
مزاعم المنافقين ومواقفهم
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)
الإعراب:
يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً صدودا: منصوب انتصاب المصادر، وهو اسم أقيم مقام المصدر، والمصدر في الحقيقة: هو الصدّ.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ استفهام يراد به التعجب.
ويوجد جناس مغاير في يُضِلَّهُمْ ضَلالًا وفي قُلْ لَهُمْ | قَوْلًا وفي يَصُدُّونَ.. |
المفردات اللغوية:
يَزْعُمُونَ الزعم: القول حقا كان أو باطلا، ثم كثر استعماله في الكذب. الطَّاغُوتِ صفحة رقم 130

الكثير الطغيان وهو كعب بن الأشرف. ضَلالًا بَعِيداً إعراضا عن قبول الحق. صُدُوداً إعراضا متعمدا عن قبول حكمك. إِحْساناً أي في المعاملة بين الخصوم. وَتَوْفِيقاً أي تسوية بينهم وبين خصومهم بالصلح. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ اصرف وجهك عنهم. وَعِظْهُمْ ذكرهم بالخير بنحو ترق له قلوبهم. قَوْلًا بَلِيغاً كلاما مؤثرا في نفوسهم.
سبب النزول: نزول الآية (٦٠) :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ: أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه أناس من أسلم، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا إلى قوله: إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن الصامت ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر يدّعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعوهم إلى الكهان: حكام الجاهلية، فأنزل الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال إلى النبي لأنه علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا واتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة، فنزلت.
وقال الكلبي عن ابن عباس: نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله تعالى الطاغوت، فأبى اليهودي إلا أن

يخاصمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأى المنافق ذلك، أتى معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاختصما إليه، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليهودي، فلما خرجا من عنده، لزمه المنافق، وقال: ننطلق إلى عمر بن الخطاب.
فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي: اختصمنا أنا وهذا إلى محمد، فقضى عليه، فلم يرض بقضائه، وزعم أنه مخاصم إليك، وتعلق بي، فجئت إليك معه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقال لهما: رويدا حتى أخرج إليكما، فدخل عمر وأخذ السيف فاشتمل عليه، ثم خرج إليهما، وضرب به المنافق حتى برد (مات) وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي، ونزلت هذه الآية، وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق «١».
والخلاصة: اختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي.
المناسبة:
بعد الأمر الإلهي السابق بطاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر، كشف الله عن موقف المنافقين الذين لا يطيعون الرسول، ولا يرضون بحكمه، بل يريدون حكم غيره كالكاهن أبي برزة الأسلمي أو الطاغية كعب بن الأشرف.
التفسير والبيان:
هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب النزول. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا.

انظر إلى أمر فئة زعموا الإيمان بالنبي محمد وبالأنبياء قبله وبما أنزل إليهم من الكتب، وشأن الإيمان الصحيح بكتب الله ورسله العمل بما شرعه الله على ألسنة الرسل، فإذا تخطوا ذلك كانوا غير مؤمنين في الواقع.
هؤلاء المنافقون إذ لم يقبلوا التحاكم إلى النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتحاكموا إلى الطاغوت والضلال من الكهنة كأبي برزة الأسلمي، أو اليهود مثل كعب بن الأشرف الذي سمي طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة النبي صلّى الله عليه وسلّم والتأليب عليه والبعد عن الحق، مع أنهم أمروا في القرآن أن يكفروا بالطاغوت ويجتنبوه، إنهم إذ لم يقبلوا ذلك، دل على عدم إيمانهم، فألسنتهم تدعي الإيمان بالله وبما أنزله على رسوله، وأفعالهم تدل على الكفر بهما، وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم حكمه، وهذا دليل الخروج عن الإسلام.
ومن أوامر القرآن بالكفر بالطاغوت قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦] وقوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ، وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [البقرة ٢/ ٢٥٦].
وهم بفعلهم ذلك كانوا تلامذة الشيطان، ويريد الشيطان أن يضلهم ويبعدهم عن الحق مسافة بعيدة، حتى لا يهتدوا إلى طريق الحق أصلا.
والدليل على ذلك أنه إذا قيل لأولئك الزاعمين الإيمان: تعالوا نحتكم إلى ما أنزل الله في القرآن وإلى الرسول، فهو الصراط القويم، رأيت هؤلاء المنافقين يعرضون عنك يا محمد وعن دعوتك، ويرغبون عن حكمك، بكل إصرار وعناد وتعمد للصدود. وهذه الآية مؤكدة لما سبق من تحاكمهم إلى الطاغوت وأصحاب الأهواء والجهلة، فمن أعرض عن حكم الله متعمدا، كان منافقا بلا شك.
وكيف يكون حال هؤلاء المنافقين إذا أطلعك الله على شأنهم في إعراضهم عن حكم الله وعن التحاكم إليك، ووقعوا في مصاب أو عقوبة بسبب ذنوبهم وما قدمت

أيديهم من الكفر والمعاصي والمواقف المفضوحة، ثم اضطروا إلى الرجوع إليك لكشف ما حل بهم من المصائب، فلا يقدرون على الإعراض والفرار منها، ثم جاؤوك- وهو معطوف على يَصُدُّونَ- يزعمون كاذبين أنهم ما كانوا يريدون بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا في المعاملة، وتوفيقا بينهم وبين خصومهم بالصلح، أو اعتذروا إليك وحلفوا: ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق، أي المداراة والمصانعة، لا اعتقادا منا بصحة ذلك التحاكم، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، يُسارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ [المائدة ٥/ ٥٢].
وهذا وعيد شديد على ما فعلوا، وأنهم يندمون حين لا ينفع الندم. ونظير ذلك:
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى [التوبة ٩/ ١٠٧].
هذا النوع من الناس وهم المنافقون الله يعلم ما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، وهو عالم بظواهرهم وبواطنهم، فأعرض عنهم أي لا تأبه بهم ولا تعنفهم على ما في قلوبهم، وعظهم أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، وأنصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.
وقوله: أُولئِكَ... يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ أسلوب يستعمل فيما يعظم من خير أو شر، فمقدار ما في قلوبهم من كفر وحقد ومكر وكيد بلغ حدا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى.
وقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَعِظْهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً يدل على كيفية معاملتهم بثلاثة أحوال: الإعراض عنهم، والنصح والتذكير بالخير لترق قلوبهم، والقول البليغ المؤثر في النفس بالترغيب تارة وبتخويفهم بالقتل إن ظهر منهم النفاق تارة أخرى.

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- من ردّ شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول فهو كافر خارج عن الإسلام، لذا حكم الصحابة بردّة مانعي الزكاة. وكذا كل من اتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحكم فهو كافر. ودلت القصة في سبب النزول على تحاكم اليهودي مع المسلم عند حاكم الإسلام.
٢- الواجب على المسلمين تنفيذ الحكم المنصوص عليه في القرآن أو السنة النبوية الثابتة، ورد كل ما يعارضهما من فتاوى وأقضية وأحكام، وأما ما لا حكم فيه بالوحي، فيعمل برأي المجتهدين المستنبط من قواعد الشريعة العامة، المتفق مع المصلحة العامة.
٣- من أعرض عن حكم الله عمدا أو حكم رسوله، كان منافقا لا صلة له بالإسلام، وكان نزول الآيات تأييدا لفعل عمر الذي نزل جبريل في شأنه، فقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمّي الفاروق.
٤- سيندم المنافقون حين لا ينفعهم الندم، ويعتذرون ولا يقبل عذرهم.
٥- لا يحسد المنافقون على موقفهم المخزي إذ أنهم مفضوح أمرهم من قبل الله الذي لا تخفى عليه خافية، لذا قال الله تعالى مكذبا لهم: أُولئِكَ... يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ قال الزجّاج: معناه: قد علم الله أنهم منافقون. والفائدة لنا:
اعلموا أنهم منافقون.
٦- وسائل إمكان إصلاح المنافقين ثلاث:
أ- الإعراض عنهم وعن عقابهم وعن قبول اعتذارهم وعن تلقيهم بالبشاشة والتكريم.