخشية الناس، أو يخشون أشدّ خشية- على أن الأول مصدر والثاني حال، وقيل عليه: إن حذف المضاف أهون من حذف الجملة وأوفى بمقتضى المقابلة وحسن المطابقة وجوز أن يكون خَشْيَةً منصوبا على المصدرية وأَشَدَّ صفة له قدمت عليه، فانتصب على الحالية، وذكر بعضهم أن التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون نفس ما انتصب عنه نحو فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً [يوسف: ٦٤] فإن الحافظ هو الله تعالى كما لو قلت: الله خير حافظ بالجر، وحينئذ لا مانع من أن تكون الخشية نفس الموصوف ولا يلزم أن يكون للخشية خشية بمنزلة أن يقال: أشد خشية بالجر، والقول- بأن جواز هذا فيما إذا كان التمييز نفس الموصوف بحسب المفهوم واللفظ- محل نظر محل نظر، إذ اتحاد اللفظ مع حذف الأول ليس فيه كبير محذور.
وهذا إيراد قوي على ما قيل، وقد نقل ابن المنير عن الكتاب ما يعضده فتأمل، وأَوْ قيل: للتنويع، وقيل للإبهام على السامع، وقيل: للتخيير، وقيل: بمعنى الواو، وقيل: بمعنى بل وَقالُوا عطف على جواب- لما- أي فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ فاجأ بعضهم بألسنتهم، أو بقلوبهم، وحكاه الله تعالى عنهم على سبيل تمني التخفيف لا الاعتراض على حكمه تعالى، والإنكار لإيجابه ولذا لم يوبخوا عليه رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ في
هذا الوقت.
لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الأجل المقدر ووصف بالقريب للاستعطاف أي أنه قليل لا يمنع من مثله، والجملة كالبيان لما قبلها ولذا لم تعطف عليه، وقيل: إنما لم تعطف عليه للإيذان بأنهما مقولان مستقلان لهم، فتارة قالوا الجملة الأولى، وتارة الجملة الثانية، ولو عطفت لتبادر أنهم قالوا مجموع الكلامين بعطف الثانية على الأولى قُلْ أي تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود عن القتال، والتأخير إلى الأجل المقدر من المتاع الفاني وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي مَتاعُ الدُّنْيا أي جميع ما يستمتع به وينتفع في الدنيا قَلِيلٌ في نفسه سريع الزوال وهو أقل قليل بالنسبة إلى ما في الآخرة وَالْآخِرَةُ أي ثوابها المنوط بالأعمال التي من جملتها القتال خَيْرٌ لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات، وفي اختلاف الأسلوب ما لا يخفى، وإنما قال سبحانه لِمَنِ اتَّقى حثا لهم وترغيبا على الاتقاء والإخلال بموجب التكليف.
وقيل: المراد أن نفس الآخرة خير ولكن للمتقين، لأن للكافر والعاصي هنالك نيرانا وأهوالا، ولذا قيل: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ولا يخفى أن الأول أنسب بالسياق وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا عطف على مقدر أي تجزون فيها ولا تبخسون هذا المقدار اليسير فضلا عما زاد من ثواب أعمالكم فلا ترغبوا عن القتال الذي هو من غرورها، وقرأ ابن كثير وكثير «ولا يظلمون» بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر من.
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يحتمل أن يكون ابتداء كلام مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم إلى من ذكر أولا اعتناء بإلزامهم إثر بيان حقارة الدنيا وفخامة الآخرة بواسطته صلّى الله عليه وسلّم فلا محل للجملة من الإعراب، ويحتمل أن يكون داخلا في حيز القول المأمور به، فمحل الجملة النصب، وجعل غير واحد ما تقدم جوابا للجملة الأولى من قولهم، وهذا جوابا للثانية منه، فكأنه لما قالوا: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟
أجيبوا ببيان الحكمة بأنه كتب عليكم ليكثر تمتعكم ويعظكم نفعكم لأنه يوجب تمتع الآخرة، ولما قالوا: لَوْلا أَخَّرْتَنا؟! إلخ أجيبوا بأنه أَيْنَما تَكُونُوا في السفر، أو في الحضر يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ لأن الأجل مقدر فلا يمنع عنه عدم الخروج إلى القتال، وفي التعبير بالإدراك إشعار بأن القوم لشدة تباعدهم عن أسباب الموت وقرب وقت حلوله إليهم بممر الأنفاس والآنات كأنهم في الهرب منه وهو مجد في طلبهم لا يفتر نفسا واحدا في التوجه إليهم، وقرأ طلحة بن سليمان يُدْرِكْكُمُ بالرفع، واختلف في تخريجه فقيل: إنه على حذف الفاء كما في قوله- على ما أنشده سيبويه.:
من يفعل الحسنات الله يشكرها | والشر بالشر عند الله مثلان |
يا أقرع بن حابس يا أقرع | إنك إن يصرع أخوك تصرع |
الإطلاق، والشرط الثاني لم يعول عليه المحققون، وقيل: إن الرفع على توهم كون الشرط ماضيا فإنه حينئذ لا يجب ظهور الجزم في الجواب لأن الأداة لما لم يظهر أثرها في القريب لم يجب ظهوره في البعيد وما قيل عليه من أن كون الشرط ماضيا والجزاء مضارعا إنما يحسن في كلمة- إن- لقلبها الماضي إلى معنى الاستقبال فلا يحسن- أينما كنتم يدرككم الموت- إلا على حكاية الماضي وقصد الاستحضار فيه نظر، نعم يرد عليه أن فيه تعسفا إذا لتوهم- كما قال ابن المنير- أن يكون ما يتوهم هو الأصل، أو مما كثر في الاستعمال حتى صار كالأصل، وما توهم هنا ليس كذلك، وقيل: إن يُدْرِكْكُمُ كلام مبتدأ وأَيْنَما تَكُونُوا متصل ب لا تُظْلَمُونَ، واعترض كما قال الشهاب: بأنه ليس بمستقيم معنى وصناعة، أما الأول فلأنه لا يناسب اتصاله بما قبله لأن لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا المراد منه في الآخرة فلا يناسبه التعميم، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه عمل ما قبل اسم الشرط فيه وهو غير صحيح لصدارته، وأجيب عن الأول بأنه لا مانع من تعميم وَلا تُظْلَمُونَ للدنيا والآخرة أو يكون المعنى لا ينقصون شيئا من مدة الأجل المعلوم لا من الأجود، وبه ينتظم الكلام، وعن الثاني بأن المراد من الاتصال بما قبله- كما قال الحلبي- والسفاقسي اتصاله به معنى لا عملا على أن أَيْنَما تَكُونُوا شرط جوابه محذوف تقديره لا تُظْلَمُونَ وما قبله دليل الجواب، وأنت تعلم أن هذا التخريج وإن التزم الذب عنه بما ترى خلاف الظاهر المنساق إلى الذهن، وأولى التخريجات أنه على حذف الفاء وهو الذي اختاره المبرد، والقول بأن الحذف ضرورة في حيز المنع وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ أي قصور، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج، وعن السدي والربيع رضي الله تعالى عنهم أنها قصور في السماء الدنيا، وقيل: المراد بها بروج السماء المعلومة، وعن أبي علي الجبائي أنها البيوت التي فوق القصور، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنها الحصون والقلاع وهي جمع برج وأصله من التبرج وهو الإظهار، ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت حسنها مُشَيَّدَةٍ أي مطلية بالشيد وهو الجص قاله عكرمة أو مطولة بارتفاع- قاله الزجاج- فهو من شيد البناء إذا رفعه وقرأ مجاهد مُشَيَّدَةٍ بفتح الميم وتخفيف الياء كما في قوله تعالى: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: ٤٥] وقرأ أبو نعيم بن ميسرة مُشَيَّدَةٍ بكسر الياء على التجوز ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: ٢١- القارعة: ٧] وقصيدة شاعرة، والجملة معطوفة على أخرى مثلها أي لو لم تكونوا في بروج وَلَوْ كُنْتُمْ إلخ، وقد أطرد الحذف في مثل ذلك لوضوح الدلالة وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ نزلت على ما روي عن الحسن وابن زيد في اليهود وذلك أنهم كانوا قد بسط عليهم الرزق فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أمسك عنهم بعض الإمساك فقالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل، فالمعنى إن تصبهم نعمة أو رخاء نسبوها إلى الله تعالى وإن تصبهم بلية من جدب وغلاء أضافوها إليك متشائمين كما حكي عن أسلافهم بقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: ١٣١] وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء والبلخي والجبائي وقيل: نزلت في المنافقين، ابن أبيّ وأصحابه الذين تخلفوا عن القتال يوم أحد، وقالوا للذين قتلوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمران: ٩١] فالمعنى إن تصبهم غنيمة قالوا: هي من عند الله تعالى، وإن تصبهم هزيمة قالوا: هي من سوء تدبيرك، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وقيل: نزلت فيمن تقدم وليس بالصحيح، وصحح غير واحد أنها نزلت في اليهود والمنافقين جميعا لما تشاءموا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة وقحطوا، وعلى هذا فالمتبادر من الحسنة والسيئة هنا النعمة والبلية، وقد شاع استعمالها في ذلك كما شاع استعمالها في الطاعة والمعصية، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين، وأيد
بإسناد الإصابة إليهما بل جعله صاحب الكشف دليلا بينا عليه وبأنه أنسب بالمقام لذكر الموت والسلامة قبل، وقوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أمر له صلّى الله عليه وسلّم بأن يرد زعمهم الباطل واعتقادهم الفاسد ويرشدهم إلى الحق ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال أي كل
واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلي بها عقوبة كما سيأتي بيانه.
وهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل: ردا على أسلاف اليهود من قوله تعالى: إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: ١٣١] أي إنما سبب خيرهم وشرهم عند الله تعالى لا عند غيره حتى يستند ذلك إليه ويطيروا به- قاله شيخ الإسلام- ومنه يعلم اندفاع ما قيل: إن القوم لم يعتقدوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فاعل السيئة كما اعتقدوا أن الله تعالى فاعل الحسنة بل تشاءموا به وحاشاه عليه الصلاة والسلام فكيف يكون هذا ردا عليهم، ولا حاجة إلى ما أجاب به العلامة الثاني من أن الجواب ليس مجرد قوله تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بل هو إلى قوله سبحانه: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ إلخ وقوله تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ أي اليهود والمنافقين المحتقرين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ أي يفهمون حَدِيثاً أي كلاما يوعظون به وهو القرآن، أو كلاما ما أو كل شيء حدث وقرب عهده كلام من قبله تعالى معترض بين المبين وبيانه مسوق لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجيب من كمال غباوتهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والجملة المنفية حالية والعامل فيها ما في الظرف من الاستقرار أو الظرف نفسه، والمعنى حيث كان الأمر كذلك فأي شيء حصل لهؤلاء حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا نصوص القرآن الناطقة بأن الكل فائض من عند الله تعالى، أو بمعزل من أن يفهموا- حديثا- مطلقا حتى عدوا كالبهائم التي لا أفهام لها، أو بمعزل من أن يعقلوا صروف الدهر وتغيره حتى يعلموا أنه لها فاعلا حقيقيا بيده جميع الأمور ولا مدخل لأحد معه، ويجوز أن تكون الجملة استئنافا مبنيا على سؤال نشأ من الاستفهام وهو ظاهر، وعلى التقديرين فالكلام مخرج مخرج المبالغة في عدم فهمهم فلا ينافي اعتقادهم أن الحسنة من عند الله تعالى، ويفهم من كلام بعضهم أن المراد من الحديث هو ما تفوهوا به آنفا حيث إنه يلزم منه تعدد الخالق المستلزم للشرك المؤدي إلى فساد العالم، وإن ما في حيز الأمر ردّ لهذا اللازم، وقدم لكونه أهم ثم استأنف بما هو حقيقة الجواب أعني قوله سبحانه ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وعلى ما ذكرنا- ولعله الأولى- يكون هذا بيانا للجواب المجمل المأمور به، والخطاب فيه كما قال الجبائي وروي عن قتادة: عام لكل من يقف عليه لا للنبي صلّى الله عليه وسلّم كقوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته | وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا |
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة: «لن يدخل أحدا عمله الجنة قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى بفضل رحمته»
وَما أَصابَكَ مِنْ بلية ما من البلايا فهي بسبب صفحة رقم 86
اقتراف نفسك المعاصي والهفوات المقتضية لها، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة وهذا كقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ،
وأخرج الترمذي عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها- أو ما دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: ما كان من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك، وعن أبي صالح مثله، وقال الزجاج: الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمقصود منه الأمة، وقيل: له عليه الصلاة والسلام لكن لا لبيان حاله بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير، ولعل العدول عن خطابهم لإظهار كمال السخط والغضب عليهم والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة، ثم اعلم أنه لا حجة لنا ولا للمعتزلة في مسألة الخير والشر بهاتين الآيتين لأن إحداهما بظاهرها لنا، والأخرى لهم فلا بد من التأويل وهو مشترك الإلزام ولأن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية، والخلاف في الثاني، ولا تعارض بينهما أيضا لظهور اختلاف جهتي النفي والإثبات، وقد أطنب الإمام الرازي في هذا المقام كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح، واختار تفسير الحسنة والسيئة بما يعم النعم والطاعات والمعاصي والبليات، وقال بعضهم:
يمكن أن يقال: لما جاء قوله تعالى وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ بعد قوله سبحانه: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ ناسب أن تحمل الحسنة الأولى على النعمة، والسيئة على البلية، ولما أردف قوله عز وجل: وما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ بما سيأتي ناسب أن يحملا على ما يتعلق بالتكليف من المعصية والطاعة- كما روي ذلك عن أبي العالية- ولهذا غير الأسلوب فعبر بالماضي بعد أن عبر بالمضارع، ثم نقل عن الراغب أنه فرق بين قولك: هذا من عند الله تعالى، وقولك هذا من الله تعالى بأن من عند الله أعم من حيث إنه يقال فيما كان برضاه سبحانه وبسخطه، وفيما يحصل، وقد أمر به ونهى عنه ولا يقال: من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه: «إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان» فتدبر.
ونقل أبو حيان عن طائفة من العلماء أن ما أَصابَكَ إلخ على تقرير القول أي فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يقولون ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ إلخ، والداعي لهم على هذا التمحل توهم التعارض، وقد دعا آخرين إلى جعل الجملة بدلا من حَدِيثاً على معنى أنهم لا يفقهون هذا الحديث أعني ما أَصابَكَ إلخ فيقولونه غير متحاشين عما يلزمه من تعدد الخالق وآخرين إلى تقدير استفهام إنكاري أي فَمِنْ نَفْسِكَ، وزعموا أنه قرىء به، وقد علمت أن لا تعارض أصلا من غير احتياج إلى ارتكاب ما لا يكاد يسوغه الذوق السليم، وكذا لا حجة للمعتزلة في قوله سبحانه: حَدِيثاً على كون القرآن محدثا لما علمت من أنه ليس نصا في القرآن، وعلى فرض تسليم أنه نص لا يدل على حدوث الكلام النفسي والنزاع فيه، ثم وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها على ما قيل: إنه سبحانه بعد أن حكى عن المسلمين ما حكى ورد عليهم بما رد نقل عن الكفار ما رده عليهم أيضا وبين المحكيين مناسبة من حيث اشتمالها على إسناد ما يكره إلى بعض الأمور وكون الكراهة له بسبب ذلك وهو كما ترى.
وفي الكشف أن جملة وَإِنْ تُصِبْهُمْ إلخ معطوفة على جملة قوله تعالى: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ، وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ دلالة على تحقق التبطئة والتثبيط، أما دلالة الأولتين فلا خفاء بهما، وأما الثانية فلأنهم إذا اعتقدوا في الداعي إلى الجهاد صلّى الله عليه وسلّم ذلك الاعتقاد قطعوا أن في اتباعه- لا سيما فيما يجر إلى ما عدوه سيئة- الخبال والفساد، ولهذا قلب الله عليهم في قوله سبحانه فَمِنْ نَفْسِكَ ليصير ذلك كافا لهم عن التثبيط إلى التنشيط، وأردفه ذكر ما هم فيه من التعكيس في شأن من هو رحمة مرسلة للناس كافة، وأكد أمر اتباعه بأن جعل طاعته صلّى الله عليه وسلّم طاعة الله تعالى
مع ما أمده به من التهديد البالغ المضمن في قوله سبحانه: فَمَنْ تَوَلَّى ثم قال- ولا يخفى أن ما وقع بين المعطوفين ليس بأجنبي- وأن فَلْيُقاتِلْ شديد التعلق بسابقه، ولما لزم من هذا النسق تقسيم المرسل إليهم إلى كافر مبطىء ومؤمن قوي وضعيف استأنف تقسيمهم مرة أخرى في قوله سبحانه الآتي: ويَقُولُونَ أي الناس المرسل إليهم إلى مبيت هو الأول ومذيع هو الثالث، ومن يرجع إليه هو الثاني فهذا وجه النظم والارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة انتهى، ولا يخلو عن حسن وليس بمتعين كما لا يخفى.
هذا ووقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على ما من قوله تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ وجماعة على- لام الجر- وتعقب ذلك السمين بأنه ينبغي أن لا يجوز كلا الوقفين إذ الأول وقف على المبتدأ دون خبره، والثاني على الجار دون مجروره، وقرأ أبيّ وابن مسعود وابن عباس وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وأنا كتبتها عليك وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا بيان لجلالة منصبه صلّى الله عليه وسلّم ومكانته عند ربه سبحانه بعد الذب عنه بأتم وجه، وفيه رد أيضا لمن زعم اختصاص رسالته عليه الصلاة والسلام بالعرب فتعريف- الناس للاستغراق، والجار متعلق: ب رَسُولًا قدم عليه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم أي مرسلا لكل الناس لا لبعضهم فقط كما زعموا، ورَسُولًا حال مؤكدة لعاملها، وجوز أن يتعلق الجار بما عنده، وأن يتعلق بمحذوف وقع حالا من رَسُولًا وجوز أيضا أن يكون رَسُولًا مفعولا مطلقا إما على أنه مصدر كما في قوله:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم | بشيء ولا أرسلتهم برسول |
على حلفة لا أشتم الدهر مسلما | ولا خارجا من فيّ زور كلام |
وفي بعض الآثار عن مقاتل «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: من أحبني فقد أحب الله تعالى ومن أطاعني فقد أطاع الله تعالى فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك، وهو نهى أن يعبد غير الله تعالى ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى عليه السلام؟ فنزلت»
فالمراد «بالرسول» نبينا صلّى الله عليه وسلّم، والتعبير عنه بذلك ووضعه موضع المضمر للإشعار بالعلية، وقيل: المراد به الجنس ويدخل فيه نبينا صلّى الله عليه وسلّم دخولا أوليا، ويأباه تخصيص الخطاب في قوله تعالى:
وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وجعله من باب الخطاب لغير معين خلاف الظاهر، و «من» شرطية وجواب الشرط محذوف، والمذكور تعليل له قائم مقامه أي ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه لأنا إنما أرسلناك رسولا مبلغا لا حفيظا مهيمنا تحفظ أعمالهم عليهم وتحاسبهم عليها، ونفى- كما قيل- كونه حفيظا أي مبالغا في الحفظ دون كونه حافظا لأن الرسالة لا تنفك عن الحفظ لأن تبليغ الأحكام نوع حفظ عن المعاصي والآثام، وانتصاب الوصف على الحالية من الكاف، وجعله مفعولا ثانيا لأرسلنا لتضمينه معنى جعلنا مما لا حاجة إليه، وعليهم صفحة رقم 88
متعلق به وقدم رعاية للفاصلة، وفي إفراد ضمير الرفع وجمع ضمير الجر مراعاة للفظ- من- ومعناها، وفي العدول عن- ومن تولى فقد عصاه- الظاهر في المقابلة إلى ما ذكر ما لا يخفى من المبالغة، وَيَقُولُونَ الضمير للمنافقين كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن والسدي وقيل: للمسلمين الذين حكي عنهم أنهم يخشون الناس كخشية الله أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء طاعَةٌ أي أمرنا وشأننا طاعة على أنه خبر مبتدأ محذوف وجوبا، وتقدير طاعتك طاعة خلاف الظاهر أو عندنا أو منا طاعة على أنه مبتدأ وخبره محذوف وكان أصله النصب كما يقول المحب: سمعا وطاعة لكنه يجوز في مثله الرفع- كما صرح به سيبويه- للدلالة على أنه ثابت لهم قبل الجواب فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي خرجوا من مجلسك وفارقوك بَيَّتَ طائِفَةٌ أي جماعة مِنْهُمْ وهم رؤساؤهم، والتبييت إما من البيتوتة لأنه تدبير الفعل ليلا والعزم عليه، ومنه تبييت نية الصيام ويقال: هذا أمر تبيت بليل، وإما من بيت الشعر لأن الشاعر يدبره ويسويه، وإما من البيت المبني لأنه يسوي ويدبر، وفي هذا بعد- وإن أثبته الراغب لغة- والمراد زورت وسوت غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي خلاف ما قلت لها أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة، والعدول عن الماضي لقصد الاستمرار، وإسناد الفعل إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات والباقون أتباع لهم في ذلك لا لأنهم ثابتون على الطاعة، وتذكيره أو لا لأن تأنيث الفاعل غير حقيقي، وقرأ أبو عمرو وحمزة بَيَّتَ طائِفَةٌ بالإدغام لقربهما في المخرج، وذكر بعض المحققين أن الإدغام هنا على خلاف الأصل والقياس، ولم تدغم تاء متحركة غير هذه وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي يثبته في صحائفهم ليجازيهم عليه، أو فيما يوحيه إليك فيطلعك على أسرارهم ويفضحهم- كما قال الزجاج- والقصد على الأول لتهديدهم، وعلى الثاني لتحذيرهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي تجاف عنهم ولا تتصد للانتقام منهم، أو قلل المبالاة بهم والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض أمرك إليه وثق به في جميع أمورك لا سيما في شأنهم، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا قائما بما فوض إليه من التدبير فيكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم، والإظهار لما سبق للإيذان باستقلال الجملة واستغنائها عما عداها من كل وجه أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ لعله جواب سؤال نشأ من جعل الله تعالى شهيدا كأنه قيل: شهادة الله تعالى لا شبهة فيها ولكن من أين يعلم أن ما ذكرته شهادة الله تعالى محكية عنه؟ فأجاب سبحانه بقوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ وأصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه، والفاء للعطف على مقدر أي- أيشكون في أن ما ذكر شهادة الله تعالى فلا يتدبرون القرآن الذي جاء به هذا النبي صلّى الله عليه وسلّم المشهود له ليعلموا كونه من عند الله فيكون حجة وأي حجة على المقصود- وقيل: المعنى أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكي على ما هو عليه وَلَوْ كانَ أي القرآن. مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ كما يزعمون لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً بأن يكون بعض إخباراته الغيبية كالإخبار عما يسره المنافقون غير مطابق للواقع لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى فحيث أطرد الصدق فيه ولم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى ومن عنده، وإلى هذا يشير كلام الأصم
والزجاج، وفي رواية عن ابن عباس أن المراد لوجدوا فيه تناقضا كثيرا، وذلك لأن كلام البشر إذا طال لم يخل- بحكم العادة- من التناقض، وما يظن من الاختلاف كما في كثير من الآيات، ومنه ما سبق آنفا ليس من الاختلاف عند المتدبرين، وقيل- وهو مما لا بأس به خلافا لزاعمه- المراد لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة
لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق أخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره عالم بما لا يعلمه سواه انتهى.
وهو مبني على كون وجه الإعجاز عند علماء العربية كون القرآن في مرتبة الأعلى من البلاغة، وكون المقصود من الآية إثبات القرآن كله وبعضه من الله تعالى، وحينئذ لا يمكن وصف الاختلاف بالكثرة لأنه لا يكون الاختلاف حينئذ إلا بأن يكون البعض منه معجزا والبعض غير معجز، وهو اختلاف واحد فلذا جعل وجدوا متعديا إلى مفعولين أولهما كَثِيراً، وثانيهما اخْتِلافاً بمعنى مختلفا، وإليه يشير قوله: لكان الكثير منه مختلفا وإنما جعل اللازم على تقدير كونه من عند غير الله تعالى كون الكثير مختلفا مع أنه يلزم أن يكون الكل مختلفا اقتصارا على الأقل كما في قوله تعالى: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر: ٢٨] وهو من الكلام المنصف، وبهذا يندفع ما أورد من أن الكثرة صفة الاختلاف والاختلاف صفة للكل في النظم، وقد جعل صفة الكثرة والكثرة صفة الكثير، لأنا لا نسلم أن الكثرة صفة الاختلاف بل هما مفعولا «وجدوا» وكذا ما أورد من أنه يفهم من قوله: لكان بعضه بالغا حد الإعجاز ثبوت قدرة غيره تعالى على الكلام المعجز وهو باطل لأنا لا نسلم ذلك فإن المقصود أن القرآن كلّا وبعضا من الله تعالى أي البعض الذي وقع به التحدي- وهو مقدار أقصر سورة منه ولو كان بعض من أبعاضه من غيره تعالى- لوجدوا فيه الاختلاف المذكور، وهو أن لا يكون بعضه بالغا حد الإعجاز- قاله بعض المحققين- وقال بعضهم: لا محيص عن الإيراد الأخير سوى أن يحمل الكلام على الفرض والتقدير أي لو كان فيه مرتبة الإعجاز ففي البعض خاصة على أن يكون ذلك القدر مأخوذا من كلام الله تعالى كما في الاقتباس ونحوه- إلا أنه لا يخفى بعده، وإلى تفسير الاختلاف بالتفاوت بلاغة وعدم بلاغة ذهب أبو علي الجبائي إلى هذا ونقل عن الزمخشري أن في الآية فوائد: وجوب النظر في الحجج والدلالات، وبطلان التقليد، وبطلان قول من يقول: إن المعارف الدينية ضرورية، والدلالة على صحة القياس، والدلالة على أن أفعال العباد ليست بخلق الله تعالى لوجود التناقض فيها انتهى.
ولا يخفى أن دلالتها على وجوب النظر في الجملة وبطلان التقليد للكل، وقول من يقول: إن المعارف الدينية كلها ضرورية إما على صحة القياس على المصطلح الأصولي فلا، وإما تقرير الأخير- على ما في الكشف- فلأن اللازم كل مختلف من عند غير الله تعالى على قولهم: ان لو عكس لولا ولو كان أفعال العباد من خلقه لكانت من عنده بالضرورة، وكذبت القضية أو بعض المختلف من عند غير الله تعالى على ما حققه الشيخ ابن الحاجب، والمشهور عند أهل الاستدلال فيكون بعض أفعال العباد غير مخلوقة له تعالى ويكفي ذلك في الاستدلال إذ لا قائل بالفرق بين بعض وبعض إذا كان اختياريا، وأجاب فيه بأن اللازم كل مختلف هو قرآن من عند غير الله تعالى على الأول، وحينئذ لا يتم الاستدلال، وذكر أن معنى وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ تعالى عند الجماعة ولو كان قائما بغيره تعالى ولا مدخل للخلق في هذه الملازمة، وأنت تعلم أنه غير ظاهر الإرادة هنا. وكذا استدل بالآية على فساد قول من زعم أن القرآن لا يفهم إلا بتفسير الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو الإمام المعصوم- كما قال بعض الشيعة- وَإِذا جاءَهُمْ أي المنافقين- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأبي معاذ- أو ضعفاء المسلمين- كما روي عن الحسن، وذهب إليه غالب المفسرين- أو الطائفتين كما نقله ابن عطية- أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أي مما يوجب الأمن والخوف أَذاعُوا بِهِ أي أفشوه، والباء مزيدة، وفي الكشاف يقال: أذاع الشر وأذاع به، ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة وهو أبلغ من أذاعوه لدلالته على أنه يفعل نفس الحقيقة كما في نحو- فلان يعطي ويمنع- ولما فيه من الإبهام والتفسير، وقيل: الباء لتضمن الإذاعة معنى التحديث وجعلها بمعنى مع والضمير للمجيء مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه.
والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين، أو لبيان جناية الضعفاء إثر بيان جناية المنافقين وذلك أنه إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يخبرهم به، ولا يكاد يخلو ذلك عن مفسدة، وقيل: كانوا يقفون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف فيذيعونه فينشر فيبلغ الأعداء فتعود الإذاعة مفسدة، وقيل: الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين، وفيه إنكار على من يحدث بالشيء قبل تحقيقه،
وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع»
والجملة عند صاحب الكشف معطوفة على قوله تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ، وقوله سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ اعتراض تحذيرا لهم عن الإضمار لما يخالف الظاهر، فإن في تدبر القرآن جارا إلى طاعة المنزل عليه أي جار، وقيل: الكلام مسوق لدفع ما عسى أن يتوهم في بعض المواد من شائبة الاختلاف بناء على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام لا لتخلف مدلوله عنه، وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بما أوحي إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولا ضبط لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل، وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثره المتوقع فيكون ذلك منشأ لتوهم الاختلاف- ولا يخلو عن حسن- غير أن روايات السلف على خلافه، وأيّا ما كان فقد نعى الله تعالى ذلك عليهم، وقال سبحانه: وَلَوْ رَدُّوهُ أي ذلك الأمر الذي جاءهم إِلَى الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلّم وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وهم كبائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم البصراء في الأمور، وهو الذي ذهب إليه الحسن وقتادة وخلق كثير.
وقال السدي وابن زيد وأبو علي الجبائي: المراد بهم أمراء السرايا والولاة، وعلى الأول المعول لَعَلِمَهُ أي لعلم تدبير ذلك الأمر الذي أخبروا به الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكائده، أو لو ردوه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن ذكر، وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذي يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون، أو لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلّم وإلى كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وقالوا: نسكت حتى نسمعه منهم ونعلمه هل مما يذاع أو لا يذاع لعلم صحته، وهل هو مما يذاع أو لا هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطون من الرسول وأولي الأمر أي يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم، أو لو عرضوه على رأيه عليه الصلاة والسلام مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير، وإلى أجلة صحبه رضي الله تعالى عنهم لعلم الرادون معناه وتدبيره وهم الذين يستنبطونه ويستخرجون علمه وتدبيره من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن تشرف بالعطف عليه، والتعبير بالرسالة لما أنها من موجبات الرد. وكلمة- من- إما ابتدائية والظرف لغو متعلق بيستنبطونه، وإما تبعيضية أو بيانية تجريدية والظرف حال، ووضع الموصول موضع الضمير في الاحتمالين الأخيرين للإيذان بأنه ينبغي أن يكون القصد بالرد استكشاف المعنى واستيضاح الفحوى، والاستنباط في الأصل استخراج الشيء من مأخذه- كالماء من البئر، والجوهر من المعدن- ويقال للمستخرج: نبط بالتحريك ثم تجوز به فأطلق على كل أخذ وتلق وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ خطاب للطائفة المذكورة آنفا بناء على أنهم ضعفة المؤمنين على طريقة الالتفات، والمراد من الفضل والرحمة شيء واحد أي لولا فضله سبحانه عليكم ورحمته بإرشادكم إلى سبيل الرشاد الذي هو الرد إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإلى أولي الأمر لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ وعملتم بآرائكم
الضعيفة، أو أخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وتذرون ولم تهتدوا إلى صوب الصواب إِلَّا قَلِيلًا وهم أولو الأمر المستنيرة عقولهم بأنوار الإيمان الراسخ، الواقفون على الأسرار الراسخون في معرفة الأحكام بواسطة الاقتباس من مشكاة النبوة، فالاستثناء منقطع أو الخطاب للناس أي وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ تعالى بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وَرَحْمَتُهُ بإنزال القرآن- كما فسرهما بذلك السدي والضحاك- وهو اختيار الجبائي، ولا يبعد العكس لَاتَّبَعْتُمُ كلكم الشَّيْطانَ وبقيتم على الكفر والضلالة إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ قد تفضل عليه بعقل راجح فاهتدى به إلى طريق الحق، وسلم من مهاوي الضلالة وعصم من متابعة الشيطان من غير إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام وإنزال الكتاب- كقس بن ساعدة الايادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل (١) وأضرابهم- فالاستثناء متصل، وإلى ذلك ذهب الأنباري.
وقال أبو مسلم: المراد بفضل الله تعالى ورحمته النصرة والمعونة مرة بعد أخرى، والمعنى لولا حصول النصرة والظفر لكم على سبيل التتابع لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ فيما يلقى إليكم من الوساوس والخواطر الفاسدة المؤدية إلى الجبن والفشل والركون إلى الضلال وترك الدين إِلَّا قَلِيلًا وهم أهل البصائر النافذة، والعزائم المتمكنة والنيات الخالصة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقا حصول الدولة في الدنيا، أو باطلا حصول الانكسار والانهزام، بل مدار الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل، ولا يرد أنه يلزم من جعل الاستثناء من الجملة التي وليها جواز أن ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه، وليس لله تعالى عليه في ذلك فضل ومعاذ الله تعالى أن يعتقد هذا مسلم موحد سنيا كان أو معتزليا، وذلك لأن لَوْلا حرف امتناع لوجود، وقد أنبأت أن امتناع اتباع المؤمنين للشيطان في الكفر وغيره إنما كان بوجود فضل الله تعالى عليهم، فالفضل هو السبب المانع من اتباع الشيطان فإذا جعل الاستثناء ما ذكر فقد سلبت تأثير فضل الله تعالى في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة، وجعلهم مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر بأنفسهم لا بفضل الله تعالى، ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليه: لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه في تأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله، لأنا نقول هذا إذا عم الفضل لا إذا خص كما أشرنا إليه لأن عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص لا ينافي أن يكون بفضل آخر، نعم ظاهر عبارة الكشاف في هذا المقام مشكل حيث جعل الاستثناء من الجملة الأخيرة، وزاد التوفيق في البيان، ويمكن أن يقال أيضا: أراد به توفيقا خاصا نشأ مما قبله، وهذا أولى من الإطلاق ودفع الإشكال بأن عدم الفضل والرحمة على الجميع لا يلزم منه العدم على البعض لما فيه من التكلف، وذهب بعضهم للتخلص من الإيراد إلى أن الاستثناء من قوله تعالى: أَذاعُوا بِهِ، وروي ذلك عن ابن عباس- وهو اختيار المبرد، والكسائي والفراء والبلخي والطبري- واتخذ القاضي أبو بكر الآية دليلا في الرد على من جزم بعود الاستثناء عند تعدد الجمل إلى الأخيرة.
وعن بعض أهل اللغة أن الاستثناء من قوله سبحانه: لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وعن أكثرهم أنه من قوله تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ واعترضه الفراء والمبرد بأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله، وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك، وتعقب ذلك الزجاج بأنه غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه ولا يجهله إلا البالغ في
البلادة- وفيه نظر- وبعضهم إلى جعل الاستثناء مفرغا من المصدر فما بعد إِلَّا منصوب على أنه مفعول مطلق أي لاتبعتموه كل اتباع إلا اتباعا قليلا بأن تبقوا على إجراء الكفر وآثاره إلا البقاء القليل النادر بالنسبة إلى البعض، وذلك قد يكون بمجرد الطبع والعادة، وأحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق عند الإمام ما ذكره أبو مسلم، وأيد التخصيص فيما ذهب إليه الأنباري بأن قوله تعالى: ومَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ إلخ، وقوله سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يشهدان له، وفي الذي بعده بأن قوله عز وجل: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء: ٨٣] إلخ، وقوله جل وعلا:
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ يشهد له، وأنت تعلم أن قرينة التخصيص بهما غير ظاهرة، والفاء في هذه الآية واقعة في جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم أي إذا كان الأمر كما حكي من عدم طاعة المنافقين وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الإسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا.
ونقل الطبرسي في اتصال الآية قولين: أحدهما أنها متصلة بقوله تعالى: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً والمعنى فإن أردت الأجر العظيم فقاتل. ونقل عن الزجاج وثانيهما أنها متصلة بقوله عز وجل: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والمعنى إن لم يقاتلوا في سبيل الله فقاتل أنت وحدك، وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ومعنى لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لا تكلف إلا فعلها إذ لا تكليف بالذوات، وهو استثناء مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه عليه الصلاة والسلام بفعل نفسه من موجبات مباشرته صلّى الله عليه وسلّم للقتال وحده، وفيه دلالة على أن ما فعلوه من التثبيط والتقاعد لا يضره صلّى الله عليه وسلّم ولا يؤاخذ به، وذهب بعض المحققين إلى أن الكلام مجاز أو كناية عن ذلك فلا يرد أنه مأمور بتكليف الناس، فكيف هذا ولا حاجة إلى ما قيل، بل في ثبوته فقال: إنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بأن يقاتل وحده أولا، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه في أهل الردة:
أقاتلهم وحدي ولو خالفتني يميني لقاتلتها بشمالي، وجعل أبو البقاء هذه الجملة في موضع الحال من فاعل- قاتل- أي فقاتل غير مكلف إلا نفسك، وقرىء «لا تكلف» بالجزم على أن لا ناهية والفعل مجزوم بها أي لا تكلف أحدا الخروج إلا نفسك، وقيل: هو مجزوم في جواب الأمر وهو بعيد، ولا نكلف بالنون على بناء الفاعل فنفسك مفعول ثان بتقدير مضاف، وليس في موقع المفعول الأول أي لا نكلفك إلا فعل نفسك لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك، وقيل: لا مانع من ذلك على معنى لا نكلف أحدا هذا التكليف إلا نفسك.
والمراد من هذا التكليف مقاتلته وحده وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي حثهم على القتال ورغبهم فيه وعظهم لما أنهم آثمون بالتخلف لفرضه عليهم قبل هذا بسنين، وأصل التحريض إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به، فالتفعيل للسلب والإزالة- كقذيته وجلدته- ولم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ نكاية الَّذِينَ كَفَرُوا ومنهم قريش وعَسَى من الله تعالى- كما قال الحسن وغيره- تحقيق، وقد فعل سبحانه ما وعد به، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واعد صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع جماعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم حتى أتى موسم بدر فكفاهم الله سبحانه بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه، ولم يكن قتال يومئذ وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمن معه سالمين وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من الذين كفروا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي تعذيبا، وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد فعمم، والمقصود من الجملة التهديد والتشجيع، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة، وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة، وتذكير الخبر لتأكيد التشديد، وقوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ أي حظ وافر مِنْها أي من ثوابها، جملة مستأنفة
سيقت لبيان أن له عليه الصلاة والسلام فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظا موفورا من الثواب، وبه ترتبط الآية بما قبلها كما قال القاضي.
وقال علي بن عيسى: إنه سبحانه لما قال لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ مشيرا به إلى أنه عليه الصلاة والسلام غير مؤاخذ بفعل غيره كان مظنة لتوهم أنه كما لا يؤاخذ بفعل غيره لا يزيد عمله بعمل غيره أيضا فدفع ما عسى أن يتوهم بذلك، وليس بشيء كما لا يخفى، والشفاعة- هي التوسط بالقول في وصول الشخص ولو كان أعلى قدرا من الشفيع إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية، أو خلاصه عن مضرة ما كذلك من الشفع ضد الوتر كأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا، ومنه الشفيع في الملك لأنه يضم ملك غيره إلى نفسه أو يضم نفسه إلى من يشتريه ويطلبه منه، والحسنة- منها ما كانت في أمر مشروع روعي بها حق مسلم ابتغاء لوجه الله تعالى، ومنها الدعاء للمسلمين فإنه شفاعة معنى عند الله تعالى،
روى مسلم وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له»
وقال الملك: ولك مثل ذلك، وفيه بيان لمقدار النصيب الموعود ولا أرى حسنا إطلاق الشفاعة على الدعاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم بل لا أكاد أسوغه، وإن كانت فيه منفعة له صلّى الله عليه وسلّم كما أن فيه منفعة لنا على الصحيح.
وتفسيرها بالدعاء- كما نقل عن الجبائي- أو بالصلح بين اثنين- كما روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- لعله من باب التمثيل لا التخصيص، وكون التحريض الذي فعله صلّى الله عليه وسلّم من باب الشفاعة ظاهر فإن المؤمنين تخلصوا بذلك من مضرة التثبط وتعيير العدو، واحتمال الذل وفازوا بالأجر الجزيل المخبوء لهم يوم القيامة وربحوا أموالا جسيمة بسبب ذلك،
فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما وافى بجيشه بدرا ولم ير بها أحدا من العدو أقام ثماني ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا،
ومن الناس من فسر الشفاعة هنا بأن يصير الإنسان شفع صاحبه في طاعة أو معصية، والحسنة منها ما كان في طاعة، فالجملة مسوقة للترغيب في الجهاد والترهيب عن التخلف والتقاعد، وأمر الارتباط عليه ظاهر ولا بأس به غير أن الجمهور على خلافه.
وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً وهي ما كانت بخلاف الحسنة، ومنها الشفاعة في حد من حدود الله تعالى،
ففي الخبر «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله تعالى في ملكه ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله تعالى حتى ينزع»
واستثني من الحدود القصاص، فالشفاعة في إسقاطه إلى الدية غير محرمة يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي نصيب من وزرها، وبذلك فسره السدي والربيع وابن زيد وكثير من أهل اللغة، فالتعبير بالنصيب في الشفاعة الحسنة، وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنن، وفرق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة، والكفل هو المثل المساوي، فاختيار النصيب أولا لأن جزاء الحسنة يضاعف والكفل ثانيا لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها، ففي الآية إشارة إلى لطف الله تعالى بعباده، وقال بعضهم: إن الكفل وإن كان بمعنى النصيب إلا أنه غلب في الشر وندر في غيره كقوله تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: ٢٨] فلذا خص بالسيئة تطرية وهربا من التكرار وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أي مقتدرا- كما قاله ابن عباس- حين سأله عنه نافع بن الأزرق، واستشهد عليه بقول أحيحة الأنصاري:
وذي ضغن كففت النفس عنه | وكنت على مساءته مقيتا |