آيات من القرآن الكريم

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﰿ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ

هذا ومن باب الإشارة في الآيات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ خطاب لأهل الإيمان العلمي، ونهي لهم أن يناجوا ربهم أو يقربوا مقام الحضور والمناجاة مع الله سبحانه وتعالى في حال كونهم سكارى خمر الهوى ومحبة الدنيا، أو نوم الغفلة حتى يصحوا ولا يشتغلوا بغير مولاهم، والمقصود النهي عن إشغال القلب بسوى الرب، وقيل: إنه خطاب لأهل المحبة والعشق الذين أسكرهم شراب ليلى ومدام مي، فبقوا حيارى مبهوتين لا يميزون الحي من الليّ ولا يعرفون الأوقات ولا يقدرون على أداء شرائط الصلوات فكأنهم قيل لهم: يا أيها العارفون بي وبصفاتي وأسمائي السكارى من شراب محبتي وسلسبيل أنسي وتسنيم قدمي وزنجبيل قربي ومدام عشقي وعقار مشاهدتي إذا كشفت لكم جمالي وآنستكم في مقام ربوبيتي فلا تكلفوا نفوسكم أداء الرسوم الظاهرة لأنكم في جنان مشاهدتي، وليس في الجنان تقييد، وإذا سكنتم من سكركم وصرتم صاحين بنعت التمكين فأدوا ما افترضته عليكم وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وحاصله رفع التكليف عن المجذوبين الغارقين في بحار

صفحة رقم 59

المشاهدة إلى أن يعقلوا ويصحوا، فالإيمان على هذا محمول على الإيمان العيني والمعنى الأول أولى بالإشارة وَلا جُنُباً أي ولا تقربوا الصلاة في حال كونكم بعداء عن الحق لشدة الميل إلى النفس ولذاتها إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي سالكي طريق من طرق تمتعاتها بقدر الضرورة كعبور طريق الاغتذاء بالمأكل والمشرب لسد الرمق أو الاكتساء لدفع ضرورة الحر والقرّ وستر العورة، أو المباشرة لحفظ النسل حَتَّى تَغْتَسِلُوا وتتطهروا بمياه التوبة والاستغفار وحسن التنصل والاعتذار وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى بأدواء الرذائل أَوْ عَلى سَفَرٍ في بيداء الجهالة والحيرة لطلب الشهوات أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي الاشتغال بلوث المال ملوثا بمحبته أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أي لازمتم النفوس وباشرتموها في قضاء وطرها فَلَمْ تَجِدُوا ماءً علما يهديكم إلى التخلص عن ذلك فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أي فاقصدوا صعيد استعدادكم أو ارجعوا إلى المرشدين أرباب الاستعداد فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أي امسحوا ذواتكم وصفاتكم بما يتصاعد من أنوار استعدادهم وتخلقوا بأخلاقهم واسلكوا مسالكهم حتى تمحى عنكم تلك الهيئات المهلكة وتبقى أنفسكم صافية إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا يعفو عما صدر منكم بمقتضى تلك الهيئات غَفُوراً يستر الشين بالزين أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً أي بعضا مِنَ الْكِتابِ وهو اعترافهم بالحق مع احتجابهم برؤية الخلق يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ويتركون التوحيد الحقيقي وَيُرِيدُونَ مع ذلك أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ الحق وهو التوحيد الصرف وعدم رؤية الأغيار فتكونوا مثلهم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وعنى بهم أولئك الموصوفين بما ذكر، وسبب عداوتهم لهم اختلاف الأسماء الظاهرة فيهم ولهذا ودوا تكفيرهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يلي أموركم بالتوفيق لطريق التوحيد وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً ينصركم على أعدائكم فلا يستطيعون إيذاءكم وردكم عما أنتم عليه من الحق مِنَ الَّذِينَ هادُوا رجعوا عن مقتضى الاستعداد من نفي السوي إلى ما سولت لهم أنفسهم واستنتجته أفكارهم وأيدته أنظارهم ودعت إليه علومهم الرسمية يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يحتمل أن يراد بالكلم معناها الظاهر أي أنهم يؤولون جميع ما يشعر ظاهره بالوحدة على حسب إرادتهم زاعمين أنه لا يمكن أن يكون غير ذلك مرادا لله تعالى لا قصدا ولا تبعا لا عبارة ولا إشارة، ويحتمل أن يراد بها هذه الممكنات فإنها كلم الله تعالى بمعنى الدوال عليه، أو كلمه بمعنى آثار كلمه أعنى كن المتعددة حسب تعلقات الإرادة.
ومعنى تحريفها عن مواضعها إمالتها عما وضعها الله تعالى فيه من كونها مظاهر أسمائه فيثبتون لها وجودا غير وجود الله تعالى: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا ما يشعر بالوحدة أو سمعنا ما يقال في هذه الممكنات وَعَصَيْنا فلا نقول بما تقولون ولا نعتقد ما تعتقدون وَيَقُولُونَ أيضا في أثناء مخاطبتهم للعارف مستخفين مستهزئين به اسْمَعْ ما يعارض ما تدعيه غَيْرَ مُسْمَعٍ أي لا أسمعك الله وَراعِنا يعنون رميه بالرعونة وهي الحماقة لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ الذي عليه العارف بربه يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي فهموا عليه الظاهر ولم يفهموا ما أشار إليه من علم الباطن آمِنُوا بِما نَزَّلْنا على قلوب أوليائي من العلم اللدني مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من علم الظاهر إذ كل باطن يخالف الظاهر فهو باطل مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً وهي وجوه القلوب بالعمى فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ناظرة إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانت في أصل الفطرة متوجهة إلى ما في الميثاق الأول أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ فنمسخ صورهم المعنوية كما مسخنا صور اليهود الحسية، ويحتمل أن يكون هذا خطابا لمن أوتي كتاب الاستعداد أمرهم بالإيمان الحقيقي وهددهم بإزالة استعدادهم وردهم إلى أسفل سافلين، وإبعادهم بالمسخ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلا بالتوبة عنه لشدة غيرته «لا أحد أغير من الله» وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له تاب أو لم يتب، وقد ذكروا أن الشرك ثلاث مراتب ولكل مرتبة توبة: فشرك جلي بالأعيان، وهو للعوام كعبدة الأصنام والكواكب مثلا، وتوبته إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية، وشرك خفي بالأوصاف-

صفحة رقم 60

وهو للخواص وفسر بشوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية- وتوبته الالتفات عن ذلك الالتفات- وشرك أخفى لخواص الخواص وهو الأنانية- وتوبته بالوحدة- وهي فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أيّ شرك كان من هذه المراتب فَقَدِ افْتَرى وارتكب حسب مرتبته إِثْماً عَظِيماً لا يقدر قدره أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ كعلماء السوء من أهل الظاهر الذين لم يحصلوا من علومهم سوى العجب والكبر والحسد والحقد وسائر الصفات الرذيلة بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ كالعارفين به الذين لا يرون لأنفسهم فعلا، ويحتمل أن يكون هذا تعجيبا ممن يزكي نفسه بنفسه ويسلك في مسالك القوم على رأيه غير معتمد على مرب مرشد له من ولي كامل أو أثارة من علم إلهي كبعض المتفلسفين من أهل الرياضات انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعاء تزكية نفوسهم من صفاتها وما تزكت أو بانتحال صفات الله تعالى إلى أنفسهم مع وجودها وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً ظاهرا لا خفاء فيه أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً بعضا مِنَ الْكِتابِ الجامع، وأشير به إلى علم الظاهر يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ أي بجبت النفس وَالطَّاغُوتِ أي طاغوت الهوى فيميلون مع أنفسهم وهواهم وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لأجل الذين ستروا الحق هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن معرفته وقربه وَمَنْ يَلْعَنِ أي يبعده اللَّهُ عن ذلك فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً يهديه إلى الحق أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ذم لهم بالبخل الذي هو الوصمة الكبرى عند أهل الله تعالى أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من المعرفة وإعزازهم بين خلقه وإرشادهم لمن استرشدهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ وهم المتبعون له على ملته من أهل المحبة والخلة الْكِتابَ أي علم الظاهر أو الجامع له ولعلم الباطن وَالْحِكْمَةَ علم الباطن أو باطن الباطن وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً وهو الوصول إلى العين وعدم الوقوف عند الأثر إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا أو أنكروا على أوليائنا الذين هم مظاهر الآيات سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً عظيمة وهي نار القهر والحجاب، أو نار الحسد كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ وتقطعت أماني نفوسهم الأمارة ومقتضيات هواها بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بتجدد نوع آخر من أنواع تجليات القهر أو بتجدد نعم أخرى تظهر على أوليائنا الذين حسدوهم وأنكروا عليهم لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ما داموا منغمسين في أوحال الرذائل إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال التي يصلحون بها لقبول التجليات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشف خالِدِينَ فِيها أَبَداً لبقاء أرواحهم المفاضة عليها ما يروحها لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ من
التجليات التي يلتذون بها مُطَهَّرَةٌ من لوث النقص وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا وهو ظل الوجود والصفات الإلهية وذلك بمحو البشرية عنهم، نسأل الله تعالى من فضله فلا فضل إلا فضله، ثم إنه سبحانه وتعالى أرشد المؤمنين بأبلغ وجه إلى بعض أمهات الأعمال الصالحة فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة دعا عثمان بن أبي طلحة فلما أتاه قال: أرني المفتاح فأتاه به فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرني المفتاح يا عثمان فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح، فقال: هاك بأمانة الله تعالى فقام ففتح الكعبة فوجد فيها تمثال إبراهيم عليه السلام معه قداح يستقسم بها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما للمشركين قاتلهم الله تعالى وما شأن إبراهيم عليه السلام وشأن القداح وأزال ذلك، وأخرج مقام إبراهيم عليه السلام وكان في الكعبة ثم قال: أيها الناس هذه القبلة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل عليه السلام- فيما ذكر لنا- برد المفتاح فدعا عثمان بن أبي

صفحة رقم 61

طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ» الآية.
وفي رواية الطبراني «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال حين أعطى المفتاح: خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم»
يعني سدانة الكعبة،
وفي تفسير ابن كثير «أن عثمان دفع المفتاح بعد ذلك إلى أخيه شيبة بن أبي طلحة فهو في يد ولده إلى اليوم»، وذكر الثعلبي والبغوي والواحدي «أن عثمان امتنع عن إعطاء المفتاح للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله تعالى وجهه يده وأخذه منه فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكعبة وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يجمع له السدانة والسقاية فنزلت فأمر عليا كرم الله تعالى وجهه أن يرد ويعتذر إليه
وصار ذلك سببا لإسلامه ونزول الوحي بأن السدانة في أولاده أبدا وما ذكرناه أولى بالاعتبار.
أما أولا فلما قال الأشموني: إن المعروف عند أهل السير أن عثمان بن طلحة أسلم قبل ذلك في هدنة الحديبية مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص- كما ذكره ابن إسحاق وغيره، وجزم به ابن عبد البر في الاستيعاب والنووي في تهذيبه والذهبي وغيرهم، وأما ثانيا فلما فيه من المخالفة لما ذكره ابن كثير، وقد نصوا على أنه هو الصحيح، وأما ثالثا فلأن المفتاح على هذا لا يعد أمانة لأن عليا كرم الله تعالى وجهه أخذه منه قهرا وما هذا شأنه هو الغصب لا الأمانة، والقول- بأن تسمية ذلك أمانة لأن الله تعالى لم يرد نزعه منه، أو للإشارة إلى أن الغاصب يجب أن يكون كالمؤتمن في قصد الرد، أو إلى أن عليا كرم الله تعالى وجهه لما قصد بأخذه الخير وكان أيضا بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل كالمؤتمن في أنه لا ذنب عليه لا يخلو عن بعد، وأيّا ما كان فالخطاب يعم كل أحد- كما أن الأمانات، وهي جمع أمانة مصدر سمي به المفعول- نعم الحقوق المتعلقة بذممهم من حقوق الله تعالى وحقوق العباد سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية، وعموم الحكم لا ينافي خصوص السبب، وقد روي ما يدل على العموم عن ابن عباس وأبيّ وابن مسعود..
والبراء بن عازب وأبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وإليه ذهب الأكثرون، وعن زيد بن أسلم- واختاره الجبائي وغيره أن هذا خطاب لولاة الأمر أن يقوموا برعاية الرعية وحملهم على موجب الدين والشريعة، وعدوا من ذلك تولية المناصب مستحقيها، وجعلوا الخطاب الآتي لهم أيضا، وفي تصدير الكلام- بأن- الدالة على التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال والدلالة على الاعتناء ما لا مزيد عليه، ولهذا
ورد من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا إيمان لمن لا أمانة له»
.
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة».
وأخرج عن ميمون بن مهران «ثلاث تؤدين إلى البر والفاجر الرحم توصل برة كانت أو فاجرة. والأمانة تؤدي إلى البر والفاجر والعهد يوفى به للبر والفاجر»،
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان»
والأخبار في ذلك كثيرة، وقرىء- الأمانة- بالإفراد، والمراد الجنس لا المعهود أي يأمركم بأداء أيّ أمانة كانت.
وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم، فالواو للعطف، والظرف متعلق بما بعد أن وهو معطوف على أَنْ تُؤَدُّوا والجار متعلق به أو بمقدر وقع حالا من فاعله أي ويأمركم أَنْ تَحْكُمُوا بالإنصاف والسوية، أو متلبسين بذلك إذا قضيتم بين الناس ممن ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم، وهذا مبني على مذهب من يرى جواز تقدم الظرف

صفحة رقم 62

المعمول لما في حيز الموصول الحرفي عليه، والفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وفي التسهيل الفصل بين العاطف والمعطوف إذا لم يكن فعلا بالظرف والجار والمجرور جائز وليس ضرورة خلافا لأبي علي، ولقيام الخلاف في المسألة ذهب أبو حيان إلى أن الظرف متعلق بمقدر يفسره المذكور أي- وأن تحكموا إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا- ليسلم مما تقدم، ولا يجوز تعلقه بما قبله لعدم استقامة المعنى لأن تأدية الأمانة ليست وقت الحكومة، والمراد بالحكم ما كان عن ولاية عامة أو خاصة، وأدخلوا في ذلك ما كان عن تحكيم.
وفي بعض الآثار أن صبيين ارتفعا إلى الحسن رضي الله تعالى عنه ابن علي كرم الله تعالى وجهه في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أي الخطين أجود فبصر به علي كرم الله تعالى وجهه فقال: يا بني انظر كيف تحكم فإن هذا حكم والله تعالى سائلك عنه يوم القيامة
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال وإظهار الاسم الأعظم لتربية المهابة وهو اسم إِنَّ وجملة نِعِمَّا يَعِظُكُمْ خبرها، وما إما بمعنى الشيء معرفة تامة، ويَعِظُكُمْ صفة موصوف محذوف وهو المخصوص بالمدح، أي نعم الشيء شيء يعظكم به، ويجوز- نعم هو أي الشيء شيئا يعظكم به- والمخصوص بالمدح محذوف، وإما بمعنى الذي وما بعدها صلتها وهو فاعل- نعم- والمخصوص محذوف أيضا، أي نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل- قاله أبو البقاء- ونظر فيه بأنه قد تقرر أن فاعل- نعم- إذا كان مظهرا لزم أن يكون محلى بلام الجنس أو مضافا إليه كما في المفصل، وأجيب بأن سيبويه جوز قيام ما إذا كانت معرفة تامة مقامه، وابن السراج أيضا جوز قيام الموصولة لأنها في معنى المعرف باللام، واعترض القول بوقوع ما تمييزا بأنها مساوية للمضمر في الإبهام فلا تميزه لأن التمييز لبيان جنس المميز، وأجيب بمنع كونها مساوية له لأن المراد بها شيء عظيم، والضمير لا يدل على ذلك، ومن الغريب ما قيل: إن ما كافة فتدبر، وقد تقدم الكلام فيما في نِعِمَّا من القراءات إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بجميع المسموعات ومنها أقوالكم بَصِيراً بكل شيء، ومن ذلك أفعالكم، ففي الجملة وعد ووعيد،
وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: سوّ بين الخصمين في لحظك ولفظك
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بعد ما أمر سبحانه ولاة الأمور بالعموم أو الخصوص بأداء الأمانة والعدل في الحكومة أمر الناس بإطاعتهم في ضمن إطاعته عز وجل وإطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال عز من قائل: أَطِيعُوا اللَّهَ أي الزموا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ المبعوث لتبليغ أحكامه إليكم في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه أيضا، وعن الكلبي أن المعنى أَطِيعُوا اللَّهَ في الفرائض وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في السنن، والأول أولى وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام وقطعا لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن وإيذانا بأن له صلّى الله عليه وسلّم استقلالا بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثمّ لم يعد في قوله سبحانه: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ إيذانا بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، واختلف في المراد بهم فقيل: أمراء المسلمين في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبعده ويندرج فيهم الخلفاء والسلاطين والقضاة وغيرهم، وقيل: المراد بهم أمراء السرايا، وروي ذلك عن أبي هريرة وميمون بن مهران، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي،
وأخرجه ابن عساكر عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد في سرية، وفيها عمار بن ياسر فساروا قبل القوم الذين يريدون فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا وأتاهم ذو العيينتين (١) فأخبرهم فأصبحوا قد هربوا غير رجل

(١) أي الجاسوس.

صفحة رقم 63

أمر أهله فجمعوا متاعهم ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد يسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن قومي لما سمعوا بكم هربوا وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت؟ فقال عمار: بل هو ينفعك فأقم فأقام فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل فأخذه وأخذ ماله فبلغ عمارا الخبر فأتى خالدا فقال: خل عن الرجال فإنه قد أسلم وهو في أمان مني، قال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير فاستبا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال خالد: يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يشتمني فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم: يا خالد لا تسب عمارا فإن من سب عمارا سبه الله تعالى ومن أبغض عمارا أبغضه الله تعالى ومن لعن عمارا لعنه الله تعالى فغضب عمار فقام فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي، فأنزل الله تعالى هذه الآية».
ووجه التخصيص على هذا أن في عدم إطاعتهم ولا سلطان ولا حاضرة مفسدة عظيمة، وقيل: المراد بهم أهل العلم، وروى ذلك غير واحد عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد والحسن وعطاء وجماعة، واستدل عليه أبو العالية بقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣] فإن العلماء هم المستنبطون المستخرجون للأحكام، وحمله كثير- وليس ببعيد- على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم لأن للأمراء تدبير أمر الجيش والقتال، وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز، واستشكل إرادة العلماء لقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فإن الخطاب فيه عام للمؤمنين مطلقا والشيء خاص بأمر الدين بدليل ما بعده، والمعنى فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وأولو الأمر منكم في أمر من أمور الدين فَرُدُّوهُ فراجعوا فيه إِلَى اللَّهِ أي إلى كتابه وَالرَّسُولِ أي إلى سنته، ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء إذ المراد بهم المجتهدون والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم.
وجعل بعضهم: الخطاب فيه لأولي الأمر على الالتفات ليصح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل، وقيل: على إرادة الأعم يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين وتكون المنازعة بينهم وبين أولي الأمر باعتبار بعض الأفراد وهم الأمراء، ثم إن وجوب الطاعة لهم ما داموا على الحق فلا يجب طاعتهم فيما خالف الشرع،
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا طاعة لبشر في معصية الله تعالى»،
وأخرج هو وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عنه أيضا كرم الله تعالى وجهه قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية واستعمل عليهم رجلا (١) من الأنصار فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا له حطبا قال: أوقدوا نارا فأوقدوا نارا قال: ألم يأمركم صلّى الله عليه وسلّم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النار فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على رسول الله ذكروا له ذلك فقال عليه الصلاة والسلام لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف».
وهل يشمل المباح أم لا؟ فيه خلاف، فقيل: إنه لا يجب طاعتهم فيه لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله الله تعالى ولا أن يحلل ما حرمه الله تعالى، وقيل: تجب أيضا كما نص عليه الحصكفي وغيره، وقال بعض محققي الشافعية: يجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم، وقال بعضهم: الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه

(١) اسمه علقمة اهـ منه.

صفحة رقم 64

مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرا فقط بخلاف ما فيه ذلك فإنه يجب باطنا أيضا، وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به، ثم هل العبرة بالمباح والمندوب المأمور به باعتقاد الأمر فإذا أمر بمباح عنده سنة عند المأمور يجب امتثاله ظاهرا فقط أو المأمور فيجب باطنا أيضا وبالعكس فينعكس ذلك كل محتمل؟ وظاهر إطلاقهم في مسألة أمر الإمام الناس بالصوم للاستسقاء الثاني لأنهم لم يفصلوا بين كون الصوم المأمور به هناك مندوبا عند الآمر أو لا، وأيد بما قرروه في باب الاقتداء من أن العبرة باعتقاد المأموم لا الإمام، ولم أقف على ما قاله أصحابنا في هذه المسألة فليراجع هذا، واستدل بالآية من أنكر القياس وذلك لأن الله تعالى أوجب الرد إلى الكتاب والسنة دون القياس، والحق أن الآية دليل على إثبات القياس بل هي متضمنة لجميع الأدلة الشرعية، فإن المراد بإطاعة الله العمل بالكتاب، وبإطاعة الرسول العمل بالسنة، وبالرد إليهما القياس لأن رد المختلف فيه الغير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه، وليس القياس شيئا وراء ذلك، وقد علم من قوله سبحانه: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ أنه عند عدم النزاع يعمل بما اتفق عليه وهو الإجماع إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ متعلق بالأمر الأخير الوارد في محل النزاع إذ هو المحتاج إلى التحذير عن المخالفة، وجواب الشرط محذوف عند جمهور البصريين ثقة بدلالة المذكور عليه، والكلام على حد- إن كنت ابني فأطعني- فإن الإيمان بالله تعالى يوجب امتثال أمره، وكذا الإيمان باليوم الآخر لما فيه من العقاب على المخالفة ذلِكَ أي الرد المأمور به العظيم الشأن ولو حمل- كما قيل- على جميع ما سبق على التفريع لحسن.
وقال الطبرسي: إنه إشارة إلى ما تقدم من الأوامر أي طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأولي الأمر، ورد المتنازع فيه إلى الله والرسول عليه الصلاة والسلام خَيْرٌ لكم وأصلح وَأَحْسَنُ أي أحمد في نفسه تَأْوِيلًا أي عاقبة، قاله قتادة والسدي وابن زيد، وأفعل التفضيل في الموضعين للإيذان بالكمال على خلاف الموضوع له، ووجه تقديم الأول على الثاني أن الأغلب تعلق أنظار الناس بما ينفعهم، وقيل: المراد خَيْرٌ لكم في الدنيا وَأَحْسَنُ عاقبة في الآخرة، ووجه التقديم عليه أظهر.
وعن الزجاج أن المراد أَحْسَنُ تَأْوِيلًا من تأويلكم أنتم إياه من غير رد إلى أصل من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم. فالتأويل إما بمعنى الرجوع إلى المآل والعاقبة، وإما بمعنى بيان المراد من اللفظ الغير الظاهر منه، وكلاهما حقيقة، وإن غلب الثاني في العرف ولذا يقابل التفسير.
أَلَمْ تَرَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتعجيب له عليه الصلاة والسلام أي ألم تنظر أو ألم ينته علمك إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ من الزعم، وهو كما في القاموس مثلث القول: الحق والباطل والكذب ضد، وأكثر ما يقال: فيما يشك فيه، ومن هنا قيل: إنه قول بلا دليل، وقد كثر استعماله بمعنى القول الحق،
وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «زعم جبريل»
وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه «زعم رسولك» وقد أكثر سيبويه في الكتاب من قوله: زعم الخليل كذا- في أشياء يرتضيها- وفي شرح مسلم للنووي أن زعم في كل هذا بمعنى القول، والمراد به هنا مجرد الادعاء أي يدعون أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي القرآن.
وَما أُنْزِلَ إلى موسى عليه السلام مِنْ قَبْلِكَ وهو التوراة، ووصفوا بهذا الادعاء لتأكيد التعجيب وتشديد التوبيخ والاستقباح، وقرىء أُنْزِلَ وأُنْزِلَ بالبناء للفاعل يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ بيان لمحل التعجيب على قياس نظائره
أخرج الثعلبي وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رجلا من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا فدعاه اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما

صفحة رقم 65

احتكما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فقال اليهودي لعمر رضي الله تعالى عنه: قضى لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يرض بقضائه، فقال للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر:
مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت»، وفي بعض الروايات: «وقال جبريل عليه السلام إن عمر فرق بين الحق والباطل وسماه النبي صلّى الله عليه وسلّم الفاروق رضي الله تعالى عنه»،
والطاغوت على هذا كعب بن الأشرف، وإطلاقه عليه حقيقة بناء على أنه بمعنى كثير الطغيان، أو أنه علم لقب له- كالفاروق- رضي الله تعالى عنه، ولعله في مقابلة الطاغوت، وفي معناه كل من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله، ويحتمل أن يكون الطاغوت بمعنى الشيطان، وإطلاقه على الأخس ابن الأشرف إما استعارة أو حقيقة، والتجوز في إسناد التحاكم إليه بالنسبة الإيقاعية بين الفعل ومفعوله بالواسطة، وقيل: إن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه فنقله عن الشيطان إليه على سبيل المجاز المرسل، وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس أيضا قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم الآية.
وأخرج ابن جرير عن السدي كان أناس من يهود قريظة، والنضير قد أسلموا ونافق بعضهم، وكانت بينهم خصومة في قتيل فأبى المنافقون منهم إلا التحاكم إلى أبي برزة فانطلقوا إليه فسألوه فقال: أعظموا اللقمة، فقالوا: لك عشرة أوساق فقال: لا بل مائة وسق، فأبوا أن يعطوه فوق العشرة، فأنزل الله تعالى فيهم ما تسمعون، وعلى هذا ففي الآية من الإشارة إلى تفظيع التحاكم نفسه ما لا يخفى، وهو أيضا أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة، ويمكن حمل خبر الطبراني عليه بحمل المسلمين فيه على المنافقين ممن أسلم من قريظة والنضير وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ في موضع الحال من ضمير يُرِيدُونَ وفيه تأكيد للتعجيب كالوصف السابق، والضمير المجرور راجع إلى الطاغوت وهو ظاهر على تقدير أن يراد منه الشيطان وإلا فهو عائد إليه باعتبار الوصف لا الذات أي أمروا أن يكفروا بمن هو كثير الطغيان أو شبيه بالشيطان، وقيل: الضمير للتحاكم المفهوم من: «يتحاكموا»، وفيه بعد وقرأ عباس بن المفضل بها، وقرىء بهن، والضمير أيضا للطاغوت لأنه يكون للواحد والجمع، وإذا أريد الثاني أنث باعتبار معنى الجماعة، وقد تقدم وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً عطف على الجملة الحالية داخلة في حكم التعجيب، وفيها على بعض الاحتمالات وضع المظهر موضع المضمر على معنى «يريدون أن يتحاكموا إلى الشيطان» وهو بصدد إرادة إضلالهم ولا يريدون أن يتحاكموا إليك وأنت بصدد إرادة هدايتهم، وضَلالًا إما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد على حد ما قيل في أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وإما مؤكد لفعله المدلول عليه بالمذكور أي فيضلون ضلالا، ووصفه بالبعد الذي هو نعت موصوفه للمبالغة وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي لأولئك الزاعمين تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ في القرآن من الأحكام وَإِلَى الرَّسُولِ المبعوث للحكم بذلك رَأَيْتَ أي أبصرت أو علمت الْمُنافِقِينَ وهم الزاعمون، والإظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم أي رأيتهم لنفاقهم يَصُدُّونَ أي يعرضون عَنْكَ صُدُوداً أي إعراضا أيّ إعراض فهو مصدر مؤكد لفعله وتنوينه للتفخيم، وقيل: هو اسم للمصدر الذي هو الصد، وعزي إلى الخليل، والأظهر أنه مصدر لصد اللازم، والصد مصدر للمتعدي، ودعوى- أن يصدون هنا متعد حذف مفعوله أي يصدون المتحاكمين أي يمنعونهم- مما لا حاجة إليه، وهذه الجملة تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحا عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت، وقرأ الحسن «تعالوا» بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطا كما قالوا: ما باليت به بالة، وأصلها بالية كعافية، وكما قال الكسائي في آية: إن أصلها آيية

صفحة رقم 66

كفاعلة فصارت اللام كاللام فضمت للواو، ومن ذلك قول أهل مكة: «تعالي» بكسر اللام للمرأة، وهي لغة مسموعة أثبتها ابن جني فلا عبرة بمن لحن كابن هشام الحمداني فيها حيث يقول:

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي
ولا حاجة إلى القول بأن- تعالي- الأولى مفتوحة اللام، والثانية مكسورتها للقافية كما لا يخفى، وأصل معنى هذا الفعل طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمم فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا أَصابَتْهُمْ نالتهم مُصِيبَةٌ نكبة تظهر نفاقهم بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما عملوا من الجنايات، كالتحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك ثُمَّ جاؤُكَ للاعتذار، وهو عطف على أَصابَتْهُمْ والمراد تهويل ما دهاهم، وقيل: على يَصُدُّونَ وما بينهما اعتراض يَحْلِفُونَ حال من فاعل جاؤُكَ أي حالفين لك بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً إلى الخصوم وَتَوْفِيقاً بينهم، ولم نرد بالمرافعة إلى غيرك عدم الرضا بحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم، ويعتذرون ولا يغني عنهم الاعتذار، وقيل:
جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه، وقالوا: إن أردنا بالتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه- فإذا- على هذا لمجرد الظرفية دون الاستقبال.
وقيل: المعنى بالآية عبد الله بن أبيّ والمصيبة ما أصابه وأصحابه من الذل برجوعهم من غزوة بني المصطلق- وهي غزوة مريسيع- حين نزلت سورة المنافقين فاضطروا إلى الخشوع والاعتذار على ما سيذكر في محله إن شاء الله تعالى وقالوا: ما أردنا بالكلام بين الفريقين المتنازعين في تلك الغزوة إلا الخير، أو مصيبة الموت لما تضرع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه ليتقي به النار أُولئِكَ أي المنافقون المذكورون. الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من فنون الشرور المنافية لما أظهروا لك من بنات غير وجاؤوا به من أذني عناق فَأَعْرِضْ حيث كانت حالهم كذلك عَنْهُمْ أي قبول عذرهم، ويلزم ذلك الإعراض عن طلبهم دم القتيل لأنه هدر، وقيل: عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم، ولا تظهر لهم علمك بما في بواطنهم الخبيثة حتى يبقوا على نيران الوجل وَعِظْهُمْ بلسانك وكفهم عن النفاق وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي قل لهم خاليا لا يكون معهم أحد لأنه أدعى إلى قبول النصيحة، ولذا قيل: النصح بين الملأ تقريع، أو قل لهم في شأن أنفسهم ومعناها قَوْلًا بَلِيغاً مؤثرا واصلا إلى كنه المراد مطابقا لما سيق له من المقصود فالظرف على التقديرين متعلق بالأمر.
وقيل: متعلق ب بَلِيغاً وهو ظاهر على مذهب الكوفيين، والبصريون لا يجيزون ذلك لأن معمول الصفة عندهم لا يتقدم على الموصوف لأن المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقدم عامله، وقيل: إنه إنما يصح إذا كان ظرفا وقواه البعض، وقيل: إنه متعلق بمحذوف يفسره المذكور- وفيه بعد- والمعنى على تقدير التعلق قُلْ لَهُمْ قَوْلًا بَلِيغاً فِي أَنْفُسِهِمْ مؤثرا فيها يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعارا، وهو التوعد بالقتل والاستئصال، والإيذان بأن ما انطوت عليه قلوبهم الخبيثة من الشر والنفاق بمرأى من الله تعالى ومسمع- غير خاف عليه سبحانه- وإن ذلك مستوجب لما تشيب منه النواصي، وإنما هذه المكافة والتأخير لإظهارهم الإيمان وإضمارهم الكفر، ولئن أظهروا الشقاق وبرزوا بأشخاصهم من نفق النفاق لتسامرنهم السمر والبيض، وليضيقن عليهم رحب الفلا بالبلاء العريض، واستدل بالآية الأولى على أنه قد تصيب المصيبة بما يكتسبه العبد من الذنوب، ثم اختلف في ذلك فقال الجبائي: لا يكون ذلك إلا عقوبة في التائب، وقال أبو هاشم: يكون ذلك لطفا.
وقال القاضي عبد الجبار: قد يكون لطفا وقد يكون جزاء وهو موقوف على الدليل.

صفحة رقم 67

وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ تمهيد لبيان خطئهم باشتغالهم بستر نار جنايتهم بهشيم اعتذارهم الباطل وعدم إطفائها بماء التوبة أي وما أرسلنا رسولا من الرسل لشيء من الأشياء إلا ليطاع بسبب إذنه تعالى وأمره المرسل إليهم أن يطيعوه لأنه مؤد عنه عز شأنه فطاعته طاعته ومعصيته معصيته أو بتيسيره وتوفيقه سبحانه في طاعته، ولا يخفى ما في العدول عن الضمير إلى الاسم الجليل، واحتج المعتزلة بالآية على أن الله تعالى لا يريد إلا الخير والشر على خلاف إرادته، وأجاب عن ذلك صاحب التيسير بأن المعنى إلا ليطيعه من أذن له في الطاعة وأرادها منه، وأما من لم يأذن له فيريد عدم طاعته فلذا لا يطيعه ويكون كافرا، أو بأن المراد إلزام الطاعة أي وما أرسلنا رسولا إلا لإلزام طاعته الناس ليثاب من انقاد ويعاقب من سلك طريق العناد فلا تنتهض دعواهم الاحتجاج بها على مدعاهم، واحتج بها أيضا من أثبت الغرض في أفعاله تعالى وهو ظاهر، ولا يمكن تأويل ذلك بكونه غاية لا غرضا لأن طاعة الجميع لا تترتب على الإرسال إلا أن يقال إن الغاية كونه مطاعا بالإذن لا للكل إذ من لا إذن له لا يطيع، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وعرضوها للبوار بالنفاق والتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ على إثر ظلمهم بلا ريث متوسلين بك تائبين عن جنايتهم غير جامعين- حشفا وسوء كيلة- باعتذارهم الباطل وأيمانهم الفاجرة فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لذنوبهم ونزعوا عمّا هم عليه وندموا على ما فعلوا.
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ وسأل الله تعالى أن يقبل توبتهم ويغفر ذنوبهم، وفي التعبير- باستغفر- إلخ دون استغفرت تفخيم لشأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث عدل عن خطابه إلى ما هو من عظيم صفاته على طريق حكم الأمير بكذا مكان حكمت وتعظيم لاستغفاره عليه الصلاة والسلام حيث أسنده إلى لفظ مبنىء عن علو مرتبته لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً أي لعلموه قابلا لتوبتهم متفضلا عليهم بالتجاوز عما سلف من ذنوبهم، ومن فسر- الوجدان- بالمصادفة كان الوصف الأول حالا، والثاني بدلا منه أو حالا من الضمير فيه أو مثله، وفي وضع الاسم الجامع موضع الضمير إيذان بفخامة القبول والرحمة فَلا وَرَبِّكَ أي- فو ربك- ولا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد النفي في جوابه أعني قوله تعالى لا يُؤْمِنُونَ لأنها تزاد في الإثبات أيضا كقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:
٧٥] وهذا ما اختاره الزمخشري ومتابعوه في «لا» التي تذكر قبل القسم، وقيل: إنها رد لمقدر أي لا يكون الأمر كما زعمتم، واختاره الطبرسي، وقيل: مزيدة لتأكيد النفي في الجواب ولتأكيد القسم إن لم يكن نفي، وقال ابن المنير:
الظاهر عندي أنها هاهنا لتوطئة النفي المقسم عليه، والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك سوى مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات وهو لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة على أنها لم ترد في القرآن إلا مع صريح فعل القسم ومع القسم بغير الله تعالى مثل لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: ١] لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة: ١] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [الانشقاق: ١٦] قصدا إلى تأكيد القسم وتعظيم المقسم به إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له فكأنه بدخولها يقول: إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها- كلا إعظام- يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك، وهو لا يحسن في القسم بالله تعالى إذ لا توهم ليزاح، ولم تسمع زيادتها مع القسم بالله إلا إذا كان الجواب منفيا فدل ذلك على أنها معه زائدة موطئة للنفي الواقع في الجواب، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت وإنما كثر دخولها على القسم وجوابه نفي كقوله:

فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر
وقوله:

صفحة رقم 68

وقوله:

ألا نادت أمامة بارتحال لتحزنني فلا بك ما أبالي
رأى برقا (١) فأوضع فوق بكر فلا بك ما أسال ولا أغاما
إلى ما لا يحصى كثرة، ومن هذا يعلم الفرق بين المقامين والجواب عن قولهم: إنه لا فرق بينهما فتأمل ذلك فهو حقيق بالتأمل حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أي يجعلوك حكما أو حاكما، وقال شيخ الإسلام: يتحاكموا إليك ويترافعوا، وإنما جيء بصيغة التحكيم مع أنه صلّى الله عليه وسلّم حاكم بأمر الله إيذانا بأن اللائق بهم أن يجعلوه عليه الصلاة والسلام حكما فيما بينهم ويرضوا بحكمه وإن قطع النظر عن كونه حاكما على الإطلاق فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط، ومنه الشجر لتداخل أغصانه، وقيل: للمنازعة تشاجر لأن المتنازعين تختلف أقوالهم وتتعارض دعاويهم ويختلط بعضهم ببعض ثُمَّ لا يَجِدُوا عطف على مقدر ينساق إليه الكلام أي فتحكم بينهم ثم لا يجدوا فِي أَنْفُسِهِمْ وقلوبهم حَرَجاً أي شكا- كما قاله مجاهد- أو ضيقا- كما قاله الجبائي- أو إثما- كما روي عن الضحاك- واختار بعض المحققين تفسيره بضيق الصدر لشائبة الكراهة والإباء لما أن بعض الكفرة كانوا يستيقنون الآيات بلا شك ولكن يجحدون ظلما وعتوا فلا يكونوا مؤمنين، وما روي عن الضحاك يمكن إرجاعه إلى أيّ الأمرين شئت ونفي وجدان الحرج أبلغ من نفي الحرج كما لا يخفى، وهو مفعول به- ليجدوا- والظرف قيل:
حال منه أو متعلق بما عنده، وقوله تعالى: مِمَّا قَضَيْتَ متعلق بمحذوف وقع صفة لحرجا، وجوز أبو البقاء تعلقه به، وما يحتمل أن تكون موصولة ونكرة موصوفة ومصدرية أي من الذي قضيته أي قضيت به أو من شيء قضيت أو من قضائك وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي ينقادوا لأمرك ويذعنوا له بظاهرهم وباطنهم كما يشعر به التأكيد، ولعل حكم هذه الآية باق إلى يوم القيامة وليس مخصوصا بالذين كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن قضاء شريعته عليه الصلاة والسلام قضاؤه،
فقد روي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو أن قوما عبدوا الله تعالى وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجوا البيت ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا صنع خلاف ما صنع، أو وجدوا في أنفسهم حرجا لكانوا مشركين ثم تلا هذه الآية،
وسبب نزولها- كما قال الشعبي ومجاهد: ما مر من قصة بشر- واليهودي اللذين قضى بينهما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بما قضى.
وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي من طريق الزهري «أن عروة بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام أنه خاصم (٢) رجلا من الأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شراج (٣) من الحرة كان يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري: سرح الماء يمر فأبى عليه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (٤) ثم أرسل الماء إلى جارك، واستوعى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزبير حقه وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري فلما أحفظ (٥) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصاري استوعى
(١) أي أسرع اهـ منه.
(٢) قيل: هو حاطب بن أبي بلتعة وقيل: ثعلبة بن حاطب وقيل: حاطب بن راشد، وقيل: ثابت بن قيس اهـ منه.
(٣) جمع شرجة مسيل الماء اهـ منه.
(٤) بالدال والذال. المسناة. حول الزرع، ويقال لها: المرز اهـ منه.
(٥) أي أغضب اهـ منه.

صفحة رقم 69

للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك فَلا وَرَبِّكَ إلخ.
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أي فرضنا وأوجبنا أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي كما أمرنا بني إسرائيل وتفسير ذلك بالتعرض له بالجهاد بعيد أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما أمرنا بني إسرائيل أيضا بالخروج من مصر.
والمراد إنما كتبنا عليهم إطاعة الرسول والانقياد لحكمه والرضا به ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار كما كتبنا ذلك على غيرهم ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهم المخلصون من المؤمنين كأبي بكر رضي الله تعالى عنه.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: «لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: يا رسول الله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت فقال: صدقت يا أبا بكر»
وكعبد الله بن رواحة،
فقد أخرج عن شريح بن عبيد «أنها لما نزلت أشار صلّى الله عليه وسلّم إليه بيده فقال: لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل».
وكابن أم عبد،
فقد أخرج عن سفيان «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيه: لو نزلت كان منهم»،
وأخرج عن الحسن قال: «لما نزلت هذه الآية قال أناس من الصحابة: لو فعل ربنا لفعلنا فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي»
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي.
وفي بعض الآثار أن الزبير وصاحبه لما خرجا بعد الحكم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرا على المقداد فقال: لمن القضاء؟ فقال الأنصاري: لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال: قاتل الله تعالى هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ويتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم الله تعالى لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا إلى التوبة منه، وقال اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا فقال ثابت بن قيس: أما والله إن الله تعالى ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد صلّى الله عليه وسلّم أن أقتل نفسي لقتلتها،
وروي أن قائل ذلك هو وابن مسعود وعمار بن ياسر وأنه بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم فقال: «والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي وإن الآية نزلت فيهم،
وفي رواية البغوي الاقتصار على ثابت بن قيس، وعلى هذا الأثر وجه مناسبة ذكر هذه الآية مما لا يخفى، وكأنه لذلك قال صاحب الكشاف في معناها: لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل، وقال بعضهم: إن المراد أننا قد خففنا عليهم حيث اكتفينا منهم في توبتهم بتحكيمك والتسليم له ولو جعلنا توبتهم كتوبة بني إسرائيل لم يتوبوا. والذي يفهم من فحوى الأخبار المعول عليها أن هذه الكتابة لا تعلق لها بالاستتابة، ولعل المراد من ذكر ذلك مجرد التنبيه على قصور كثير من الناس ووهن إسلامهم إثر بيان أنه لا يتم إيمانهم إلا بأن يسلموا حق التسليم، وظاهر ما ذكره الزمخشري من أن بني إسرائيل أمروا بالخروج حين استتيبوا مما لا يكاد يصح إذا أريد بالديار الديار المصرية لأن الاستتابة من عبادة العجل إنما كانت بعد الخروج منها وبعد انفلاق البحر- وهذا مما لا امتراء فيه- على أنا لا نسلم أنهم أمروا بالخروج استتابة في وقت من الأوقات، وحمل الذلة على الخروج من الديار لأن ذل الغربة مثل مضروب في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ [الأعراف: ١٥٢] لا يفيد إذ الآية لا تدل على الأمر به والنزاع فيه على أن في كون هذه الآية في التائبين من عبادة العجل نزاعا، وقد حقق بعض المحققين أنها في المصرين المستمرين على عبادته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى والعجب من صاحب الكشف كيف لم يتعقب كلام صاحب الكشاف بأكثر من أنه ليس منصوصا في القرآن، ثم نقل كلامه في الآية.

صفحة رقم 70

هذا والكلام في لَوْ هنا أشهر من نار على علم، وحقها كما قالوا: أن يليها فعل، ومن هنا قال الطبرسي:
التقدير لو وقع كتبنا عليهم، وقال الزجاج: إنها وإن كان حقها ذلك إلا أن إن الشديدة تقع بعدها لأنها تنوب عن الاسم والخبر، فنقول ظننت أنك عالم كما تقول: ظننتك عالما أي ظننت علمك ثابتا فهي هنا نائبة عن الفعل والاسم كما أنها هناك نائبة عن الاسم والخبر، وضمير الجمع في عَلَيْهِمْ وما بعده قيل: للمنافقين، ونسب إلى ابن عباس ومجاهد، واعترض بأن فعل القليل منهم غير متصور إذ هم المنافقون الذين لا تطيب أنفسهم بما دون القتل بمراتب، وكل شيء دون المنية سهل، فكيف تطيب بالقتل ويمتثلون الأمر به؟ وأجيب بأن المراد لو كتبنا على المنافقين ذلك ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم. فإذا لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم الأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص، ونسب ذلك للبلخي.
ولا يخفى أن
قوله صلّى الله عليه وسلّم في عبد الله بن رواحة: «لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان منهم»
وكذا غيره من الأخبار السالفة تأبى هذا التوجيه غاية الإباء لأنها مسوقة للمدح، ولا مدح في كون أولئك المذكورين من القليل الذين يمتثلون الأمر رياء وسمعة بل ذلك غاية في الذم لهم وحاشاهم، وقيل: للناس مطلقا، والقلة إضافية لأن المراد بالقليل المؤمنون وهم وإن كثروا قليلون بالنسبة إلى من عداهم من المنافقين، والكفرة المتمردين وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: ١٠٣] وحينئذ لا يرد أنه يلزم من الآية كون بني إسرائيل أقوى إيمانا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث امتثلوا أمر الله تعالى لهم بقتل أنفسهم حتى بلغ قتلاهم سبعين ألفا. ولا يمتثله لو كان من الصدر الأول إلا قليل.
ومن الناس من جعل الآية بيانا لكمال اللطف بهذه الأمة حيث إنه لا يقبل القتل منهم إلا القليل لأن الله تعالى يعفو عنهم بقتل قليل ولا يدعهم أن يقتل الكثير كبني إسرائيل لا أنهم لا يفعلون كما فعل بنو إسرائيل لقلة المخلصين فيهم وكثرة المخلصين في بني إسرائيل ليلزم التفضيل.
وقيل: يحتمل أن يكون قتل كثير من بني إسرائيل لأنهم لو لم ينقادوا لأهلكهم عذاب الله تعالى، وهذه الأمة مأمونون إلى يوم القيامة فلا يقدمون كما أقدموا لعدم خوف الاستئصال لا لأنهم دون، وأن بني إسرائيل أقوى منهم إيمانا، وأنت تعلم أن الآية بمراحل عن إفادتها كمال اللطف، والسباق والسياق لا يشعران به أصلا وأن خوف الاستئصال وعدمه مما لا يكاد يخطر ببال كما لا يخفى على من عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، والضمير المنصوب في فَعَلُوهُ للمكتوب الشامل للقتل والخروج لدلالة الفعل عليه، أو هو عائد على القتل والخروج وللعطف- بأو- لزم توحيد الضمير لأنه عائد لأحد الأمرين، وقول الإمام الرازي: إن الضمير عائد إليهما معا بالتأويل تنبو عنه الصناعة، وقَلِيلٌ لكون الكلام غير موجب بدل من الضمير المرفوع في فَعَلُوهُ، وقرأ ابن عامر إلا قليلا بالنصب وجعله غير واحد على أنه صفة لمصدر محذوف، والاستثناء مفرغ أي ما فعلوه إلا فعلا قليلا، ومن- في مِنْهُمْ حينئذ للابتداء على نحو ما ضربته إلا ضربا منك مبرحا، وقال الطيبي: إنها بيان للضمير في- فعلوا- كقوله تعالى: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ [المائدة: ٧٣] على التجريد وليس بشيء، وكأن الذي دعاهم إلى هذا والعدول عن القول بنصبه على الاستثناء أن النصب عليه في غير الموجب غير مختار، فلا يحمل القرآن عليه- كما يشير إليه كلام الزجاج- حيث قال: النصب جائز في غير القرآن لكن قال ابن الحاجب: لا بعد في أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على الوجه الذي هو دونه بل التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء غير الأقوى وحققه الحمصي، وقيل: بل يكون إجماعهم دليلا على أن ذلك هو القوي لأنهم هم المتفننون الآخذون عن مشكاة النبوة، وأن تعليل النحاة غير ملتفت إليه.

صفحة رقم 71

ورجح بعضهم أيضا النصب على الاستثناء هنا بأن فيه توافق القراءتين معنى وهو مما يهتم به، وبأن توجيه الكلام على غيره لا يخلو عن تكلف ودغدغة، وقرأ أبو عمرو ويعقوب- «أن اقتلوا» - بكسر النون على الأصل في التخلص من الساكنين، وأَوِ اخْرُجُوا بضم الواو للاتباع، والتشبيه بواو الجمع في نحو وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: ٢٣٧]، وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل، والباقون بضمهما وهو ظاهر، وأَنِ كيفما كانت نونها إما مفسرة- لأنا كتبنا- في معنى أمرنا ولا يضر تعديه بعلى لأنه لم يخرج عن معناه، ولو خرج فتعديه باعتبار معناه الأصلي جائز كما في- نطقت الحال بكذا- حيث تعدى الفعل بالباء مع أنهم قد يريدون به دل، وهو يتعدى بعلى.
وإن أبيت هذا ولا أظن قلنا: إنه بمعنى أو حينا وإما مصدرية وهو الظاهر ولا يضر زوال الأمر بالسبك لأنه أمر تقديري وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي ما يؤمرون به مقرونا بالوعد والوعيد من متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم والانقياد إلى حكمه ظاهرا وباطنا لَكانَ فعلهم ذلك خَيْراً لَهُمْ عاجلا وآجلا وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً لهم على الحق والصواب وأمنع لهم من الضلال وأبعد من الشبهات كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: ١٧]، وقيل:
معناه أكثر انتفاعا لأن الانتفاع بالحق يدوم ولا يبطل لاتصاله بثواب الآخرة، والانتفاع بالباطل يبطل ويضمحل ويتصل بعقاب الآخرة.
وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ لأعطيناهم مِنْ لَدُنَّا من عندنا أَجْراً ثوابا عَظِيماً لا يعرف أحد مبداه ولا يبلغ منتهاه، وإنما ذكر من لدنا تأكيدا ومبالغة وهو متعلق بآتيناهم، وجوز أن يكون حالا من أَجْراً والواو للعطف ولآتيناهم- معطوف على لكان خيرا لهم لفظا وإِذاً مقحمة للدلالة على أن هذا الجزاء الأخير بعد ترتب التالي السابق على المقدم ولإظهار ذلك وتحقيقه قال المحققون: إنه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون لهم بعد التثبيت؟ فقيل: وَإِذاً لو ثبتوا لآتيناهم وليس مرادهم أنه جواب لسؤال مقدر لفظا ومعنى، وإلا لم يكن لاقترانه بالواو وجه، وإظهار لَوْ ليس لأنها مقدرة بل لتحقيق أن ذلك جواب للشرط لكن بعد اعتبار جوابه الأول، والمراد بالجواب في قولهم جميعا: إن إذا حرف جواب دائما أنها لا تكون في كلام مبتدأ بل هو في كلام مبني على شيء تقدمه ملفوظ، أو مقدر سواء كان شرطا، أو كلام سائل، أو نحوه كما أنه ليس المراد بالجزاء اللازم لها، أو الغالب إلا ما يكون مجازاة لفعل فاعل سواء السائل وغيره، وبهذا تندفع الشبه الموردة في هذا المقام، وزعم الطيبي أن ما أشرنا إليه من التقدير تكلف من ثلاثة أوجه- وهو توهم منشؤه الغفلة عن المراد- كالذي زعمه العلامة الثاني، فتدبر وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو المراتب- بعد الإيمان- التي تفتح أبوابها للعاملين،
فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم»،
وقال الجبائي: المعنى ولهديناهم في الآخرة إلى طريق الجنة وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ بالانقياد لأمره ونهيه وَالرَّسُولَ المبلغ ما أوحي إليه منه باتباع شريعته، والرضا بحكمه، والكلام مستأنف فيه فضل ترغيب في الطاعة ومزيد تشويق إليها ببيان أن نتيجتها أقصى ما تنتهي إليه همم الأمم، وأرفع ما تمتد إليه أعناق أمانيهم، وتشرئب إليه أعين عزائمهم من مجاورة أعظم الخلائق مقدارا وأرفعهم منارا، ومتضمن لتفسير ما أبهم وتفصيل ما أجمل في جواب الشرطية السابقة وَمَنْ شرطية وإفراد ضمير يُطِعِ مراعاة للفظ، والجمع في قوله سبحانه فَأُولئِكَ مراعاة للمعنى أي فالمطيعون الذين علت درجتهم وبعدت منزلتهم شرفا وفضلا.
مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بما تقصر العبارة عن تفصيله وبيانه مِنَ النَّبِيِّينَ بيان للمنعم عليهم فهو حال

صفحة رقم 72

إما من الَّذِينَ أي مقارنيهم حال كونهم مِنَ النَّبِيِّينَ وإما من ضميره والتعرض لمعية الأنبياء دون نبينا صلّى الله عليه وسلّم خاصة مع أن الكلام في بيان حكم طاعته عليه الصلاة والسلام لجريان ذكرهم في سبب النزول مع الإشارة إلى أن طاعته متضمنة لطاعتهم،
أخرج الطبراني وأبو نعيم والضياء المقدسي وحسنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وإنك لأحب إليّ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ، إلخ، وروي مثله عن ابن عباس.
وقال الكلبي: إن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان شديد الحب له عليه الصلاة والسلام قليل الصبر عنه، وقد نحل جسمه وتغير لونه خوف عدم رؤيته صلّى الله عليه وسلّم بعد الموت فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية،
وعن مسروق «إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فنزلت»

وبدأ بذكر النبيين لعلو درجتهم وارتفاعهم على من عداهم، وقد نقل الشعراني عن مولانا الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال:
«فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق» ثم عطف عليهم على سبيل التدلي قوله سبحانه:
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ فالمنازل أربعة بعضها دون بعض: الأول منازل الأنبياء وهم الذين تمدهم قوة إلهية وتصحبهم نفس في أعلى مراتب القدسية، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من قريب، ولذلك قال تعالى في صفة نبينا صلّى الله عليه وسلّم: أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى [النجم: ١٢]، والثاني منازل الصديقين وهم الذين يتأخرون على الأنبياء عليهم السلام في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من بعيد، وإياه عنى علي كرم الله تعالى وجهه حيث
قيل له: هل رأيت الله تعالى؟ فقال: ما كنت لأعبد ربا لم أره، ثم قال: لم تره العيون بشواهد العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان،
والثالث منازل الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين، ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب كحال من قال: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإياه قصد النبي صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: «اعبد الله تعالى كأنك تراه»،
والرابع منازل الصالحين وهم الذين يعلمون الشيء بالتقليد الجازم، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة وإياه قصد النبي صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
قاله الراغب ونقله الطيبي وغيره، ونقل بعض تلامذة مولانا الشيخ خالد النقشبندي قدس سره عنه «أنه قرر يوما أن مراتب الكمل أربعة: نبوة وقطب مدارها نبينا صلّى الله عليه وسلّم، ثم صديقية وقطب مدارها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ثم شهادة وقطب مدارها عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه، ثم ولاية وقطب مدارها علي كرم الله تعالى وجهه، وأن الصلاح في الآية إشارة إلى الولاية فسأله بعض الحاضرين عن عثمان رضي الله تعالى عنه في أي مرتبة هو من مراتب الثلاثة بعد النبوة فقال: إنه رضي الله تعالى عنه قد نال حظا من رتبة الشهادة، وحظا من رتبة الولاية، وأن معنى كونه ذا النورين هو ذلك عند العارفين انتهى.
وأنا مستعينا بالله تعالى، ومستمدا من القوم قدس الله تعالى أسرارهم أقول: إن الولاية هي المحيطة العامة والفلك الدائر والدائرة الكبرى، وأن الولي من كان على بينة من ربه في حاله فعرف ما له بإخبار الحق إياه على الوجه الذي يقع به التصديق عنده ويصدق على أصناف كثيرة إلا أن المذكور منها في هذه الآية أربعة: الصنف الأول الأنبياء، والمراد بهم هنا الرسل أهل الشرع سواء بعثوا أو لم يبعثوا أعني بطريق الوجوب عليهم ولا بحث لأهل الله تعالى عن مقاماتهم وأحوالهم إذ لا ذوق لهم فيها وكلهم معترفون بذلك غير أنهم يقولون: إن النبوة عامة وخاصة والتي لا ذوق لهم فيها هي الخاصة أعني نبوة التشريع وهي مقام خاص في الولاية.
وأما النبوة العامة فهي مستمرة سارية في أكابر الرجال غير منقطعة دنيا وأخرى لكن باب الإطلاق قد انسد،

صفحة رقم 73

وعلى هذا يخرج ما رواه البدر التماسكي البغدادي عن الشيخ بشير عن القطب عبد القادر الجيلي قدس سره أنه قال:- معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوا- فإن معنى قوله:- أوتيتم اللقب- أنه حجر علينا إطلاق لفظ النبي، وإن كانت النبوة العامة أبدية، وقوله: وأوتينا ما لم تؤتوا على حد قول الخضر لموسى عليه السلام- وهو أفضل منه- يا موسى أنا على علم علمنيه الله تعالى لا تعلمه أنت، وهذا وجه آخر غير ما أسلفنا من قبل في توجيه هذا الكلام.
والصنف الثاني الصديقون وهم المؤمنون بالله تعالى ورسله عن قول المخبر لا عن دليل سوى النور الإيماني الذي أعد في قلوبهم قبل وجود المصدق به المانع لها من تردد، أو شك يدخلها في قول المخبر الرسول ومتعلقه في الحقيقة الإيمان بالرسول ويكون الإيمان بالله تعالى على جهة القربة لا على إثباته إذ كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق جل وعلا ضرورة، أو نظرا لكن ما ثبت كونه قربة وليس بين النبوة والصديقية- كما قال حجة الإسلام وغيره- مقام، ومن تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة وهي باب مغلق، وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره مقاما بينهما سماه مقام القربة، وهو السر الذي وقر في قلب أبي بكر رضي الله تعالى عنه المشار إليه
في الحديث «فليس بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر رضي الله تعالى عنه رجل أصلا»
لا أنه ليس بين الصديقية والنبوة مقام ولها أجزاء على عدد شعب الإيمان، وفسرها بعضهم بأنها نور أخضر بين نورين يحصل به شهود عين ما جاء به المخبر من خلف حجاب الغيب بنور الكرم وبين ذلك بما يطول.
والصنف الثالث الشهداء تولاهم الله تعالى بالشهادة وجعلهم من المقربين، وهم أهل الحضور مع الله تعالى على بساط العلم به فقد قال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: ١٨] فجمعهم مع الملائكة في بساط الشهادة فهم موحدون عن حضور إلهيّ وعناية أزلية فإن بعث الله تعالى رسولا وآمنوا به فهم المؤمنون العلماء ولهم الأجر التام يوم القيامة وإلا فليس هم الشهداء المنعم عليهم وإيمانهم بعد العلم بما قاله الله سبحانه: إن ذلك قربة إليه من حيث- قال الله سبحانه، أو قاله الرسول الذي جاء من عنده- فقدم الصديق على الشهيد وجعل بإزاء النبي فإنه لا واسطة بينهما لاتصال نور الإيمان بنور الرسالة، والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث هو شاهد لله تعالى بتوحيده لا من حيث هو رسول فلا يصح أن يكون بعده مع المساوقة لئلا تبطل ولا أن يكون معه لكونه رسولا، والشاهد ليس به فلا بد أن يتأخر فلم يبق إلا أن يكون في الرتبة التي تلي الصديقية فإن الصديق أتم نورا منه في الصديقية لأنه صديق من وجهين: وجه التوحيد ووجه القربة، والشهيد من وجه القربة خاصة لأن توحيده عن علم لا عن إيمان فنزل عن الصديق في مرتبة الإيمان وهو فوقه في مرتبة العلم فهو المتقدم في مرتبة العلم المتأخر برتبة الإيمان، والتصديق فإنه لا يصح من العالم أن يكون صديقا، وقد تقدم العلم مرتبة الخبر فهو يعلم أنه صادق في توحيد الله تعالى إذا بلغ رسالة الله تعالى والصديق لم يعلم ذلك إلا بنور الإيمان المعد في قلبه فعند ما جاء الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر، والصنف الرابع الصالحون تولاهم الله تعالى بالصلاح وهم الذين لا يدخل في علمهم بالله تعالى ولا إيمانهم به وبما جاء من عنده سبحانه خلل فإذا دخله بطل كونه صالحا وكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح، ولا في شهادته فهو صالح، ولا في توبته فهو صالح، ولكل أحد أن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه لأن الأمر اختصاص إلهي وليس بذاتي فيجوز دخول الخلل فيه، ويجوز رفعه، فصح أن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين أي الذين لا يدخل صلاحهم خلل في زمان ما، وقد ذكر أنه ما من نبي إلا وذكر أنه صالح أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيا، ومن هنا قيل: إن مرتبة الصلاح خصوص في النبوة وقد تحصل لمن ليس بنبي ولا صديق ولا شهيد.

صفحة رقم 74

هذا ما وقفت عليه من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، ولم أظفر بالتفصيل الذي ذكره، مولانا الشيخ قدس سره فتدبر، وقد ذكر أصحابنا الرسميون أن الصديق صيغة مبالغة- كالسكير- بمعنى المتقدم في التصديق المبالغ في الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال، ويطلق على كل من أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأماثل خواصهم كأبي بكر رضي الله تعالى عنه، وأن الشهداء جمع شهيد، والمراد بهم الذين بذلوا أرواحهم في طاعة الله تعالى وإعلاء كلمته وهم المقتولون بسيف الكفار من المسلمين، وقيل: المراد بهم هاهنا ما هو أعم من ذلك،
فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله تعالى فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن شهداء أمتي إذا لقليل من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات مبطونا فهو شهيد»
وعد بعضهم الشهداء أكثر من ذلك بكثير، وقيل: الشهيد هو الذي يشهد لدين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، وزعم النيسابوري أنه لا يبعد أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: ١٤٣] وليس بشيء كما لا يخفى، وأن المراد بالصالحين الصارفين (١) أعمارهم في طاعة الله تعالى وأموالهم في مرضاته سبحانه، ويقال:
الصالح هو الذي صلحت حاله واستقامت طريقته.
والمصلح هو الفاعل لما فيه الصلاح قال الطبرسي: ولذا يجوز أن يقال: مصلح في حق الله تعالى دون صالح، وليس المراد بالمعية اتحاد الدرجة ولا مطلق الاشتراك في دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعدت المسافة بينهما، وذكر غير واحد أنه لا مانع من أن يرفع الأدنى إلى منزلة الأعلى متى شاء تكرمة له ثم يعود ولا يرى أنه أرغد منه عيشا ولا أكمل لذة لئلا يكون ذلك حسرة في قلبه، وكذا لا مانع من أن ينحدر الأعلى إلى منزلة الأدنى ثم يعود من غير أن يرى ذلك نقصا في ملكه أو حطا من قدره.
وقد ثبت في غير ما حديث أن أهل الجنة يتزاورون، وادعى بعضهم أن لا تزاور مع رؤية كل واحد الآخر، وذلك لأن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع فينعكس بعضها على بعض كالمرايا المجلوة المتقابلة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر: ٤٧] وزعم أنه التحقيق وهو بعيد عنه، وأبعد من ذلك بمراحل ما قيل: يحتمل أن يكون المراد أن معنى كون المطيع مع هؤلاء أنه معهم في سلوك طريق الآخرة فيكون مأمونا من قطاع الطريق محفوظ الطاعة عن النهب وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي صاحبا، وهو مشتق من الرفق، وهو لين الجانب واللطافة في المعاشرة قولا وفعلا، والإشارة يحتمل أن تكون إلى النبيين ومن بعدهم وما فيها من معنى البعد لما مرّ مرارا ورَفِيقاً حينئذ إما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفوا بالحسن من جهة كونهم رفقاء للمطيعين، أو حال كونهم رفقاء لهم ولم يجمع لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره أو اكتفاء بالواحد عن الجمع في باب التمييز لفهم المعنى، وحسنة وقوعه في الفاصلة أو لأنه بتأويل حسن كل واحد منهم أو لأنه قصد بيان الجنس مع قطع النظر عن الأنواع، ويحتمل أن تكون إلى- من يطع- والجمع على المعنى ف رَفِيقاً حينئذ تمييز على معنى أنهم وصفوا بحسن الرفيق من الفرق الأربع لا بنفس الحسن فلا يجوز دخول- من- عليه كما يجوز في الوجه الأول.
والجملة على الاحتمالين تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق، وفي الكشاف فيه معنى التعجب كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجيب قرىء وَحَسُنَ بسكون السين يقول المتعجب: حسن

(١) قوله: (الصارفين) كذا بخطه اهـ مصححه.

صفحة رقم 75
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية