آيات من القرآن الكريم

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ۗ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا
ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ

بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَخْشَوْنَهُمْ كَخَشْيَةِ اللَّه وَأَشَدَّ خَشْيَةً، وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مُنَافَاةٌ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ أَشَدُّ خَشْيَةً فَمَعَهُ مِنَ الْخَشْيَةِ مِثْلُ خَشْيَتِهِ مِنَ اللَّه وَزِيَادَةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٤٧] يَعْنِي أَنَّ مَنْ يُبْصِرُهُمْ يقول هذا الكلام، فكذا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لَا اعْتِرَاضًا عَلَى اللَّه، لَكِنْ جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ وَحُبًّا لِلْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِكَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى كَاتِبًا لِلْقِتَالِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ الْقِتَالَ عَلَيْهِمْ فِي زَعْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي دَعْوَاهُ، ثُمَّ قَالُوا: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وَهَذَا كالعلة لكراهتهم لا يجاب الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ، أَيْ هَلَّا تَرَكْتَنَا حَتَّى نَمُوتَ بِآجَالِنَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ فَقَالَ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ، وَنِعَمَ الْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَنِعَمَ الْآخِرَةِ مُؤَبَّدَةٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَشُوبَةٌ بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْمَكَارِهِ، وَنِعَمَ الْآخِرَةِ صَافِيَةٌ عَنِ الْكُدُرَاتِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَشْكُوكَةٌ فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ تَنَعُّمًا لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ عَاقِبَتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَنِعَمَ الآخرة يقينية، وكل هذه الوجوه تجب رُجْحَانَ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الشَّرْطَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِمَنِ اتَّقى وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ».
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (يُظْلَمُونَ) بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى سَبِيلِ الْخِطَابِ، وَيُؤَيِّدُ التَّاءَ قَوْلُهُ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ: قُلْ يُفِيدُ الْخِطَابَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ عَلَى طَاعَتِهِمُ الثَّوَابَ، وَإِلَّا لَمَا تَحَقَّقَ نَفْيُ الظُّلْمِ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ مِنْهُ الظُّلْمُ وَإِنْ كُنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ، وَإِلَّا لما يصح التمدح به.
المسألة الثالثة: قوله: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ مِثْلَ فَتِيلِ النَّوَاةِ وَهُوَ مَا تَفْتِلُهُ بِيَدِكَ ثُمَّ تُلْقِيهِ احْتِقَارًا. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ.
[سورة النساء (٤) : آية ٧٨]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ] وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَبْكِيتُ مَنْ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَ فَرْضِ الْقِتَالِ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ، فَقَالَ تَعَالَى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَالْجِهَادُ مَوْتٌ مُسْتَعْقِبٌ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ، فَبِأَنْ يَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُسْتَعْقِبًا لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ كَانَ أَوْلَى مِنْ أَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الْأَحْزَابِ: ١٦] وَالْبُرُوجُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هِيَ الْقُصُورُ

صفحة رقم 144

وَالْحُصُونُ، وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ مِنَ الظُّهُورِ، يُقَالُ: تَبَرَّجَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا أَظْهَرَتْ مَحَاسِنَهَا، وَالْمُشَيَّدَةُ الْمُرْتَفِعَةُ، وَقُرِئَ مُشَيَّدَةٍ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مِنْ شَادَ القصر إِذَا رَفَعَهُ أَوْ طَلَاهُ بِالشَّيْدِ وَهُوَ الْجَصُّ، وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ بِكَسْرِ الْيَاءِ وَصْفًا لَهَا بِفِعْلِ فَاعِلِهَا مَجَازًا، كَمَا قَالُوا: قَصِيدَةٌ شَاعِرَةٌ، وَإِنَّمَا الشَّاعِرُ قَائِلُهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ كَوْنَهُمْ مُتَثَاقِلِينَ عَنِ الْجِهَادِ خَائِفِينَ مِنَ الْمَوْتِ غَيْرَ رَاغِبِينَ/ فِي سَعَادَةِ الْآخِرَةِ حَكَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَصْلَةً أُخْرَى قَبِيحَةً أَقْبَحَ مِنَ الْأُولَى، وَفِي النَّظْمِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَائِفِينَ مِنَ الْمَوْتِ الْمُتَثَاقِلِينَ فِي الْجِهَادِ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا جَاهَدُوا وَقَاتَلُوا فَإِنْ أَصَابُوا واحدة وَغَنِيمَةً قَالُوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَكْرُوهٌ قَالُوا: هَذَا مِنْ شُؤْمِ مُصَاحَبَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ حُمْقِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَشِدَّةِ عِنَادِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتِ الْمَدِينَةُ مَمْلُوءَةً مِنَ النِّعَمِ وَقْتَ مَقْدَمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا ظَهَرَ عِنَادُ الْيَهُودِ وَنِفَاقُ الْمُنَافِقِينَ أَمْسَكَ اللَّه عَنْهُمْ بَعْضَ الْإِمْسَاكِ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ: مَا رَأَيْنَا أَعْظَمَ شُؤْمًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، نَقَصَتْ ثِمَارُنَا وَغَلَتْ أَسْعَارُنَا مُنْذُ قَدِمَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَعْنِي الْخَصْبَ وَرُخْصَ السِّعْرِ وَتَتَابُعَ الْأَمْطَارِ قَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ جَدْبٌ وَغَلَاءُ سِعْرٍ قَالُوا هَذَا مِنْ شُؤْمِ مُحَمَّدٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَافِ: ١٣١] وَعَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النَّمْلِ: ٤٧].
الْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الْحَسَنَةِ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالْغَنِيمَةُ، وَمِنَ السَّيِّئَةِ الْقَتْلُ وَالْهَزِيمَةُ قَالَ الْقَاضِي:
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ لِأَنَّ إِضَافَةَ الْخَصْبِ وَالْغَلَاءِ إِلَى اللَّه وَكَثْرَةِ النِّعَمِ وَقِلَّتِهَا إِلَى اللَّه جَائِزَةٌ، أَمَّا إِضَافَةُ النَّصْرِ وَالْهَزِيمَةِ إِلَى اللَّه فَغَيْرُ جَائِزَةٍ، لِأَنَّ السَّيِّئَةَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ لَمْ يَجُزْ إِضَافَتُهَا إِلَى اللَّه، وَأَقُولُ: الْقَوْلُ كَمَا قَالَ عَلَى مَذْهَبِهِ، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَالْكُلُّ دَاخِلٌ فِي قَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ السَّيِّئَةَ تَقَعُ عَلَى الْبَلِيَّةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْحَسَنَةَ عَلَى النِّعْمَةِ وَالطَّاعَةَ قَالَ تَعَالَى:
وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٦٨] وَقَالَ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هُودٍ: ١١٤].
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي كُلِّ الْحَسَنَاتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي كُلِّ السَّيِّئَاتِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنَ اللَّه، ولما ثبت بما ذكرناه أَنَّ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ دَاخِلَتَانِ تَحْتَ اسْمِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ كَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي مِنَ اللَّه وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قيل: المراد هاهنا بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ لَيْسَ هُوَ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: اتِّفَاقُ الْكُلِّ

صفحة رقم 145

عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي مَعْنَى الْخَصْبِ وَالْجَدْبِ فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِهِمَا. الثَّانِي: أَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْخَيْرُ وَالطَّاعَةُ لَا يُقَالُ فِيهَا أَصَابَتْنِي، إِنَّمَا يُقَالُ أَصَبْتُهَا، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ/ أَصَابَتْ فُلَانًا حَسَنَةٌ بِمَعْنَى عَمِلَ خَيْرًا، أَوْ أَصَابَتْهُ سَيِّئَةٌ بِمَعْنَى عَمِلَ مَعْصِيَةً، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتُمْ لَقَالَ إِنْ أَصَبْتُمْ حَسَنَةً. الثَّالِثُ:
لَفْظُ الْحَسَنَةِ وَاقِعٌ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَلَى الْمَنْفَعَةِ، وهاهنا أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مُرَادَةٌ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ الطَّاعَةِ مُرَادَةً، ضَرُورَةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَفْهُومَيْهِ مَعًا.
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّكُمْ تُسَلِّمُونَ أَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أَصَابَنِي تَوْفِيقٌ مِنَ اللَّه وَعَوْنٌ مِنَ اللَّه، وَأَصَابَهُ خِذْلَانٌ مِنَ اللَّه، وَيَكُونُ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ التَّوْفِيقَ وَالْعَوْنَ تِلْكَ الطَّاعَةَ، وَمِنَ الْخُذْلَانِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فَهُوَ حَسَنَةٌ، فَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الطَّاعَةُ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ السَّعَادَةُ الْحَاضِرَةُ، فَاسْمُ الْحَسَنَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مُتَوَاطِئُ الِاشْتِرَاكِ، فَزَالَ السُّؤَالُ. فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ إِلَّا ذَاكَ مَا ثَبَتَ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ كُلُّ مَا سِوَاهُ، فَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ إِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْمُؤَثِّرِ فَسَدَ الِاسْتِدْلَالُ بِجَوَازِ الْعَالَمِ وَحُدُوثِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ مُحْتَاجًا إِلَى الْمُؤَثِّرِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّه مُمْكِنًا كَانَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّه مُسْتَنِدًا إِلَى اللَّه، وَهَذَا الْحُكْمُ لَا يَخْتَلِفُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُمْكِنُ مَلَكًا أَوْ جَمَادًا أَوْ فِعْلًا لِلْحَيَوَانِ أَوْ صِفَةً لِلنَّبَاتِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لا ستناد الْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ كَوْنِهِ مُمْكِنًا كَانَ الْكُلُّ فِيهِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَهَذَا بُرْهَانٌ أَوْضَحُ وَأَبْيَنُ مِنْ قُرْصِ الشَّمْسِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُهُ:
قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْبُرْهَانُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ كل ما سوى اللَّه مستندا إلى اللَّه عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ، قَالَ تَعَالَى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّعَجُّبِ مِنْ عَدَمِ وُقُوفِهِمْ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ مَعَ ظُهُورِهِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُصُولُ الْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى لَمْ يبق هذا التَّعَجُّبِ مَعْنًى الْبَتَّةَ، لِأَنَّ السَّبَبَ فِي عَدَمِ حُصُولِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَهَا وَمَا أَوْجَدَهَا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ هَذَا التَّعَجُّبَ، فَحُصُولُ هَذَا التَّعَجُّبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِإِيجَادِ الْعَبْدِ لَا بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ إِلَّا التَّمَسُّكَ بِطَرِيقَةِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِالْعِلْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ هَذِهِ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي وَصْفَ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ، وَالْحَدِيثُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُحْدَثًا.
وَالْجَوَابُ: مُرَادُكُمْ بِالْقُرْآنِ لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الْعِبَارَاتُ، وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِي كَوْنِهَا مُحْدَثَةً.

صفحة رقم 146
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية