آيات من القرآن الكريم

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ۗ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا
ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ

عليه البشر من المخافة لا على إظهار العصيان وكراهة الحق.
وقال غيره: بل هو من صفة المنافقين، الحُرَّاص على البقاء في
الدنيا، وبيّن أنهم يخشون القتل منهم كخشية الموت من الله.
وفيه تنبيه على جبنهم، وأنهم يخشون جيشهم الذين هم أمثالهم.
وذلك نهاية الخوف، وعلى هذا دلّ الشاعر في ذمّ قومٍ وجبنهم
حيث قال:
القوم أمثالكم لهم شعرء... في الرأس لا يُنشرون إن قتلوا
قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (٧٨) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٧٩)

صفحة رقم 1329

البروج: بيوت في قصور، وبها شُبِّه بروج السماء، وسُميت بها.
والمُشيَّدة المبنيّة بالشِّيد والمزينة بها، ومن قال المشيدة المطولة فنظر منه
إلى صفتها لا إلى حقيقة لفظها.
وفقهت كذا أي علمته بالتفكُّر، ومنه سمّي الفقه.
وقد حمل البروج في الآية على

صفحة رقم 1330

القصور، فيكون معناه كقول الأسود بن يعفر:
ولو كنت في غُمران يحرسُ بَابَه... أَرَاجيلُ أُحْبوشٌ وَأسْوَدُ ألِفُ
إذًا لأتتني حيث كنت منيتي... يَخُبُّ به حَادٍ لإِثري قَائف
وحمل على بروج السماء، فيكون كقول زهير:
ومن هاب أسباب المنية يلقها... ولو نال أسباب السماءبسلَّم
فعلى هذا وصف البروج بالمشيّدة على طريق التشبيه، ولاعتبار

صفحة رقم 1331

ذلك فُسِّرتْ بالمطوّلة، والقصد بذلك إلى نحو ما قيل: والموت
ختم في رقاب العباد، وإلى نحو معناه قصد بقوله: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ).
وقوله: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا).
أي لا يفهمون ما يوعظون به.
وقيل: عنى بالحديث الحادثة من صروف الزمان.
والمعنى ما لهم لا يتدبرون ما يحدث حالاً فحالاً من صروف الزمن.
كقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
وقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الآية.
قد طعن في ذلك قوم من الملحدة، وزعموا أن الآيتين متناقضتان.
قالوا: ويدل على تناقضهما على وهم مُوردها ونسيانه في الوقت

صفحة رقم 1332

ما قد سبق من كلامه، وإلا فأي ذي مسكة من العقل يقول:
(كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، ثم يقول منكرًا على ما قال ذلك (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فيثبت ما قد نفاه.
وينقض ما قد بناه، هذا من طعن الملحدة، فأما أهل الشرع
فقد تعلق بالآية الأولى الفرقة التي لقبها المعتزلة بالجبر.
فقالوا: إن قوله: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) عام يدل على أن الأفعال
الظاهرة من العباد هي من الله، وتأولوا قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يقتضي أن لا ينسب فعل السيئة إلى الله تعالى
بوجهٍ، وجعلوا الحسنة والسيئة في الآية الأولى بمعنى

صفحة رقم 1333

الخصْب والجدب والفقر والغنى، فأما طعْن الملاحدة فظاهر
الوهن، وذلك أن الحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة:

صفحة رقم 1334

كالحيوان الذي يقع على الإِنسان والفرس والحمار، أو من
الأسماء المختلفة كالعين، ولو أن قائلًا قال: الحيوان متكلم.
والحيوان غير متكلم، وأراد بالأول الإِنسان، وبالثاني الفرس
والحمار - لم يكن مناقضًا، وكذا إذا قيل: العين في الوجه.
والعين ليست في الوجه، وأراد بالأولى الجارحة، وبالثانية عين
الميزان أو السحاب، فكذلك الآية إذا أريد بالحسنة والسيئة في
الآية الثانية غير الذي أريد بهما في الآية الأولى، وفي هذا
قناعة لإِبطال هزيل هذا المعترض، ثم إذا تُؤمِّل مورد الكلام.
وسبب نزول الآية بأن ألا تعلّق لأحد الفريقين بالآية على وجه
يثلج صدرًا أو يزيل شكًّا، وسبب نزول ذلك أن قومًا أسلموا
ذريعة إلى غنى ينالونه، وخصب يجدونه، وظفر يحصِّلونه، فكان
إذا ناب أحدهم نائبة أو فاته محبوب، أو ناله مكروه أضاف سَيئُه
إلى النبي عليه الصلاة والسلام متطيرًا به، فقال تعالى: (تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي خصب وسعة (يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ)

صفحة رقم 1335

أي جدب وفقر، لقالوا بك ونسبوها إليك.
الحسنةِ والسيئة هاهنا هما المذكورتان في قوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وفي قوله: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ).
ونحو هذه الآية قوله في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ)،

صفحة رقم 1336

وفي قوله في صالح: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ).
إن قيل: ما الفرق بين قولك: هذا من عند الله، وهذا من الله.
حتى قال في الأول: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
وقال في الثاني: (فَمِنَ اللَّهِ)؟
قيل: قد قال بعضهم: إن قوله هذا من عند الله أعم.
فإنه قد يقال: فيما كان برضاه وبسخطه وفيما يحصل.
وقد أمر به ونهى عنه، ولا يقال: هو من الله إلا ما كان
برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر: إن أصبت فمن الله، وإن
أخطأت فمن الشيطان، ثم ذكر تعالى ما يصيب الإِنسان من
ثواب وعقاب ومحابّ ومكاره، مما في سببه صنع بشر، فقال:
(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ).
وعنى بالنفس المذكورة هاهنا المذكورة في قوله: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ).
ومقتضى الآية كقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ).

صفحة رقم 1337

وكقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وعلى هذا فسَّر ابن عباس فقال: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ): يوم بدر (فَمِنَ اللَّهِ)، (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ): يوم حنين (فَمِنْ نَفْسِكَ).
إن قيل: كيف سمَّى العقاب سيئة، ومعلوم أنه في الحقيقة ليس بسيئة؟
قيل: إن ذلك كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)
وقد تقدم مثل ذلك.
إن قيل: إذا كان معنى الآية الثانية على

صفحة رقم 1338

ما ذكرت في أنه أريد به الثواب والعقاب فهلّا قال: ما أصابك
من حسنة وسيئة فمن نفسك، إذا كان مقتضى ثوابه وعقابه فعل
العبد؟
قيل: إنما نسب الله تعالى الحسنة إلى نفسه في الثواب.
تنبيهًا أنه سبب الخيرات، ولولاه لما حصل بوجه، فإنه يكسبه
للعبد بإرادة من الله وأمر وحثّ وتوفيقٍ، وأما السيئة وإن كانت
بإرادة من الله عند قوم فليست بأمر منه ولا حث ولا توفيق، ومع
ذلك أدّب بذكر ذلك عباده، ليراعوا فيما ينالهم نعمته عليهم.
وينسبوا الحسنات إليه، ويعلموا أنه سبب كل خيرات، وأنه لولاه
لما حصل منها شيء، وعلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام:
"ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله ".
قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا".
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تخش إلا ذنبك، ولا ترج إلا ربّك "، إن قيل: ما الفرق بين الحسن

صفحة رقم 1339

والحسنة والحسنى، والسيئ والسيئة والسوءى؟
قيل: الحسن والحسنة يقالان في الأعيان والأحداث.
ولكن الحسنة إذا استعملت اسمًا فمتعارف في الأحداث دون الأعيان.
والحسنى لا تقال إلا في الأحداث، ومتى قيل: رجل سيِّئ
فإنما يعني به المسيء.
إن قيل: كيف قوبل الحسنة بالسيئة، وحقُّها أن تقابل بما يقتضي
معنى المسرة كما قال: مساءة ومسّرة، وساءه وسّره، ولا يقال في مقابلة ساء شيء من لفظ حسن؟
قيل: الحسن لفظ عام كما تقدم، والحسنة والحسنى المقابل بهما السيئة والسُّوءى مخصوصان في الأفعال ولما كان كل
فعل حسن يسّر صاحبه، وكلّ فعل قبيح يسوء صاحبه، صار
القبح والسوء في الأفعال متلازمين فيصح أن يُقال: الحسنة بالسيئة.
إن قيل: من المخاطب في قوله: (مَا أَصَابَكَ)؟

صفحة رقم 1340

قيل: قال بعضهم: هو خطاب للنبي - ﷺ -.
ومعناه للقوم الذين يبكتهم.
وفي هذا النوع من الخطاب ضرب من التعريض، ولأجل قصد
التعريض في نحوه. قيل: إياك أعني واسمعي يا جارة.
ويدلّ على كونه خطابًا له قوله من بعده: (وَأَرْسَلْنَاكَ).
وقيل: هو خطاب لكل إنسان، وذلك نحو قول القائل:
أيها الإِنسان وكلكم ذلك الإنسان.
وقال ابن بحر: هو خطاب للفريق المذكور في قوله:
(إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ)
قال: ولما كان لفظ الفريق والحي والجند مفردًا صحَّ أن يخاطب

صفحة رقم 1341

ويخبر عنه بلفظ الواحدة تارة وبلفظ الجمع تارة، كلفظ كل ونحوه
من الألفاظ، وعلى هذا قول الشاعر:
تفرق أهلانا بُثَيْن فمنهم... فريق أقام واستقلَّ فريق
وكل هذا كلام في مقتضى حكم اللفظ، فأما من حيث المعنى
فالناس خاصهم وعامهم مراد بقوله: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)
إن قيل: ما وجه قوله: (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا) بعد ذلك الكلام؟
قيل: لما كان قوله: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)
إنذازا لهم، نبه بذلك أنه قد أزاح عللهم به، وأنهم متى عصوا فلا
حجة لهم، إشارة إلى قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
وقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي يشهد تعالى ما يفعله

صفحة رقم 1342
تفسير الراغب الأصفهاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى
تحقيق
هند بنت محمد سردار
الناشر
كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
سنة النشر
1422
عدد الأجزاء
2
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية