
وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ تنبيه على جلالة الرسل، أي: فأنت يا محمد منهم، تجب طاعتك وتتعين إجابة الدعوة إليك، ولِيُطاعَ، نصب بلام كي، وبِإِذْنِ اللَّهِ معناه بأمر الله، وحسنت العبارة بالإذن، إذ بنفس الإرسال تجب طاعته وإن لم ينص أمر بذلك، ويصح تعلق الباء من قوله بِإِذْنِ ب أَرْسَلْنا، والمعنى وما أرسلنا بأمر الله أي بشريعته وعبادته من رسول إلا ليطاع، والأظهر تعلقها ب «يطاع» والمعنى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بأمر الله بطاعته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ خاص المعنى، لأنا نقطع أن الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه ألا يطيعوا، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم، وهذا تخريج حسن، لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن ووفقه لذلك فكأنه أذن له فيه، وحقيقة الإذن: التمكين مع العلم بقدر ما مكن منه، وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية، معناه: بالمعصية والنفاق، ونقصها حظها من الإيمان و «استغفروا الله» معناه: طلبوا مغفرته، وتابوا إليه رجعوا، وتَوَّاباً: معناه راجعا بعباده.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)
قال الطبري: قوله: فَلا رد على ما تقدم، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله، وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال غيره: إنما قدم «لا» على القسم اهتماما بالنفي، وإظهارا لقوته، ثم كررها بعده تأكيدا للتهمم بالنفي، وكان يصح إسقاط لا الثانية، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي، ويذهب معنى الاهتمام، وشَجَرَ معناه: اختلط والتف من أمورهم، وهو من الشجر، شبيه بالتفاف الأغصان، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه، وقرأ أبو السمال «شجر» بإسكان الجيم.
قال القاضي أبو محمد: وأظنه فر من توالي الحركات، وليس بالقوي، لخفة الفتحة، ويُحَكِّمُوكَ نصب بحتى، لأنها هاهنا غاية مجردة، ويَجِدُوا عطف عليه، والحرج: الضيق والتكلف والمشقة، قال مجاهد: حَرَجاً، شكا، وقوله: تَسْلِيماً مصدر مؤكد، منبىء على التحقيق في التسليم، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة، كما قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: ١٦٤] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع، ومنه: «وعجت عجيجا من جدام المطارف».

وقال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، وفيهم نزلت، ورجح الطبري هذا، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة: نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب ذلك الرجل وقال إن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوعب للزبير حقه، فقال: احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر، ثم أرسل الماء، فنزلت الآية، واختلف أهل هذا القول في الرجل، فقال قوم: هو رجل من الأنصار من أهل بدر، وقال مكي وغيره: هو حاطب بن أبي بلتعة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار، وأن الزبير قال: فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك، وقالت طائفة: لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، بلغ ذلك النبي وعظم عليه، وقال: ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله.
وكَتَبْنا معناه فرضنا، واقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ معناه ليقتل بعضكم بعضا، وقد تقدم نظيره في البقرة، وضم النون من أَنِ وكسرها جائز، وكذلك الواو من أَوِ اخْرُجُوا وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو، وقَلِيلٌ رفع على البدل من الضمير في فَعَلُوهُ، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلا»، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب.
وسبب الآية على ما حكي: أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه السلام: ما رأينا أسخف من هؤلاء، يؤمنون بمحمد ويتبعونه، ويطؤون عقبة، ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا، وبلغ القتل فينا سبعين ألفا فقال ثابت بن قيس: لو كتب ذلك علينا لفعلناه، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون، كثابت وغيره، وكذلك روي أن رسول الله ﷺ قال: ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل. وشركهم في ضمير مِنْهُمْ لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة، وقال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي، وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق، وذكر النقاش: أنه عمر بن الخطاب، وذكر عن أبي بكر أنه قال: لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي.
وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيرا لهم، وتَثْبِيتاً معناه: يقينا وتصديقا ونحو هذا، أي يثبتهم الله، ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر، ووصفه إياه بالعظم مقتض ما لا يحصله بشر من النعيم المقيم، و «الصراط المستقيم» : الإيمان المؤدي إلى الجنة، وجاء ترتيب هذه الآية كذا، ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب، فالمعنى: ولهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر.