
وهما [٤٣] و [٧]. وهناك آيات أخرى مرّ شرحها والتعليق عليها فيها تقرير واجب أهل العلم في بيان ما آتاهم الله من العلم والكتاب وتندد بمن يكتمون ذلك وتنذرهم بل وتلعنهم مثل آيات البقرة [١٥٩ و ١٧٤] وآل عمران [١٨٢] وعلى عامة المسلمين بالمقابل إطاعة أوامر العلماء واتباع توضيحاتهم على شرط أن يكونوا ملتزمين بكتاب الله وسنن رسوله وللعامة أن يطلبوا منهم سندا إذا لم يكن الأمر واضحا لهم وليس عليهم طاعتهم طاعة عمياء. والله تعالى أعلم.
ولقد روى الطبرسي الشيعي عن الإمامين الباقر والصادق أن أولي الأمر في الآية هم الأئمة من آل محمد. لأن الأمر بطاعة أولي الأمر مطلق مثل الأمر بطاعة الله ورسوله ولا يصح إيجاب إطاعة أحد بإطلاق إلّا من ثبتت عصمته وهذه صفة أئمة الهدى من آل محمد. وروى الكاشي «١» حديثا طويلا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يذكر أن النبي ﷺ فسر له جملة وَأُولِي الْأَمْرِ بأنه هو والأئمة من نسله إلى الثاني عشر المهدي المنتظر وسماهم له واحدا واحدا.
والتعسف ظاهر في هذا. ونحن ننزه عليا رضي الله عنه عن الحديث المنسوب إليه. هذا فضلا عن ما في الأحاديث من مناقضته لتعبير وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ الذي يفيد شمولا ولا يمكن أن يفيد حصرا في فرد بعد وفاة فرد من أسرة واحدة ويقف عند الثاني عشر في القرن الثالث الهجري.. ثم فضلا عن ما فيها من تعطيل للحكم القرآني المتصل بمصلحة المجتمع الإسلامي المستمرة الذي ظل وسيظل يقوم على رأسه أولو أمر يحتاج المسلمون إلى ضابط إزاءهم وهذا الضابط هو هذه الآية وما ورد في الأحاديث النبوية من حدود وقيود.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٠ الى ٦٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤)
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥).

(١) الطاغوت: قال الجمهور إن الكلمة هنا عنت أحد حكام اليهود أو أحد كهان العرب.
(٢) شجر بينهم: نشب بينهم.
وجّه الخطاب في الآيات إلى النبي ﷺ وقد تضمنت:
(١) سؤالا فيه معنى التنديد بفريق من المسلمين يدعون الإيمان بما أنزل الله على النبي والأنبياء من قبله ثم يناقضون أنفسهم فيريدون أن يتحاكموا إلى طاغية أمروا أن يكفروا بحكمه لأنه ليس من عند الله وبذلك يستسلمون لوساوس الشيطان التي تبعدهم عن جادة الحق والهدى وتورطهم في مهاوي الضلال العميقة. وإذا ما نبهوا إلى تصرفهم المنحرف ودعوا إلى التحاكم أمام النبي بما أنزل الله أبى المنافقون وصدّوا عن ذلك.
(٢) وتساؤلا آخر فيه معنى الإنذار والفضيحة لهم عما يكون أمرهم إذا حلت فيهم مصيبة من جراء انحرافهم عن الحق حيث كانوا يشعرون بالخزي ويتراجعون خوفا- لا إيمانا- ويأتون إلى الرسول ليحلفوا له أنهم لم يريدوا صدّا عنه ولا جحودا بما أنزل الله وأن نيتهم حسنة وأن كل ما أرادوه هو التوفيق في الخصومة وحلّها بالمعروف والحسنى.

(٣) وإشارة تقريعية إليهم: فالله يعلم ما في قلوبهم من سوء قصد وطوية.
وعلى النبي أن لا ينزعج من موقفهم من جهة وأن يعظهم من جهة ثانية. ويؤنبهم بأسلوب قوي بليغ يؤثر فيهم ويجعلهم يدركون بشاعة تصرفهم.
(٤) وتقريرا ربانيا فيه توطيد لواجب الطاعة للنبي والاحتكام إليه بأن الله تعالى لم يرسل رسولا للناس إلّا أوجب عليهم طاعته وقيض له من يطيعه فعلا وبأن هؤلاء الذين يدعون الإسلام لن يصدقوا في إيمانهم إلّا إذا تحاكموا لدى النبي في كل ما يقع بينهم من خلاف، ثم ارتضوا بحكمه رضاء تامّا ظاهرا وباطنا وسلموا به ونفذوه بدون لجاجة وتردد.
(٥) والتفاتا تأنيبيّا إلى المحكي عنهم: فلقد كان من واجبهم لو كانوا صادقين في اعتذارهم وحسن نيتهم أن يشعروا بشناعة موقفهم وظلم أنفسهم به وأن يسرعوا إلى النبي نادمين مستغفرين الله على ما بدا منهم وملتمسين من النبي أن يستغفر لهم الله. ولو فعلوا هذا لوجدوا الله توابا رحيما فيقبل توبتهم ويصفح عن زلتهم ويشملهم بعفوه.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [٦٥]
ولقد روى المفسرون «١» في صدد هذه الآيات عدة روايات. منها أنها نزلت في يهودي ومنافق بينهما خصومة فطلب اليهودي الاحتكام إلى النبي وأبى المنافق ذلك وطلب الاحتكام إلى أحد طواغيت اليهود: كعب بن الأشرف وكان شاعرا وعرف بشدة عدائه للنبي والمسلمين وكانوا يسمونه الطاغوت. ومنها أنها نزلت في جماعة من اليهود كانوا يظهرون الإسلام نفاقا واختلفوا مع جماعة من مسلمي

الخزرج على مسألة قصاص ودية قتلى فقال المسلمون ننطلق إلى النبي فنحكمه فأبى المنافقون اليهود وطلبوا الاحتكام إلى كاهن اسمه أبو برزة الأسلمي. ومنها أن الخلاف على الدية كان بين فريقين من اليهود فطلب فريق الاحتكام إلى النبي ورفض الآخر وطلب الاحتكام إلى الكاهن المذكور. ومنها أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة خصومة على ماء بين الزبير بن العوام وجار لأرضه من الأنصار حكم فيها النبي للزبير فطعن الأنصاري في حكمه واتهمه بمحاباة الزبير لأنه ابن عمته حتى تغير وجه النبي من ذلك «١». ومنها «٢» أن هذه الآية نزلت في مناسبة احتكام شخصين إلى النبي في أمر فلم يرض المحكوم عليه بالحكم وطلب الاحتكام إلى أبي بكر فذهبا إليه فقال لهما أنتما على ما قضى رسول الله فطلب الاحتكام إلى عمر فلما سمع عمر كلامهما دخل بيته فتقلد سيفه ثم خرج فضرب به رأس الذي أبى حكم النبي فقتله فاشتكى أهله إلى النبي فقال ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل مؤمن فنزلت الآية تنفي عن القتيل صدق إيمانه. وباستثناء الرواية التي فيها خصومة بين الزبير والأنصاري ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. وليس في حديث هذه الخصومة ما يفيد أن الآية نزلت في مناسبتها بأسلوب صريح. وهذا بالإضافة إلى أن الآية المذكورة تبدو كنتيجة للآيات السابقة. وهذا لا ينفي تلك الخصومة. ومن المحتمل أن يكون النبي ﷺ تلا الآية فالتبس الأمر على الرواة.
وباستثناء رواية نزول الآيات في جماعة من اليهود المنافقين فإن الروايات الأخرى لا تتطابق مع الآيات. وجملة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ قد تعني اليهود وبالتالي قد تجعل الرواية التي استثنيناها أكثر ورودا كما هو المتبادر كمناسبة لنزول الآيات التي تبدو وحدة منسجمة لتحتوي تنديدا باليهود المنافقين ثم لتوطد سلطة النبي ﷺ القضائية. وما زلنا عند ترجيحنا بأن تكون الآيتان السابقتان لهذه الآيات نزلتا مع هذه الآيات لتكونا تمهيدا تشريعيّا
(٢) هذه الرواية رواها ابن كثير والقاسمي.

عاما في توطيد طاعة الله ورسوله وردّ الأمور إليهما والحكم بين الناس بالعدل وأداء الأمانات إلى أهلها.
ولعل جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ في الآية [٦٤] ثم الآية [٦٥] من القرائن على ذلك حيث ينطوي فيهما توكيد بوجوب طاعة رسول الله وتحكيمه والرضاء بحكمه وهو تكرار بأسلوب آخر للأمر الوارد في الآية [٥٩] والله أعلم.
والآيات قوية حاسمة في صدد الهدف الذي استهدفته. وفيها صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني وما كان يلقاه النبي من مواقف ومشاكل مزعجة ممضة وبخاصة من المنافقين ومرضى القلوب. وقد انطوى فيها معالجة بأسلوب في منتهى الروعة والبلاغة امتزجت فيه الشدة والتنديد والتكذيب والإنذار بالعظة والرفق والتأميل والرغبة في الارعواء. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل أخلاقي واجتماعي. وبخاصة سياسة الرعية والحكم الصالح. بالإضافة إلى ما في الآيات من مثل ذلك في تقبيح مواقف الكيد والدسّ والتمرد واللحاح التي يقفها مرضى القلوب تجاه الحق والعدل مما يمكن أن يحدث في كل ظرف ومكان.
ولقد وقف المفسر القاسمي عند الآية [٦٥] وقال إن كل حديث صحّ عن رسول الله يدخل فيها بحيث إنه يتعين على كل مسلم أن يلتزم به في أي شأن كان وأن الذي لا يفعل ذلك يدخل في وعيد الآية الشديد وأورد أقوالا للشافعي وابن تيمية في سبيل توكيد ذلك في سياق طويل.
ولقد وقف عندها رشيد رضا أيضا. وقال فيما قاله إن العلماء استدلوا بالآية على أن النصّ لا يعارض ولا يخصص بالقياس وأن من بلغه حديث للرسول ورده بمخالفة قياسية فهو غير مطيع للرسول ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاث المشروطة في صحة الإيمان في نصّ الآية. ثم قال والآية تدل من باب أولى على بطلان التقليد. فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ورسوله. وإذا كان للعامي أن يتبع الجزء الثامن من التفسير الحديث ١١